حروب مشتعلة هنا وأخرى هناك، اكتوت الأمة العربية بنارها، وألحقت بها دمارًا هائلًا، لم يكن أحدٌ منِّا يتخيله أو يتصور أننا سنشهد حروبًا لها مآل بشع وكارثي كهذا.
عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من الجرحى وكم هائل من اليتامى والثكالى والمشردين، بُنى تحتية دُمِّرت واقتصاديات انهارت ووضع إنساني مأساوي بكل مدلولات المأساة.
كل هذا ولا زلنا نقايض هذه الفاتورة الباهظة بعدم الاكتراث واللامبالاة، ولربما استهوينا مزيدًا من الدمار وتشظيًا إضافيًا وانقسامًا أكبر.
لا يهمنا كلفة ذلك، لا يهمنا طالما نحن نعتقد أن الحرب أداة فعالة تمكنا من إلغاء الآخر واجتثاثه من الجذور ومحو فكره من صفحة التاريخ، وبالتالي سيصفو لنا الجو ويخلو المكان إلا منَّا، وإذا لم نفعل ذلك، سيُفْعَل بنا ذلك، والضعفاء ليسوا جديرين بالبقاء، فالبقاء للأقوى!
تلك بعضٌ من معتقداتنا ومبرراتنا الركيكة الخابئة في نفوسنا المسكونة بالغطرسة والأنانية، مبررات نستجلبها من مكمنها مع كل صراع نخوضه، وإذا ما استجدت حالة لا تنسحب عليها تلك المبررات الكامنة، اختلقنا مبررات تتماشى مع الحالة تلك.
هذا المنطق البغيض من المفاعيل الرئيسية لصراعاتنا وسبب من أسباب نكستنا وتقهقرنا وهو لا يختلف كثيرًا عن منطق “الحرب من أجل السلام”.
تخيل أن أحدهم يحاول إطفاء نار بإشعال نار على مقربةٍ منها، هل تنطفئ النار أم أن حجم اللهب يزداد؟ بالتأكيد يزداد، ولا أظن أن لك رأي على الضد من ذلك.
في الوقت الذي يدرك فيه مسعرو الحروب هذه المسلَّمة، يغيب عن أذهانهم أن إشعال الحروب لن يصنع سلامًا، بل العكس، لن تصنع الحرب إلا دمارًا وأكوامًا من جثث القتلى، وبفعلها ستزداد الأحقاد وتتعاظم نزعات الانتقام، كرد فعل طبيعي إزاء آلام ومعاناة الحرب، ردود فعل ينتج عنها ردود فعل، وهكذا دواليك، يستمر السير في دائرة الفعل ورد الفعل بشكل متسلسل ولا نهائي، وفي كل مرة تكون نزعة الانتقام أكبر من سابقتها.
وما تشهده بعض البلدان العربية من اقتتال وصراعات ربما يبرهن إلى حدٍ ما، على صحة ما قلناه، إذ على امتداد الفترة الزمنية للاحتراب، لم يتمكن أي من أطراف الصراع من حسم المعركة لصالحه، على الرغم من وجود تباينات واضحة سواء كانت على مستوى التدريب وحجم القوة العسكرية أو على مستوى الدعم المالي واللوجستي الذي يتلقاه، ولم يستطع أي طرف أن يفرض خياراته بعامل القوة، بحيث يضع حدًا للاضطراب الحاصل، ويوجد أرضية صلبة يبتني عليها سلام حقيقي ومستقر، لم يحدث أي من هذا.
لا نظفر بسلام إلا إذا أتيناه من مسالكه الحقيقية، بأن نؤمن أولًا بضرورة العيش المشترك في إطار جمعي، مؤمنين بواحدية مصيرنا، وأن نسلِّم بفكرة “الإنسانية” التي تذوب فيها كل اختلافاتنا وتبايناتنا، وأن نجعل من الحوار وسيلةً وأداةً تُحل بها مشاكلنا، وإذا ما آمنا وأخذنا بذلك فإننا نكون قد مهدنا لسلام مستقر، وبنينا أرضية صلبة نتموضع عليها مطمئنين.
وإذا ما رفضنا ذلك، وارتمينا في أحضان العنف، وآمنا بالقوة كحل حاسم، فلن يكون هذا إلا استزراعًا لخلافات وصراعات مضافة واستجلابًا لمآسٍ رهيبة.
أن نؤمن بأن السلام يولد من رحم الحرب، فأهلًا بضياعٍ انتظرناه على حافة العدم!