رغم أن فكرة الذاتية تخضع لمناقشات فلسفية غير حاسمة، إلا أنها ترتبط بصورة عامة بفكرة الانتماء والذي يعبر عنها مفهوم المتغيرات القيمية، ومثلما تجد إشكالية الموضوعية والذاتية لها موقع في فهم السلوك الاجتماعي فإنها تجد لها – عطفًا على ذلك – موقعًا في دراسة السلوك السياسي ببعديه الداخلي والخارجي، والمتغيرات القيمية المعرفة لإشكالية الذاتية نوعان، أما الأول فهو ما يسمى بالثوابت القيمية وهي مجموعة من المحددات العقائدية والفكرية التي تفرض وجودها بالشكل الذي يحتم مراعاتها بالنسبة لأي فرد ينتمي لمجتمع معين، أما النوع الثاني فهو ما يسمى بالقيم المستجدة وهي مجموعة القيم التي تستجد من مصدر ذاتي أو خارجي وقد تحاكي الثوابت القيمية وقد لا تحاكيها.
وهذه المتغيرات القيمية في مجملها لها دور في صنع التصور المستقبلي للسياسية الخارجية للدول من حيث تفعيل البعد الإيجابي للتفكير الرغبوي والذي يعتبر أحد أنماط التفكير المرتبطة باستشراف المستقبل وهو يتضمن بعدين أساسيين أما البعد السلبي فهو المتعلق بالوقوع في إشكالية المطابقة بين الأوضاع المستقبلية المحتملة وبين الرغبات الشخصية، أما البعد الثاني فهو البعد الإيجابي والذي يتعلق بطرح صورة مستقبلية مرغوبة والعمل على تحقيقها في المستقبل، وتلعب المتغيرات القيمية المعبرة عن فكرة الذاتية دورًا كبيرًا في تفعيل البعد الإيجابي للتفكير الرغبوي لا من حيث بناء الصورة المستقبلية المرغوبة ولا من حيث طرح الاستراتجيات المناسبة لتحقيق تلك الصورة.
أزياء حرس القصر يمثل العمق التاريخي والانتماء الحضاري لتركيا
ومن المهم في هذا السياق أن نتوقف عند النموذج التركي، ففي سنة 2002 طرح حزب العدالة والتنمية الذي وصل لتوه لموقع السلطة رؤية استشرافية للدولة تركية تتضمن في إحدى جزئياتها تحويل تركيا إلى دولة إقليمية رائدة، ولعبت المتغيرات القيمية للمجتمع التركي دورًا بارزًا في بناء وتنفيذ هذه الصورة المرغوبة للسياسة الخارجية التركية، حيث أعطيت الأولوية للمحددات الذاتية في تحقيق هذا الهدف من خلال طرح ثلاث نظريات استراتيجية تستند بشكل كبير على تلك المحددات.
أما النظرية الأولى فهي نظرية التحول الحضاري والتي ترى أن ما يحدث في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة ليس صدامًا للحضارات كما يقول هنتنغتون وليس نهاية للتاريخ كما يرى فوكوياما، ولكنه تحول حضاري تعيد كل دولة من الدول في سياقه إعادة اكتشاف انتمائها الحضاري المناسب، ومكانة الدول أصبحت مرتبطة بهذا الانتماء وبالتالي فإن السياسة الخارجية التركية يجب أن تصنع ارتبطًا بالانتماء الحضاري الإسلامي.
أما النظرية الثانية فهي نظرية العمق الاستراتيجي وهي ترى ارتباط بالنظرية الأولى أن المجال الحيوي الأساسي للسياسة الخارجية يجب أن يتضمن أكبر عدد من الدول التي تشترك مع تركيا في انتمائها الحضاري الإسلامي وبذلك يكون النظام الإقليمي الشرق أوسطي هو المجال الحيوي والعمق الاستراتيجي للسياسة الخارجية التركية.
في حين ترى النظرية الثالثة والموسومة بالعثمانية الجديدة أن أحد أبرز الأسباب لتراجع السياسة الخارجية التركية مرتبطة بالقطيعة مع تاريخ الإمبراطورية العثمانية لذا من الضروري إعادة إحياء إرث الإمبراطورية العثمانية في السياسة الخارجية التركية، ليس من خلال تكريس النزعة التوسعية في هذه السياسية ولكن من خلال استذكار أن الإمبراطورية العثمانية كانت إمبراطورية متعددة الثقافات، وبالتالي يجب على السياسة الخارجية التركية أن تحترم وتستوعب كل الثقافات القومية، وكذلك استنباط الكبرياء والعظمة للإمبراطورية العثمانية وبالتالي ضرورة التصرف في السياسة الخارجية من منطلق صورة الذاتية القوية والدول التي تتصرف من منطلق هذه الصورة تكون ردود أفعالها جد قوية ومندفعة تجاه ما تتعرض له من مواقف.
وبصورة عامة لعبت المحددات الذاتية دورًا كبيرًا في توجيه السياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، ولكن التقييم الواقعي يشير إلى أن إعطاء الأولوية لتلك المحددات في صنع السياسة الخارجية التركية ترتبت عليه مجموعة من التحديات الكبرى للسياسة الخارجية التركية.
فمن جهة وضعت تركيا نفسها في قلب التنافس الاستراتيجي بين ثلاث من القوى العظمى العالمية: الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، ومن جهة ثانية وجهت تركيا اهتمامها الأساسي إلى النظام الشرق أوسطي والذي يعرف تنافسًا حادًا على القيادة الإقليمية بين مجموعة من القوى، يضاف إلى ذلك أن هذا التوجه أعاد إحياء سياسات الهوية المهددة للأمن القومي التركي وخاصة ما يتعلق بتفاعلات القضية الكردية، بالإضافة إلى الارتباط بحالة عدم الاستقرار المزمنة التي يعرفها النظام الإقليمي الشرق أوسطي.
من الواضح أن إعطاء الأولوية للمحددات الذاتية أفرز تحديات كبرى على السياسة الخارجية التركية ومن الواضح أن القيادة التركية الحالية تلمست بشكل عملي هذه التحديات بدليل بداية تغير السلوك التركي، ويبقى التساؤل الأهم هل هذا التغير في السلوك يعبر عن تطرف في الاستناد إلى المحددات الذاتية أم هو إعادة قراءة موضوعية للواقع؟
أما الجزئية الأولى فتبررها العديد من المؤشرات يأتي في أولها ازدياد حدة الخطاب تجاه النظام الرسمي الأوروبي بالشكل الذي يذكر بالصراعات التاريخية المستديمة بين الإمبراطورية العثمانية والإمبراطوريات الأوربية، يضاف إلى ذلك ممارسة سياسات التدخل المباشر في مجموعة من الدول في منطقة الشرق الأوسط دون ربط ذلك بأهداف واضحة بالشكل الذي يذكر بالنزعة التوسعية للإمبراطورية العثمانية، وما يعزز من وجهة النظر هذه بداية تبني القيادة التركية للخطاب باسم العالم الإسلامي وليس فقط الأمة التركية.
إن ذات المؤشرات وغيرها يمكن اعتبارها دليل على إعادة قراءة موضوعية للواقع الدولي، فالخطاب الحاد تجاه النظام الرسمي الأوروبي يعكس بداية الإحساس بالتحولات التي يعرفها النظام الدولي من خلال الصعود الروسي المعادي للتوجه الغربي، كما أن سياسات التدخل المباشر تعكس القراءة الموضوعية لواقع التهديدات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط والذي يستوجب التعامل معه باستراتجية استباقية، يضاف إلى ذلك إعادة تنظيم العلاقات مع القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة ومنها تحديدًا إيران وإسرائيل.
وبالمحصلة فإن السياسة الخارجية التي يتبناها أردوغان في الوقت الراهن هي محطة انعطاف للسياسة الخارجية التركية التي تم تكريسها منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة بالشكل الذي يظهرها من جهة على أنها تطرف في الاستناد إلى المحددات الذاتية ومن جهة أخرى على أنها إعادة قراءة موضوعية للواقع.