نجدد كل أسبوع ذلك اللقاء الذي يجمع الناس في المسجد على حصير واحد ليعززوا وحدتهم و يستمعوا لعبارات تحيي الإيمان في قلوبهم و تجدد عزمهم و إقبالهم على العمل و مواصلة الطريق لأداء وظيفة المؤمن الصادق الذي يسعى في الأرض ليحقق وظيفة الإستخلاف التي خلق من أجلها.
يكفي أن يتحقق معنى خطبة الجمعة من هذا المنطلق ، يكفي ان يتذكر الخطيب أن يوم الجمعة يحمل الطابع المناسباتي الذي يتوجه فيه الجميع للمسجد و كل يحل في قلبه إيمانا فُطر عليه بمثابة رواسب تحركها الكلمات الصادقة و المعاني العميقة. القلب هو تلك المضغة الصالحة التي تتجلى و تتسخر يوم الجمعة في المسجد فإما أن تغادره طاهرة بشحنة روحية و إيمانية تمنحها القدرة على قضاء ما بين الجمعتين وإما ان تغادره بكلمات جافة أدركها العقل حتى أصبحت مجرد عبارات لا تتجاوز الملفوظ.
متى نغادر رقعة خطبة الجمعة التي و إن لم تحدثنا عن موضوع نواقض الوضوء حامت حوله؟ متى ندرك و نفقه معاني خطبة الجمعة التي أعمق بكثير مما يقال و يردد منذ سنوات؟
إذا أردنا الحديث عن خطبة الجمعة لا بد من لفتة تاريخية تحيلنا إلى دورها الحقيقي الذي تجلى في خطبة الوداع يوم كانت آخر كلمات توجه بها الرسول الأكرم عليه الصلاة و السلام إلى أصحابه، كلمات غيرت مسارا تاريخيا و صارت محل جدال على مر الزمان. جدير كذلك أن نلفت النظر إلى الخطاب الديني عموما خلال العهد الأموي و العباسي لعب دورا جوهريا في قلب موازين القوى من خلال بث وفرض سياسة تقوم اساسا على التناقضات المهذبية بما مهّد الطريق أمام الفتن و إلى تكريس الطبقية الإجتماعية فكان خطابا أساسه التفرقة على اساس الانتماء وشق صف الامّة بل و أصبحت منابرهم بؤرة للتحريض وإعلان الحروب. كلها دلائل تاريخية تحيلنا على أهمية خطبة الجمعة و الخطاب الديني عموما.
بناء على ما سبق نخلص إلى القول بأنه ثمّة مقاربة هامة من الممكن أن تكون هي منطلق التحليل وهي اتخاذ الثورات العربية مرجعا للمقارنة بين خطب الجمعة ما قبل الثورة وما بعدها، وهنا أجد نفسي أتجه لتقديم المثال التونسي الذي عايشنا تفاصيل مراحله عن كثب. فقبل ثورة 14 جانفي 2011 عمدت السلطة إلى إفراغ خطبة الجمعة من محتواها و الحياد بها عن دورها الأساسي من خلال المواضيع التي تطرح و الدعاء الذي لا يخلو من التمجيد و المدح للرئيس و هي في الحقيقة ما هي إلا ورقة تعمم على جميع المساجد والمؤسسات الدينية ككل، أما بعد الثورة وبعد انجلاء شبح الدكتاتورية وجدنا أنفسنا نتحدث عن رؤية جديدة تحيلنا على نظرة تحريرية لخطبة الجمعة و بالتالي خطاب ديني منطلق من الواقع وتحدياته ويرتقي بالمجتمع على جميع المستويات الإجتماعي ، الفكري، الثقافي.
إن المنطلق الاساسي لهذه النهضة هو ثورة فكرية تستنهض العقول لتعالج الأزمة الأخلاقية التي نعيشها و تحيي المبادئ و القيم فينا لنصبح نتحدث بالفعل عن إصلاح جذري و وعي اجتماعي. بيد أنه كان تصورا بعيدا عن الواقعية و نظرة تفتقد شيئا من الموضوعية و إرادة إصلاح حقيقية فوجدنا أنفسنا أمام خطب تقف عند الإبتذال و السخافة والخرافة قائمة على الترهيب لا الترغيب فلا ترشد الناس إلى سبل العمل الحقيقي والميداني المشترك بين المرأة والرجل على حد سواء في العمل الاجتماعي العام المؤثر في حركة الحياة والوطن تأثيرًا مباشرا بالغًا بما يدفع إلى المزيد من التقدم والرقي وملاحقة الركب الحضاري.
لقد وجدنا أنفسنا أمام فراغ فكري وروحي ملأه الخطاب التكفيري المتطرف الذي دفع الآلاف من الشباب التونسي نحو الإرهاب و بؤر التوتر. كانت هذه هي الضريبة التي دفعتها تونس لإهمالها الخطاب الديني، لهذا كان لزاما علينا أن نشير إلى أن أن الإصلاح يبدأ من التعبير عن رغبة وإرادة حقيقية في إحداث نقلة مضمونية في خطب الجمعة عن طريق معالجة منظومة تكوينية كاملة للأئمة الخطباء كذلك مراجعة البرامج الجامعية التي تدرس في كليات الشريعة، كلها خطوات إصلاحية في حاجة إلى رغبة سياسية و دفع اجتماعي.
ختاما لا بد من الإقدام على خطوة إصلاحية جريئة قادرة على إحداث ثورة فكرية و تغيير جذري داخل المجتمع و بالتالي دفع إصلاح منظومة اجتماعية بأسرها يتلوها ازدهار في جميع المجالات في علاقة مع المواطن و المجتمع حتى نصبح نتحدث عن نظرية تثوير الخطاب والفكر الديني عموما.