أهم عملة في العالم بدأت تعرض عضلاتها في الأيام الماضية بعد الفوز الساحق لترامب في الرئاسة إذ ارتفع الدولار ارتفاعًا مطردًا أمام جميع العملات الرئيسية في الأسابيع الثلاثة الماضية، علمًا أن هذا الارتفاع هو الأول من نوعه منذ 14 عامًا، ويقف الآن أعلى بنسبة 40% عن آخر انفخفاض له في العام 2011.
وارتفع الدولار أيضًا مقابل عملات الدول الناشئة كما في اليوان الصيني الذي هبط لأدنى مستوى له أمام الدولار منذ العام 2008 وكما يحصل أيضًا مع الليرة التركية التي هبطت هي الأخرى لأدنى مستوى لها في تاريخها على الإطلاق.
صعود الدولار يسبب ضوضاء عالمية
لم تكن كل هذه الضوضاء لتحصل لو أن عملة أخرى غير الدولار هي التي تشهد هذا الصعود، فالدولار له أهمية كبيرة في التجارة العالمية إذ يمثل عملة أكبر اقتصاديات العالم الولايات المتحدة وتربط العديد من دول العالم سعر صرف عملتها المحلية بالدولار أو بسلة عملات يكون وزن الدولار له النسبة الأكبر.
فضلًا أن الدولار يقوم بدور عملة الاحتياطي العالمي حيث تحتفظ البنوك المركزية في معظم دول العالم باحتياطيات كبيرة من الدولار لتلبية احتياجاتها من السلع والخدمات المستوردة من بلدان العالم المختلفة التي تقبل إتمام صفقاتها التجارية بالدولار نظرًا للقبول العالمي الذي يحظى فيه، وبذلك يستولي الدولار على ثلثي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم و 80% من مبادلات سعر الصرف الأجنبي، و 50% من صادرات العالم يتم دفع قيمتها بالدولار بما فيها البترول، أو ما بات يعرف باسم “البترودولار” إذ تسعر كافة دول منظمة الدول المصدرة للنفط التي تحوز على ثلث الإنتاج العالمي نفطها بالدولار فضلًا عن دول مستقلة أخرى.
وفي الجملة يصل حجم التداول بالدولار حول العالم حوالي 3 ترليونات دولار. وعليه فإن أي تذبذب واضطراب في سعر الدولار ينعكس على أسعار السلع والخدمات وبالتبع يؤثر على تقييم العملات الأخرى مقابل الدولار.
رفع أسعار الفائدة الأمريكية كما هو متوقع في الفترة المقبلة سيؤدي إلى قوة الدولار، وذلك سيؤثر بشكل إيجابي على الدولار أمام العملات الأخرى من جهة وتأثير سلبي على صافي الصادرات الأمريكية وبالتالي على الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من جهة أخرى بسبب ارتفاع قيمة البضائع الأمريكية مقابل البضائع الأخرى.
انعكاس قوة الدولار على اقتصادات العالم
الدولار مدعوم باقتصاد الولايات المتحدة القوي ذات الإنتاجية العالية والمسيطر على التجارة العالمية وعلى زيادة الصادرات والنافذ للأسواق الخارجية، وشراكات تجارية مع تكتلات اقتصادية كبيرة حول العالم، وبالإضافة إلى السجل الممتد تاريخيًا لانضباط السلطات النقدية في الولايات المتحدة في مكافحة التضخم وهذا عزز من مكانة الدولار كعملة يساهم الارتباط بها في الحد من الضغوط التضخمية المستوردة.
قوة عملة أي بلد يمكن تحديدها بإيجاز من خلال جملة من العوامل؛ هي المستوى العام للأسعار والاحتياطي النقدي وسعر الصرف ووضع البلد الاقتصادي والمالي وبناءًا على قياس هذه العوامل يمكن القول أن عملة أقوى من عملة أخرى بمعنى إمكانية الشراء بالعملة القوية وحدات أكثر من العملة الأخرى، وهو ما يعرف بالقوة الشرائية للعملة.
يستولي الدولار على ثلثي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم و 80% من مبادلات سعر الصرف الأجنبي، و 50% من صادرات العالم يتم دفع قيمتها بالدولار بما فيها البترول
يمتد تأثيرات الدولار المنخفض أو المرتفع إلى اقتصادات دول العالم المتقدم المنتجة لسلع وخدمات مطلوبة، فالدول المتقدمة كأوروبا واليابان، فالنمو الاقتصادي فيها يعتمد بشكل كلي على الطلب الخارجي، فارتفاع قيمة الدولار سيضر بدول ويفيد دول أخرى من ناحية الصادرات ففي الوقت الذي تنخفض فيه الصادرات الأمريكية بسبب ارتفاع أسعار البضائع، ستسفيد دول منتجة أخرى من حيث أن بضائعها تصبح أكثر تنافسية في السعر.
أما الدول ذات الاقتصادات الناشئة كتركيا والدول العربية ودول البريكس التي تعتمد على الاستيراد بشكل كبير، فإن أثر الدولار المرتفع سيؤلم اقتصادات تلك الدول من حيث نزوح أو خروج كثيف لرأس المالي الأجنبي إلى الولايات المتحدة بغرض الاستثمار في الأسهم والعقارات وسندات الخزينة التي أصبحت جذابة، لأنها تعطي فائدة أعلى من الفائدة التي تعطيها اقتصادات الدول الناشئة، وهذه الخطوة من شأنها أن تضغط على النمو في تلك الدول.
والاقتصاد التركي أحد الاقتصادات التي يعتمد معدل النمو فيها من تمويل للميزانية وإقامة مشاريع واستثمارات مختلفة على المستثمر الأجنبي الذي دخل في استثمارات مختلفة في البلد من شراء لأسهم وسندات وسندات خزينة وأمور أخرى، أدت لارتفاع معدلات النمو بشكل ملحوظ خلال الأعوام الماضية.
وفي حال انسحاب تلك الاستثمارات (الأجنبية) وتدفقات رأس المال الأجنبي عند تحسن الدولار وبدء ارتفاع سعر الفائدة في الولايات المتحدة، فإن معدلات النمو ستتأثر سلبًا وتضطر الدولة ذات الاقتصاد الناشئ لإيجاد بدائل أخرى لتمويل عجز ميزانيتها المالية ومشاريعها المختلفة، وسيكون اقتراضها من الخارج أعلى ثمنًا مع ارتفاع الدولار، خصوصًا أنها دول مستوردة لسلع وخدمات وتحتاج للدولار بغرض سداد قيمة وارداتها بالعملة الصعبة.
أما الدول العربية فإن أغلبها تمول ميزانياتها ومشاريعها من إيرادات النفط والغاز الطبيعي كما هو حاصل مع الدول الخليجية حيث تعتمد على إيرادات النفط المقومة بالدولار (بترودولار) بنسبة تتراوح بين 70 – 90% وقد استطاعت جني احتياطيات ضخمة في السنوات الماضية بفضل ارتفاع سعر النفط، وقد عمدت إلى تمويل ميزانياتها من خلال إيرادات النفط، وقد تأثرت بشكل كبير عندما هبطت الأسعار وتكبدت عجز مالي في الميزانية فلجأت للاقتراض من الخارج.
ومن جهة أخرى فإن أغلب عملات الدول العربية ترتبط بالدولار بشكل رئيسي وهذا يعرضها للضغط مع ارتفاع قيمة الدولار فأي هبوط للدولار أو ارتفاع في قيمته سيترتب عليه إجراء مماثل في سعر عملاتها، وستكون السلع غير الأمريكية غالية السعر بالنسبة لها مما ينعكس على ارتفاع أسعار السلع المستوردة بالنسبة لهذه الدول.