ما يجري في مدينة حلب يرقى إلى جرائم حرب، هذا ما يقوله المسئولون الأمريكيون، في الوقت الذي يقول فيه المسئولون الروس: إن ما يجري في مدينة الموصل يرقى إلى جرائم حرب.
فهل صارت بلاد العرب في مرمى التناغم والتفاهم بين سكاكين روسيا وحراب أمريكا، ومن سار في ركابهما، أم أن المنطقة العربية لما تزل خارج إطار التنسيق المتناغم للعدوان الدولي، وتفرض بتعقيداتها حالة من التنافر بين مصالح القوى العظمى؟
حتى هذه اللحظة تقاسم الأمريكيون والروس المجال الجوي للعراق وسوريا بتنسيق دقيق، وتقاسما التواجد على الأرض، وتقاسما مهمة تدمير الحياة الإنسانية هنا وهناك، بما في ذلك اقتلاع الإنسان من أرضه وبيته في كل من منطقة حلب والموصل، وحتى هذه اللحظة فإن عمل الطائرات الأمريكية في الموصل لا يعيق عمل الطائرات الروسية في حلب، وعمل الطائرات الروسية في حلب لا يعيق عمل طائرات الحلفاء في الموصل، فإذا دعا وزير الخارجية الفرنسي إلى وقف المجزرة في حلب، دعا في الوقت نفسه وزير الخارجية الروسي إلى وقف المجزرة في الموصل، وأضاف سيرغي لافروف: إن الهجوم الذي تشنه القوات الاميركية بدعم اميركي لتحرير الموصل، يشبه تماما الهجوم الذي تشنه القوات السورية بدعم روسي لتحرير حلب.
فما هذا التحرير الذي تنشده روسيا وأمريكا لمدن عربية بعد سحق سكانها؟ وهل هذا توافق بين القوى العظمى على تحرير الأرض، واستعباد الإنسان، أم هنالك اختلاف؟
التوافق الثابت في ظل هذا المتغيرات هو الوجود الإيراني على رأس المهاجمين لمدينة حلب، والوجود الإيراني نفسه على رأس المهاجمين لمدينة الموصل.
والاختلاف المربك في ظل هذا التوافق هو الوجود التركي بشكل أو بآخر مع المدافعين عن مدينة حلب، والتحذير التركي من جرائم حرب تقترف ضد سكان مدينة الموصل.
فكيف جمعت إيران بين النقيضين الروسي والأمريكي؟ أو كيف التقى مع إيران المختلفين؟ أو كيف نجحت إيران في صناعة تحالف المصالح مع روسيا في حلب، لتنجح في الوقت نفسه في صناعة تحالف المصالح مع أمريكا في الموصل؟ ما السر خلف التفاهم الأمريكي والروسي على صداقة إيران، والتعاون معها في تمددها الجغرافي من شرق الخليج وحتى ساحل المتوسط؟
بالرجوع إلى سنة 2003، وإلى تحالف قوى الشر ضد العراق العربي، في تلك السنة تم طحن العراق تحت قصف الطائرات، وتم عجنه بالصواريخ عابرة القارات، قبل أن يقدم خبزاً ملوثاً بالطائفية على موائد الإيرانيين، الذين بلعوا الطعم، أو استمرئوا الحالة، التي أسالت لعابهم على مزيد من التوسع، متجاهلين مليارات الدولارات التي أنفقتها أمريكا لاحتلال العراق، ومتجاهلين حجم المصالح الأمريكية في المنطقة.
لم يكن التوسع الإيراني في المنطقة عفوياً، وفي الوقت نفسه لم يكن غض الطرف الأميركي عن هذا التوسع الإيراني غبياً، إنه لقاء المصالح الهادف إلى التمدد الإيراني الذي سيقطع الطريق على تواصل تركيا مع عمقها التاريخي، وإنه لقاء المطامح الذي تسعى من خلاله أمريكا إلى ترتيب المنطقة استراتيجياً لصالح إسرائيل، ولا مجال لذلك غير الحروب الطائفية، السلاح السحري الذي تمكن من تدمير النسيج الاجتماعي لأمة ستظل مستهدفة بالتآمر.
فهل يمكن الادعاء بأن المستهدف من الحرب على الموصل وحلب هما تركيا وإيران معاً؟ وهل يمكن الافتراض بأن بقاء هاتين الدولتين قويتين، وخارج التدمير الذاتي، يشكل تهديداً استراتيجياً للوجود الإسرائيلي في المنطقة، ولاسيما أن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي كان يتفاخر قبل عشرات السنين بتأسيس حلف الضاحية الذي يتكون من إيران وتركيا وأثيوبيا.
في السنوات الأخيرة غادرت إيران وتركيا حلف الضاحية الإسرائيلي، مع تبدل نظالم الحكم في الدولتين، وقد نجحت التجربة التركية في المزاوجة بين الديمقراطية والإسلام، والتقدم والاستقرار في إثارة إعجاب العالم العربي، وشكلت نقطة ارتكاز للمحاكاة والتقليد، وهذا ما يثير غيظ الإسرائيليين، الذين أبدوا قلقهم في الوقت نفسه من التطور الإيراني في المجال النووي؟.
حتى هذه اللحظة لم يحدث التصادم المباشر بين إيران وتركيا، ولكن هنالك احتكاكات ميدانية كثيرة تدلل على قرب هذا التصادم؛ الذي ترتب له أمريكا، وأنفقت عليه مالها وتقدم له سلاحها، وتعمل على تغذيته بشكل يضمن لها السيطرة الاستراتيجية، ويضمن لإسرائيل التفوق.
لما سبق، فإنني أزعم أن الذي ينفخ على نار الحرب الطائفية، هو خادم للمصالح الإسرائيلية؛ التي تم تأمينها من خلال التفاهمات الأمريكية والروسية في الميدان، والتي تعززها الاتفاقات السرية بينهما، التي ستكون نتائجها على المجتمع العربي أكثر وحشية من اتفاقية سايكس بيكو.