تعتزم الحكومة المصرية طرح سندات سيادية، تتراوح قيمتها بين 6.5 و8.5 مليار دولار، في غضون العام 2017م، المقبل، بمعدل 2.5 مليار في يناير المقبل، وما بين 4 إلى 6 مليارات دولار بحلول نهاية العام.
وتأتي هذه الخطوة ضمن سلسلة طويلة من حالات الاقتراض التي لجأت إليها الحكومة المصرية في العامَيْن الأخيرَيْن، لتمويل عجز الموازنة، ودفع فاتورة الدعم، وإسناد الاحتياطي النقدي الاستراتيجي المتداعي، بفعل ستة سنوات من الاضطرابات السياسية والأمنية، تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م.
ولا يمكن بالضبط معرفة رقم الديون الخارجية المستحقة على مصر، وهي الأهم؛ حيث إنه على سبيل المثال؛ لا تتضمن أرقام البنك المركزي المصري في هذا الصدد، الودائع الدولارية من الدول “الصديقة” في البنك المركزي، أو فوائد الديون المركبة.
الأزمات المعيشية تضرب المجتمع المصري في ظل عجز الاقتصاد عن توليد استثمارات وفرص عمل
ولكن آخر رقم رسمي معلن في هذا الصدد، يكشف أن حجم الدين الخارجى لمصر، بحسب آخر بيانات للبنك المركزي، في نهاية يونيو 2016م، قد وصل إلى مستوى 55.8 مليار دولار بنهاية العام المالي الماضي، 2015/2016م، ارتفاعًا من نحو 36.5 مليار دولار، في عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، كانت غالبيتها مغطاة بالاحتياطي النقدي الأجنبي الذي كان يقترب من هذا الرقم، بفارق حوالي 4 مليارات دولار.
ولا يشمل هذا الرقم الكبير قروضًا أخرى حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، ومؤسسات تمويل أخرى، بعد هذا التاريخ، من بينها قرض الصندوق الشهير بقيمة إجمالية، 12 مليار دولار، وصل منها بالفعل مبلغ 2.75 مليار، شريحةً أولى، في نوفمبر، بعد قرارات تعويم الجنيه ورفع الدعم جزئيًّا عن الوقود، أو الوديعة السعودية الجديدة، بقيمة مليارَيْ دولار، وصلت في سبتمبر الماضي، قبل تأزُّم العلاقات بين البلدَيْن.
كذلك لا يشمل هذا الرقم، قيمة السندات السيادية الدولارية التي تنوي مصر طرحها في العام 2017م، بقيمها كما تقدم.
كما لا يشمل هذا الرقم القرض الذي تضمنته الاتفاقية الموقعة بين مصر وروسيا لإنشاء محطة طاقة نووية؛ حيث يبلغ هذا وحده ٢٥ مليار دولار، وهو أكبر قرض خارجي في تاريخ مصر، وربما في تاريخ العالم، وهو بذلك يساوي وحده نصف المديونية الخارجية المصرية.
السندات والديون المصرية.. حالة خاصة من الفوائد!
بدايةً، السند هو ببساطة غير مُخِلَّة، عبارة عن صك دَيْن تلتزم بموجبه الدولة بسداد المبلغ الذي تستدينه بقيمة هذا السند، والفوائد المركبة عليه، في مجال زمني معين، قد يكون 90 يومًا، وقد يكون عشر سنوات، بحسب خطة السداد الموضوعة.
وهناك سمة مهمة للسندات والديون التي تحصل عليها مصر، وتعود إلى الأزمة الراهنة التي يعانيها الاقتصاد المصري في نقطة معينة، وهي عدم قدرته على توليد دخل استثماري، يُدر عائدات نقدية.
هذه المشكلة التي تعود إلى أسباب عدة، تتعلق بهيكلية الاقتصاد المصري، والبنية التشريعية الموجودة، وطبيعة النظام الحاكم؛ حيث اعتبارات الأمن مقدمة على جلب المنافع الاقتصادية في الغالب، بالإضافة إلى البيروقراطية، وغير ذلك.
المهم أن الاقتصاد المصري لا يستطيع توليد فرص عمل كثيفة أو دخل استثماري عالي العائد، وزادت الأزمات السياسية والأمنية في السنوات الأخيرة من حجم هذا العجز، وبالتالي؛ فإن تقارير المؤسسات الائتمانية، غالبًا ما تمنح مصر تقديرات آنية ومستقبلية سلبية، أي أن مصر غير قادرة بشكل مضمون على الوفاء بالتزاماتها المالية.
وبالرغم من أن مصر لم تتخلف ولو مرة واحدة إلى الآن عن الوفاء بقروضها والفوائد المستحقة عليها، إلا أنه تبقى في ظل هذه الأوضاع، ديون مصر من الشريحة عالية المخاطر، مع وجود مشكلات لمصر مع بعض الشركات الأجنبية، وخصوصًا العاملة في قطاع التنقيب عن الغاز والنفط؛ حيث لها ديون بالمليارات على الحكومة المصرية، التي لها سمعة سيئة فعلاً في تأخير مستحقات هذه الشركات على وجه الخصوص.
تتشابه التجربة المصرية في مجال طرح سندات دولارية دولية، مع تجربة أخرى انتهت نهاية محزنة، وأدت إلى إعلان إفلاس الدولة، كما حصل في الأرجنتين، في العقد الأول من الألفية الجديدة
هذه الأوضاع تقود الحكومة المصرية إلى قبول شروط سداد مجحفة تزيد من أعباء الاقتصاد المصري، كما في موضوع اتفاقية الضبعة؛ حيث سوف تستخدم مصر القرض لمدة ١٣ عامًا، خلال الفترة من ٢٠١٦م، وحتى ٢٠٢٨م، ويسدد على دفعات، بفائدة على أصل القرض بمعدل 3 بالمائة سنويًّا.
وبالرغم من أن الفوائد منخفضة للغاية مقارنة مع حجم القرض ومخاطره على الاقتصاد الروسي الذي يعاني من الأصل من انخفاض العائدات الدولارية، إلا أن طريقة السداد تفرض الكثير من الأعباء على الاقتصاد المصري.
فالفوائد، محتسبة على أساس يومي، بداية من استخدام كل مبلغ من القرض حتى تاريخ السداد النهائي لكل شريحة من أصل القرض، وفي حالة عدم سداد أيٍّ من الفوائد المذكورة خلال ١٠ أيام عمل؛ يُحتسب المبلغ على أنه متأخرات، ويخضع لفائدة قيمتها ١٥٠ بالمائة من معدل الفائدة الأساسي.
المشكلة الأخرى التي تتسبب فيها المخاطر الائتمانية للاقتصاد المصري، هو أن القروض المصرية، في الغالب ما تكون ذات عائدات مرتفعة للغاية، وقد تصل في حالة سندات الخزانة بالعملة المحلية، إلى 30 بالمائة، لأن العملة المحلية كما هو معروف، انخفضت قيمتها إلى حوالي ثلاثين بالمائة حاليًا عن قيمتها قبل خمس سنوات.
وفي ظل عشوائية السياسات المالية للدولة – على سبيل المثال، تم أخذ قرار بالتعويم أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه بمقدار النصف فجأة ومن دون أية مقدمات – فإن السندات بالجنيه تكون عالية المخاطر بشكل استثنائي، وخصوصًا ذات المدى الزمني البعيد؛ حيث لن يقبل أي أحد شرائها من دون رفع مستوى الفائدة، بحيث لو حصلت مشكلات مستقبلية؛ يكون على الأقل قد استطاع الدائنون تحصيل القسم الأكبر من ديونهم.
وهو ما فعلته مصر في نوفمبر الماضي، عندما طرحت سندات ديون قيمتها 2 مليار جنيه، لتمويل عجز الموازنة الذي سجَّل مستوىً قياسيًّا في العام المالي المنصرم، بحوالي 12.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع ارتفاعه في العام المالي الجاري، بالرغم من تراجع فاتورة الدعم.
سياسات مؤقتة وعرجاء لوزارة المالية المصرية لتمويل عجز الموازنة
الطرح الأخير للسندات الحكومية بالجنيه، كان مقسمًا إلى قسمَيْن؛ الأول بقيمة 1.5 مليار جنيه لأَجَل 3 سنوات، والثاني، 500 مليون جنيه لأَجَل 7 سنوات.
وقد يكون من الأمور المحتمَلة عندما يكون ذلك الوضع على المستوى الداخلي، فالدَّيْن العام المحلي الذي وصل إلى 2.619 تريليون جنيه بنهاية يونيو 2016م؛ هو في النهاية، في غالبيته العظمى، ديونًا للحكومة إزاء هيئات حكومية أخرى، ويمكن استيعابه، أو تقديم مزايا للشركات المحلية والأفراد في حالة السندات وأذون الخزانة.
لكن هذا الأمر غير مقبول بالمرَّة في حالة السندات السيادية الخارجية؛ حيث لا يوجد أي تعامل من جانب الدائنين إلا من خلال المحاكم التجارية، وصدور حكم واحد ضد دولة في هذا المجال؛ يعني إنهاء مصداقيتها بالكامل في الاقتصاد العالمي، الذي صار كلاًّ متكاملاً لا يمكن لأي دولة، حتى عتاة الدول الاشتراكية؛ أن تعمل خارجه.
فالصين وروسيا نفسيهما، سعتا إلى الانخراط في اقتصاد السوق الحر العالمي، بما في ذلك الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لإدراك صناع القرار فيهما، أنه من المستحيل العمل في الاقتصاد الدولي بمعزل عن أدواته هذه.
ومن ثَمَّ؛ فإن فرض فوائد ضخمة تصل إلى ما بين 7 إلى 15 بالمائة على السندات السيادية الدولارية المصرية في الخارج؛ أمر يهدد الاقتصاد المصري في مقتل، في حال عجز الدولة عن سداد التزاماتها.
وبالرغم من أن الحكومة المصرية تحتج بأنها لم تفعل ذلك عبر تاريخها؛ أن تتأخر عن الوفاء بالتزماتها المالية الدولية؛ فإنه ثمَّة وضيح مهم لهذه النقطة، ففي حقيقة الأمر؛ فإن مصر من أكثر الدول عجزًا عن الوفاء فعليًّا بديونها وفوائدها، ولكن الحكومة تلجأ إلى وسيلة ذكية للالتفاف على ذلك في العناوين المعلنة للأخبار، ولكنها مكلفة للغاية، وهي ببساطة اللجوء إلى المزيد من الاقتراض.
ولتوضيح ذلك؛ فلنفترض أن مصر اقترضت مليار دولار من مؤسسة التمويل الدولية بفوائد سنوية 10 بالمائة، وجاء موعد سداد القرض بفوائده، هنا سوف يكون واجبًا على الحكومة المصرية سداد مليار ومائة مليون دولار، ولكنها لا تملك هذا المبلغ؛ فتبدأ قبل فترة مناسبة من موعد سداد القرض أو فوائده في الاقتراض من جهات أخرى، أو طرح سندات دولارية.
ودليل صحة ذلك؛ إن ديون مصر الخارجية تتضاعف بمتوالية هندسية؛ لأن القروض التي تحصل عليها الدولة لا تُستغل في تنشيط القطاعات الاستثمارية للاقتصاد الوطني، ولكنها تُستغل إما لسداد ديون أخرى مستحقة أو تمويل عجز الموازنة.
وتلجأ مصر – كذلك – إلى حيلة في التعامل مع سندات ديونها وأذون خزانتها في الداخل، لا يمكنها أن تعمل بها في الخارج، فهي تطبع النقود التي تسدد بها السندات والديون الداخلية المُصْدَرة بالجنيه المصري، وهو ما لا يمكنها فعله، ولو أمكنها طبع الدولارات لفعلت!
صناديق التحوط الأمريكية و”مافيا” شراء الديون!
تتشابه التجربة المصرية في مجال طرح سندات دولارية دولية، مع تجربة أخرى انتهت نهاية محزنة، وأدت إلى إعلان إفلاس الدولة، كما حصل في الأرجنتين، في العقد الأول من الألفية الجديدة.
فمن خلال تقارير نشطاء اقتصاديين، مثل الدكتور نائل الشافعي، ومراكز تقييم اقتصادية دولية مهمة، مثل “بلومبيرج”؛ فإن هناك حالة من الترقب من جانب صناديق التحوط الأمريكية للسندات المصرية المقررة في مطلع العام 2017م، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة عليها.
الطرح الأخير للسندات الحكومية بالجنيه، كان مقسمًا إلى قسمَيْن؛ الأول بقيمة 1.5 مليار جنيه لأَجَل 3 سنوات، والثاني، 500 مليون جنيه لأَجَل 7 سنوات
ذات الموقف حصل مع الأرجنتين في العام 2002م، خلال فترة حكم الرئيسة، كريستينا فرنانديز، عندما طرحت سندات دولية بقيمة 10 مليارات دولار، بفوائد تتراوح بين 10 إلى 12 بالمائة.
في السنوات التالية، لم تستطع الأرجنتين سداد الفوائد، فطلبت إعادة جدولة لديونها، على أساس سعر فائدة ستة بالمائة فقط.
وبالرغم من موافقة غالبية الدائنين على ذلك؛ فإن صندوق التحوط الأمريكي “إليوت مندجمنت”، وهو أقرب إلى مافيا شراء الديون المعدومة، قام بشراء سندات أرجنتينية بقيمة مليارَيْ دولار، من الفئات القديمة التي كانت مطروحة بفوائد 12 بالمائة، من الدائنين، وقام بذلك بأسعار عالية، لمنعهم من بيع سنداتهم للحكومة الأرجنتينية.
وعندما رفضت الأرجنتين الدفع؛ رفع الصندوق دعاوى قضائية أمام محكمتَيْ نيويورك ولندن، وحصل على حكمَيْن بإفلاس الدولة الأرجنتينية، وقام باستئجار شركة للمرتزقة قامت بالاستيلاء على سفينة حربية أرجنتينية، ولجأت الأرجنتين في حينه إلى الصين وروسيا للحصول على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنع اصدار حكم من محكمة دولة بإفلاس دولة أخرى.
ولكن الرئيس ماوريسيو ماكري، عاد واستجاب لكل شروط الدائنين، واقترض المزيد من الأموال، من أجل سداد هذه الديون، بعد أن أقر بالاحتكام لمحكمة نيويورك، كحكم بين الدولة الأرجنتينية وبين دائنيها.
ماكري أعلن استسلام بلاده أمام “مافيا” صناديق التحوط الأمريكية
وهو ما أدركته الحكومة السعودية جزئيًّا عند طرحها لسندات بقيمة 17 مليار دولار على ثلاثة مراحل؛ حيث منعت أي شخصية اعتبارية أو حقيقية تحمل الجنسية الأمريكية، من شراء سنداتها، بل منعت أي شخص حتى يحمل عنوان بريد إلكتروني، على الولايات المتحدة من شراء سنداتها.
كما طرحت الرياض سنداتها من خلال السوق المالي الأيرلندي، وليس من خلال بورصة لندن كما كان مقررًا من قبل، وهناك مؤشر يقول بأن الحكومة المصرية على الأقل تدرك هذه المخاطر، فأعلنت أنها سوف تطرح سنداتها من السوق الأيرلندي وليس من بورصة لندن.
الشاهد أنه، ومهما كانت تحوطات الحكومة المصرية في هذا الصدد؛ فإننا نبقى أمام واقع مهم، وهو أن الاقتصاد المصري لا يزال يعاني من اختلالاته الهيكلية الفادحة التي تعطله عن توليد أهم أمرَيْن في حركة أي اقتصاد نامي، أو يرغب في النمو، وهما توليد فرص العمل، والفرص الاستثمارية الإنتاجية، التي تعزز العملة المحلية، وترفد الاقتصاد الوطني بالمزيد من العملات الصعبة.
وحتى لو حققت الحكومة المصرية نموًّا أربعة بالمائة كما تأمل في 2017م؛ فإن هذه النسبة لا يمكنها بحال أن تفي بكل هذه الالتزامات، وتدعم جهود تقوية مركز الاقتصاد المصري المتداعي.