ترجمة وتحرير نون بوست
إن تراجع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عن الترشح لولاية ثانية، يعتبر الأول من نوعه في تاريخ فرنسا وتاريخ الرؤساء في العالم، حيث إنه قلب كل الموازين والقواعد المعهودة.
وقد أعرب الرئيس الفرنسي خلال الخطاب الذي ألقاه ليلة الخميس، الذي دام عشرة دقائق، عن عدم خوضه السباق الرئاسي القادم إلى الإليزيه لسنة 2017، مشيرًا إلى أن كل مظاهر السلطة وبذخها والقيود المفروضة عليها لم تُثنه عن اتخاذ هذا القرار.
هل تدل تصريحات الرئاسية الأخيرة على فشل هذا الرئيس الاشتراكي، الذي انتُخب في سنة 2012؟
نعم، إن هذا القرار الذي اتخذه هولاند يدل على فشله، بعد استطلاعات الرأي الذي أثبتت تراجع شعبيته لدى الشعب الفرنسي، كما أن الانتخابات التمهيدية التي سيعقدها اليسار الفرنسي ما بين 22 و29 من يناير/ كانون الثاني، لن تكون فقط مجرد إهانة شخصية للرئاسة الفرنسية، بل لمؤسسات الإليزيه ككل.
وسيُعتبر هذا الانسحاب كفشل لذلك الرجل الذي أحدث مفاجأة عندما فاز على نيكولا ساركوزي منذ خمس سنوات، وهو فشل سيُضاف إلى سجل رئيس انتهت فترة ولايته، وكان دائمًا محاصرًا من قبل معسكره.
وقد دام هذا الفشل خمس سنوات، نظرًا لكل مؤشرات الميزانية العمومية الفرنسية التي تراجعت طيلة فترة حكمه؛ وذلك على عكس ما أشار إليه ليلة أمس في خطابه، فعلى سبيل المثال، لم تنخفض معدلات البطالة في فرنسا، كما أن النمو الاقتصادي الذي بلغ نحو 1.4%، لم يكن كافيًا لخلق المزيد من فرص العمل.
فضلاً عن أن الزيادات الضريبية التي تلت فترة توليه الحكم، أرهقت كاهل فئتين في المجتمع وهما المواطن الفرنسي العادي، ورجال الأعمال، الذين كانوا يشتكون دائمًا من سياسات تضييق الخناق التي تنتهجها السلطات الفرنسية ضدّهم.
ومن الممكن أن يتخذ هذا الملف منعطفًا أكثر إيجابية في الأسابيع المقبلة، لكن في الوقت الراهن ليست هناك بوادر تنبئ ببداية انفراج هذه الوضعية.
هل ستتغير طبيعة السياسة الفرنسية؟
مرة أخرى، الإجابة هي نعم عن هذا السؤال، وسيبدأ هذا التغيير من المؤسسات الفرنسية، هذا التصريح لم يسبق له مثيل لرئيس اكتفى بفترة رئاسية واحدة، ويبدو أن الرئيس الفرنسي قد ناقش هذا القرار في أثناء تناوله لوجبة الغداء مع رئيس الوزراء مانويل فالس، يوم الإثنين الفارط، ويمكن القول إن الجمهورية الفرنسية الخامسة التي وُضعت قيد التنفيذ منذ سنة 1958، تشهد ثورة في هذه الحقبة من التاريخ.
وقد أدى هذا القرار الثوري إلى انتصار النظام المؤسسي، حيث أن الانتخابات التمهيدية لتسمية مرشحي الحكومة السياسية في الانتخابات الرئاسية ستحدث عن طريق إجراء اقتراع عام، ففي سنة 2011، أدى نجاح الحزب الاشتراكي إلى وصول فرانسوا هولاند إلى سدة الحكم الفرنسي، أما في 27 من سبتمبر/ أيلول، شهدنا دعمًا غير مسبوق لتوجهات المرشح الرئاسي فرانسوا فيون، وأما في هذه الليلة، سيتم تحديد قائمة المترشحين للانتخابات التمهيدية، التي ستعقد في 15 ديسمبر/ كانون الأول، ومن المحتمل أن تهبّ رياح الديمقراطية من جديد على فرنسا.
ومن سيحكم البلاد حتى مايو/ أيار سنة 2017؟
سوف تُعقد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 23 من أبريل/ نيسان2017، أما الجولة الثانية فستكون في 7 من مايو/ أيار، وسيتم نقل السلطة بين الرئيس وخليفته يوم 15 من مايو/ أيار، وبالتالي سيبقى فرانسوا هولاند في مكتبه حتى هذا التاريخ، وذلك وفقًا لما ذكره في خطابه ليلة الخميس.
ولكن لن يتغير الوضع بسرعة وذلك إذا قدّم رئيس الوزراء مانويل فالس، استقالته من أجل الشروع في حملة الانتخابات التمهيدية الصعبة، نظرًا لأنه لم يحظ سوى بـ6% من الأصوات في انتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي التي عُقدت سنة 2011، ومن المرجح أن يحلّ وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف أو وزير الدفاع، جان إيف لودريان محلّه.
ولكن إذا طرحنا السؤال، هل يجب أن نقلق؟ فالإجابة هي نعم، خاصة إذا واجهت فرنسا مرة أخرى هجمات إرهابية جديدة أو أزمة دولية كبيرة، كما ستحمي المؤسسات الفرنسية صلاحيات رئيس الدولة الفرنسية فرانسوا هولاند، الذي اعترف بهزيمته، ولكنه ما زال يواجه خطر رؤية الانتهاكات الموجهة له من جميع المرشحين، الذين ينتمون إلى الأغلبية والمعارضة.
هل انتهت الحياة السياسية لفرانسوا هولاند؟
أكد الرئيس الفرنسي هزيمته في نهاية فترة ولايته الأولى، من خلال تصريحاته، وبالتالي فقد انتهت حياته السياسية، وفي كتاب “لا ينبغي أن يقول الرئيس هذا” رفض فرانسوا هولاند فكرة وجود تدخل أوروبي أو دولي، كما قال في إحدى محاضراته الموجهة مباشرة إلى سلفه نيكولا ساركوزي، بعد هزيمته في عام 2012: “لا ينبغي مطاردة السلطة”.
ومن المحتمل جدًا، أن فرانسوا هولاند ذلك الزعيم الذي ترأس الحزب الاشتراكي منذ وقت طويل والذي يتمتّع بحنكة سياسية منقطعة النظير، أن يدافع في الوقت الراهن عن سجله السياسي.
فرانسوا هولاند الذي كان يدعي أنه شجاع، حتى إنه ذكر ذلك يوم أمس، يريد الآن أن يُظهر أنه قد بذل قصارى جهده خلال فترة ولايته من أجل تحسين الأوضاع، كما أنهه سيقاتل ضد أي شخص في معسكره، يريد أن يكبّده الهزيمة الرئاسية المقبلة التي من المحتمل أن تحدق باليسار الفرنسي، كما سيحاول هولاند أن يطوي هذه الصفحة من حياته، لكن معركته سوف تستمر من خلال مشاركته في منتديات رؤساء الدول السابقين، التي تُنظمها منظمة الأمم المتحدة بصفة منتظمة.
من في اليسار الفرنسي سيستطيع الخروج من تحت أنقاض السنوات الخمسة التي خلت؟
هذا هو التحدي الذي عليهم أن يواجهوه في الأشهر المقبلة، دافع كل من مانويل فاليس وإيمانويل ماكرون، (الذي يرفض أن ينظم لليسار) على فكرة إنشاء حكومة يسارية، تتصالح مع السوق والأعمال التجارية وقيود العولمة، إن هذا اليسار هو وريث الديمقراطية الاجتماعية التي لم يطبقها إلا عضو الحزب الاشتراكي الفرنسي ميشال روكار، لكن منذ سنتين، أصبحت أصابع الاتهام موجهة إليها، فهل سيستمر هذا للخمس سنوات المقبلة؟
لكن الجدير بالذكر، أن الديمقراطية الاجتماعية في حالة سيئة في جميع أنحاء أوروبا وليس فقط في فرنسا، وهو ما جعل الطبقات الوسطى والعاملة يشعرون بالخوف من أن يتم التضحية بهم، خاصة في ظل القدرة التنافسية والإنتاجية المحدودة، ونحن على دراية كاملة بما حصل للمستشار، جيرارد شرودر في ألمانيا سنة 2005، عندما خسر أمام المستشارة الحالية أنجيلا ميركل بفارق ضئيل.
وعلى عكس ذلك، ينوي اليسار الفرنسي العودة مرة أخرى إلى ساحة المعركة والتنافس من أجل تحقيق الفوز حيث يُعدّ يسارًا تقليديًا، معارضًا، يدعم المكاسب الاجتماعية، ومقتنع تمام الاقتناع بأن سياسة الحماية هي الحل الأنسب، وأن على السلطة ترحيل الشركات، وإن لزم الأمر من خلال التأميم.
هذا اليسار هو اليسار الذي اعتمده الوزير السابق، أرنو مونتيبيغ وخاصة المرشح عن اليسار المتشدد، جان لوك ميلينيشون، ومن هناك بدأ الصراع بينهما، الذي سيكون لصالح كل من رئيس الوزراء السابق، فرنسوا فيون ورئيسة الجبهة الوطنية، مارين لوبان.
في الوقت الراهن، ونظرًا لكل هذه الأوضاع فإنه من غير الواضح إن كان المرشح اليساري القادم سيتأهل للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، فالخمس سنوات التي قضاها فرانسوا هولاند في الحكم، كانت في البداية لصالح “الأغنياء” وانتهت بإشادته “بالشركات” وهو ما عكّر الأوضاع، وبحرمان المؤلفين من الجنسية، والتواطؤ مع الإرهاب، في المقابل، لم يُعرب الرئيس المنتهية ولايته إلا عن شديد أسفه.
لكن علينا دائمًا أن نتذكر أنه في سنة 1995، تخلى رئيس المفوضية الأوروبية جاك ديلور، عن الترشح للانتخابات الرئاسية خوفًا من ألا يفوز بالأغلبية، إن اليسار الفرنسي يكاد يكون ساحة للقتال السياسي، ومع برنامجه الاجتماعي والاقتصادي، فإنه لن يصمد في وجه المنافسة الدولية.
هل ستتخذ الحملة الرئاسية لسنة 2017 منحى جديدًا؟
الرئيس الوحيد للجمهورية الفرنسية الذي لم يتمكن من الوجود حتى نهاية فترة ولايته الأولى كان جورج بومبيدو، الذي توفي سنة 1974 قبل نهاية فترة ولايته، وتجدر الإشارة إلى أن انسحاب فرانسوا هولاند يعتبر شكلاً من أشكال الموت السياسي في أداء الوظيفة العليا، الذي ستستفيد منه فقط المعارضة اليمينية.
حتى الآن المرشحيْن الرئيسييْن اليمنيين للدخول إلى قصر الاليزيه لسنة 2017، اللذين يحظيان بفرصة أكبر للوصول إلى كرسي رئاسة فرنسا، هما مرشح حزب “الجمهوريين” فرانسوا فيون، الذي يتمتع بدعم سياسي كبير، ورئيسة الجبهة الوطنية مارين لوبان، التي تعتزم الاستفادة من “رياح” الشعبوية، التي تهب، في الوقت الحالي، على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد دعا فرانسوا هولاند في خطابه “كل التقدميين”، مشيرًا بذلك إلى وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون إلى اتخاذ موقف الحياد بعيدًا عن هذه الصراعات الحزبية، وعلى الرغم من ذلك، فإنه يبدو أن ميزان القوى يميل في وقت الحالي لصالح اليمين الفرنسي، الذي يرى انسحاب هولاند بمثابة اعتراف ضمني بالفوضى الذي تعيشها الأحزاب اليسارية.
لماذا لم تقبلْ وسائل الإعلام الفرنسية هذا القرار؟
علينا أن نتذكر موقف استطلاعات الرأي ووسائل الإعلام من ترشح اليميني فرانسوا فيون، حيث إنه لم يتوقع أحد وصول الرجل الثالث في اليمين إلى الانتخابات التمهيدية الفرنسية، كما أنه لم يتوقع أحد أن يقوم فرانسوا هولاند بالتخلي عن حقه في الحصول على فترة ولاية ثانية، لأن السياسة هي مثل المخدرات “الصلبة”، التي تتغلغل في جسم السياسي منذ اليوم الأول من توليه الحقيبة الوزارية.
ولكن هذه القراءة السياسية أهملت جانبين مهمين وهما العقل والتعب، فالعقل يفرض على فرانسوا هولاند التخلي عن ترشحه لأنه ربما كان سيتسبب في إلحاق الضرر بمعسكره السياسي، وذلك حسب ما اعترف به في خطابه، أما التعب، فيمكننا وضعه جانبًا حاليًا، في المقابل، قد يكون فرانسوا هولاند تيقن أنه لم يعد يحظى بدعم رئيس وزرائه مانويل فالس، وفهم أن كتاب الاعترافات الذي فتحه مؤخرًا سيتسبب في خلق فجوة بينه وبين مؤيديه وأصدقائه.
لكن ذلك يدل على أن فرانسوا يتمتع بجانب وطني وإنساني في شخصيته، مكّنه من فهم طبيعة الظروف الصعبة التي تعيشها فرنسا في الوقت الحالي، كما أن ما فعله يُعدّ دليلاً على أن البرج العاجي لقصر الإليزيه لم يعد حصنًا منيعًا بما فيه الكفاية، في ظل هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي.
المصدر: صحيفة لوتون