ليس سِرًا أن نقول إن اقتصادات الدول الناشئة – ومنها الاقتصاد التركي – تواجه تحديات صعبة ومعقدة، ومن الممكن أن تؤدي إلى عرقلة عملية التنمية، حيث خسر المواطنون الأتراك منذ ست سنوات حتى الآن أكثر من نصف ثروتهم مع انخفاض الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية ووصولها إلى مستويات قياسية نتيجة عوامل داخلية وخارجية، وبمعنى أدق، بسبب الظروف الداخلية والإقليمية من جهة ومشاكل تخص الاقتصاد العالمي من جهة أخرى.
والحال هذه لا يمكن لمتتبع أن يتجاهل الهزات العنيفة التي تشهدها عملات الاقتصادات الناشئة كالبرازيل وتركيا وروسيا وغيرها، ولا يمكن له أيضًا أن يغفل تلك الآثار المترتبة على بوادر انتعاش أسعار النفط، بعد اتفاق أوبك الأخير بشأن خفض مستويات الإنتاج، مما يعني أن الاقتصاد التركي – كما غيره – سيعاني بسبب ارتفاع فاتورة الطاقة، حيث صمد الاقتصاد التركي نتيجة انهيار أسعار النفط عالميًا خلال الفترة الماضية.
لم يكن هذا “الانكشاف” في الاقتصادات الناشئة خافيًا على أحد، فالجميع يعلم أنه سيكون لتخفيض التصنيف الائتماني لتركيا أثرًا بالغًا في رفع كلفة الديون وجاذبية الاستثمار، إلا أن فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب عجل استحقاق العديد من القضايا، الأمر الذي انعكس على الاقتصادات الناشئة بشكل خاص.
للأسف إن تصريح الرئيس التركي الأخير وحثه مواطنيه – من لديهم قطع أجنبي – أن يحولوه إلى الذهب أو الليرة التركية سيُلهب سوق صرف الليرة التركية، لأن تدخل السلطة التنفيذية في جوانب السياسة النقدية التي يمارسها البنك المركزي – بهذه الطريقة الشعبوية – سيزيد الطين بله، هذه سياسة غالبًا ما يلجأ إليها حكام الدول النامية لا المتقدمة.
يعتبر رفع أسعار الفائدة الأمريكية جزءًا وازنًا من برنامج ترامب الانتخابي، هذا الأمر أثر في حركة الأسواق والعملات – قبل قرار رفعها -، حيث ستصبح الأصول المقومة بالعملة الأمريكية مع ارتفاع أسعار الفائدة أكثر جاذبية للمستثمرين في أنحاء العالم مما يؤدي عادة إلى ارتفاع قيمة الدولار على حساب العملات الأخرى، إذ إن اختلاف نسبة الفائدة يؤدي إلى خروج تدفقات رأسمالية كبيرة من الاقتصادات الناشئة طمعًا في عائد أفضل في الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن أعباء الديون الدولارية، ولا ننسى أن خطة ترامب لتطوير البنية التحتية ستؤثر في هذه الاقتصادات لأنها ستزيد الطلب على المواد كالحديد والأسمنت وغيرها، هذا الأمر سيؤثر في “جدولة” مشاريع البنية التحتية التركية.
قد يقول قائل سيكون لتدهور الليرة التركية أعراض إيجابية، كتنشيط السياحة على المدى الآني أو المتوسط، إلا أننا نرى أن هذا الأمر يتوقف على ضمان عدم وجود هزات سياسية مستقبلية مع ضرورة ضبط إيقاع العوامل الداخلية الحالية.
قد يقول آخر إن تدهور الليرة التركية سيعزز بعض المزايا التنافسية للصادرات التركية في الأسواق الدولية، نعم هذا صحيح، لكن تحتاج تركيا إلى فتح أسواق جديدة، فالعلاقات الاقتصادية التركية تمر بمرحلة حرجة مع الاتحاد الأوروبي، وعليه إن البندين أعلاه (تنشيط السياحة والصادرات) لا قيمة لهما ما لم يكن هناك استقرار داخلي وخارجي مُستدام مع ضرورة تحسن ظروف الاقتصاد العالمي، وهذه عوامل لا يمكن لتركيا ضبطها بمفردها.