تلقى معسكر اليمين المتطرف في أوروبا ضربة قاصمة، بعد أن مني بخسارة فادحة في الانتخابات الرئاسية التي جرت بالنمسا أمس الأحد، إثر فوز مرشح حزب الخضر فان دير بيلين على منافسه من حزب “الحرية” الشعبوي نوبرت هوفر، وسط حالة من الترقب من شتى الأطياف داخل أوروبا وخارجها.
السقوط المدوي لليمين المتطرف في النمسا جاء عكس سير الاتجاه، وبعيدًا عن استطلاعات الرأي التي رجحت كفته على حساب التيارات التقليدية الأخرى، لا سيما في ظل نجاحه في توسيع نطاق انتصاراته في دول مختلفة من القارة العجوز منها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فضلاً عن صعوده المذهل في الولايات المتحدة عقب فوز دونالد ترامب.
الهزيمة التي مني بها اليمين المتطرف في النمسا، دفعت أوروبا إلى تنفس الصعداء، وهو ما جسدته تصريحات بعض القادة والزعماء التي عبرت عن ارتياحهم الشديد لنتائج الانتخابات، حيث تراجع منسوب حدة التوتر من استمرار هذا المارد المدمر، فهل آن الأوان أن يعاد تشكيل خارطة أوروبا السياسية؟
النمساويون ينحازون للعقل
في خطوة وصفها البعض بالانحياز للعقل على حساب الفوضى، اختار النمساويون مرشح حزب الخضر فان دير بيلينن رئيسًا للبلاد على حساب مرشح حزب “الحرية” الشعبوي نوبرت هوفر، في واحدة من أشرس الانتخابات التي شهدتها النمسا في الآونة الأخيرة، وأكثرها جدلاً وغموضًا.
خسارة هوفر في الانتخابات كانت صادمة له في المقام الأول، خاصة بعد استطلاعات الرأي التي جاءت في صالحه طيلة الفترة الماضية، والتي دفعته لأن يعبر عن ثقته في الفوز أكثر من مرة، وفي تدوينة له على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، علق على خسارته قائلاً إنه حزين للغاية.
وفي المقابل، وصف المرشح الفائز دير بيلين نتائج الانتخابات بأنها دليل على أن النمسا “موالية لأوروبا”، وتستند على مبادئ “الحرية والمساواة والترابط”، وتابع: “أخيرًا، وكما تعلمون، سأحاول أن أكون رئيسًا متفتحًا وليبراليًا ومواليًا للاتحاد الأوروبي في منصبي كرئيس فيدرالي لجمهورية النمسا”.
البعض قد يقول إن منصب الرئيس في النمسا، منصب شرفي، ومن ثم يجب ألا نعطي هذه الانتخابات أكبر من حجمها، إلا أنه وفي الحقيقة فإن نتائج هذه الانتخابات تعد مؤشرًا حقيقيًا على فرص تيار اليمين المتطرف في دول أوروبا جميعها، ومن ثم إن فاز هوفر كان هذا سيكون بمثابة دفعة قوية لأحزاب اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية الأخرى.
وصف المرشح الفائز دير بيلين نتائج الانتخابات بأنها دليل على أن النمسا “موالية لأوروبا”، وتستند على مبادئ “الحرية والمساواة والترابط”
كما أن هذه الانتخابات جاءت وسط موجة عاتية من صعود اليمين المتطرف في بعض الدول الغربية، سواء في أوروبا كما حدث في بريطانيا وألمانيا، أو في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أثار قلق الوسطيين في أوروبا، وأضفى عليها هالة من الاهتمام والترقب من شتى الأطياف المعنية في الداخل والخارج، ومن ثم فإن خسارة اليمين المتطرف تعطي الأمل في تحجيم دائرة انتصاراته وتطويق أذرعه المتوغلة هنا وهناك.
يذكر أن انتخابات أمس الأحد، هي جولة الإعادة للانتخابات التي جرت في مايو الماضي، وفاز فيها فان دير بيلين بفارق ضئيل، إلا أن نتيجة خطأ في التصويت عبر البريد أدى إلى إعادة الانتخابات مرة أخرى، ليحصل بيلين على حوالي 53% من الأصوات، مقابل 46% لهوفر، حسبما أشارت النتائج الأولية.
النمساويون يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية
التوحد ضد العنصرية
فوز فان دير بيلين في الانتخابات الرئاسية النمساوية، لا يعني تفوق حزب الخضر، وحضوره الجماهيري كما يتوقع البعض، بل إن الدعم الذي وجه له من قبل الأحزاب والائتلافات الأخرى كان نكاية في اليمين المتطرف الذي نجح في أن يوحد جميع الكتل والتيارات السياسية ضده بجدارة.
ففي قراءة لخارطة القوى الداعمة لمرشح الخضر، نجد أن الائتلاف الكبير بين الاشتراكيين الديمقراطيين والمحافظين وهو من يتولى الحكم في النمسا منذ 2007، والذي هزم من الدورة الأولى في 24 من أبريل الماضي، قد أعلن على لسان بعض قادته الحزبيين في مقدمتهم المستشار الاشتراكي الديمقراطي كريستيان كيرن، دعمهم لفان دير بيلين لقطع الطريق على اليمين المتطرف.
الائتلاف كان يرى أن فوز اليميني المتطرف هوفر، يعتبر إشارة مشجعة بالنسبة إلى حلفائه على المستوى الأوروبي مثل حزب “الجبهة الوطنية” في فرنسا وحزب “الحرية” بقيادة غيرت فيلدرز في هولندا، البلدان اللتان ستشهدان انتخابات في 2017، ومن ثم كان قطع الطريق عليه هو الهدف الرئيسي بصرف النظر عن المنافس الذي أمامه.
أوروبا تتنفس الصعداء
حالة من الارتياح سادت الأجواء الأوروبية عقب الإعلان عن سقوط اليمين المتطرف في الانتخابات التي جرت أمس في النمسا، فبتلك الخسارة يمكن القول إن أوروبا التي تخشى اليوم قبل أي وقت مضى من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، تنفست الصعداء، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال تعليقات وردود فعل قادة وزعماء القارة.
البداية كانت عند الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، والذي عبر عن سعادته لهذا الانتصار الساحق للتيار المحافظ على حساب المتطرف، حيث قال في بيان: “الشعب النمساوي اختار أوروبا والانفتاح”، أما رئيس وزرائه مانويل فالس فقال: “الشعبوية ليست قدرًا بالنسبة إلى أوروبا”.
بينما اعتبر وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني أن فوز فان دير بيلين “هو حقًا خبر جيد لأوروبا”، في الوقت الذي أشاد فيه رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني سيغمار غابرييل بهذا الفوز قائلاً: “فوز واضح للعقل على شعبوية اليمين”، ومعتبرًا أن “أوروبا بأسرها تشعر بالارتياح”.
تكرار السيناريو البريطاني شبح يطارد أوروبا
صعود اليمين المتطرف
خلال السنوات الأخيرة نجح تيار اليمين المتطرف في أن يقدم نفسه للشعب الأوروبي والأمريكي كبديل عن التيارات المحافظة الأخرى، مستغلاً المستجدات الطارئة على الخارطة الإقليمية والدولية، والتي تهدد أمن واستقرار المواطن الأوروبي كما روجت لذلك الآلة الإعلامية لهذا التيار العنصري.
وقد تعززت فرص وحظوظ اليمين المتطرف أوروبيًا وأمريكيًا، بعد النجاح الذي حققه في أكثر من دولة، في مقدمتها ما حققه في بريطانيا، بفوز “بريكسيت” في استفتاء تاريخي، أدت نتائجه إلى عزل هذا البلد عن الأسرة الأوروبية، ثم التتويج بفوز دونالد ترامب في السباق الرئاسي الأمريكي.
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لندن، فواز جرجس، أكد أن ظاهرة صعود اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة، تصاعدت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، ملفتًا أن هذا التيار يسمى بعدة مسميات مختلفة منها “التيار الشعبوي” أو “القومية الفجة” أو “التيارات المتطرفة”.
جرجس أرجع صعود اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا إلى عدة أسباب أولها: فشل النخب السياسية والاقتصادية التقليدية في توفير الأمن والاستقرار لشعوبها، ثانيها: “العولمة” التي أدت إلى تراكم الثروات في أيدي القليلين وتهيش قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والطبقة العاملة.
تعززت فرص وحظوظ اليمين المتطرف أوروبيًا وأمريكيًا، بعد النجاح الذي حققه في أكثر من دولة، في مقدمتها ما حققه في بريطانيا، بفوز “بريكسيت” في استفتاء تاريخي، أدت نتائجه إلى عزل هذا البلد عن الأسرة الأوروبية، ثم التتويج بفوز دونالد ترامب في السباق الرئاسي الأمريكي
ثالثها: “الثورة المعلوماتية” التي أدت إلى زعزعة الأفراد في المجتمعات متعددة الثقافات، معربا عن اعتقاده بأن ما نشهده الآن هو صراع هويات وحنين إلى الماضي وإلى الهوية الأصلية لتلك الشعوب.
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لندن أكد أيضًا أن انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة يمثل قمة الصعود الشعبوي، موضحًا فشل الخبراء والسياسيين في التواصل إلى ما إذا كان صعود هذا التيار اليميني المتطرف يمثل ظاهرة محدودة أم أنه يمثل ثورة، لكنه ألمح في الوقت نفسه أن صعود هذا التيار يعبر عن مخاض سياسي واجتماعي جديد في المجتمعات الغربية.
فوز ترامب يمثل التتويج الحقيقي لصعود اليمين المتطرف عالميًا
اللاجئون.. النقطة الفاصلة
بعيدًا عن الأسباب الأيديولوجية التي ساهمت في صعود تيار اليمين المتطرف في أوروبا، إلا أن القضية الأبرز في ميزان ثقل هذا التيار، هي قضية اللاجئين الفارين إلى الدول الأوروبية، كونها إحدى أهم القضايا التي ساهمت في رفع أرصدة الأحزاب اليمينية المتطرفة وتحقيقها مكاسب على حساب التيارات السياسية الأخرى في الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد غنائم المقاعد التي حققتها الأحزاب المتطرفة في البرلمان الأوروبي.
مثَل تدفق اللاجئين هاجسًا كبيرًا لدى مواطني الدول الأوروبية، حيث عزف قادة التيارات المتطرفة على هذا الوتر طويلاً خلال السنوات الأخيرة، منذرين القارة العجوز من مستقبل رمادي حال استمرار فتح الحدود لتدفق اللاجئين من مختلف الدول، وهو ما يمثل تهديدًا أمنيًا واقتصاديًا لملايين الأوروبيين، وهو ما قلل من مكانة التيارات المحافظة جماهيريًا بلا شك، والتي ترى في استقبال أوروبا للاجئين التزامًا أخلاقيًا وأمميًا لا يمكن النكوص عنه.
وعلى الفور استغلت القوى السياسية المختلفة قضية اللاجئين لتضفي على نفسها المصداقية لدى الأوروبيين من خلال تكرار الخطابات المتطرفة التي غذت الكراهية للآخر، فتذكي التخوفات في السرائر من مسح الهوية الثقافية لأوروبا المستقبل، ومن ثم زادت فرص وحظوظ الأحزاب اليمينية المتطرفة على الساحة السياسية مقابل انحسار للأطياف السياسية المعتدلة.
اللاجئون.. السبب الرئيسي لصعود نجم اليمين المتطرف في أوروبا
ويمكن الوقوف على حجم تأثير قضية اللاجئين على صعود اليمين المتطرف في أوروبا من خلال بعض الانتصارات التي حققها هذا التيار في عدد من الدول، كان في مقدمتها فوز “بريكسيت” وعبر استفتاء تاريخي في إخراج بريطانيا من عباءتها الأوروبية، كذلك فوز حزب “الشعب السويسري” اليميني المتطرف، وحصده العديد من الأصوات في الانتخابات العامة السويسرية، كذلك تزايد نفوذ حزب الفجر الذهبي “خريسي أفغي” الفاشي لتغيير الخارطة السياسية في اليونان، حيث حقق إنجازًا في الانتخابات بعد حصوله على نحو 7% من الأصوات بحصده 18 مقعدًا، رغم أنه لم يتمكن خلال السنوات الماضية من الفوز بأي مقعد تحت قبة البرلمان.
وفي المجر صد نجم حركة يوبيك المتطرفة “الحركة من أجل هنغاريا أفضل” عبر نهج سياسة التنكيل باللاجئين، وباتوا يلوحون بخطر استقبال بلادهم للاجئين من خلال سيطرة اليمين المتطرف على وسائل الإعلام، إضافة إلى استغلال القوى اليمينية في ألمانيا، خاصة الحزب القومي الديمقراطي في تأليب الشارع الألماني ضد المهاجرين، حيث عبر مجلس أوروبا في تقرير له من تزايد العنصرية في البلاد، وهو ما زاد من حظوظها السياسية مستقبلاً.
يمكن الوقوف على حجم تأثير قضية اللاجئين على صعود اليمين المتطرف في أوروبا من خلال بعض الانتصارات التي حققها هذا التيار في عدد من الدول، كان في مقدمتها فوز “بريكسيت” وعبر استفتاء تاريخي في إخراج بريطانيا من عباءتها الأوروبية
وفي فرنسا باتت أرصدة حزب الجبهة القومية المتطرف الذي تتزعمه مارين لوبان في صعود، في ظل المكاسب التي حققها في البرلمان الأوروبي بحصوله على 23 مقعدًا من أصل 74 مقعدًا مخصصًا لفرنسا، وفي هولندا نجح حزب غيرت فيلدرز “من أجل الحرية” في تحقيق العديد من المكاسب السياسية بسبب تركيزه على خطاب الكراهية ضد الأجانب، وخاصة ضد المسلمين، حيث سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب المعتدلة الأخرى، كذلك صعود نجم حزب “الشعب” الدنماركي، والذي يهيمن على 37 مقعدًا من أصل 179 من مجمل مقاعد البرلمان.
وأمام هذا الصعود القوي لتيارات اليمين المتطرف، يرى بعض المحللين أن شبح النازية الجديدة بدأ يغزو دول العالم المتقدم خاصة بعد الأزمة الاقتصادية، التي عززتها أزمة اللاجئين، مما سيؤدي إلى نهاية دول ما يسمى بالرفاه الاجتماعي.
ومن ثم يمكن القول إنه في الوقت الذي يحاول البعض فيه التقليل من سقوط اليمين المتطرف في النمسا، نظرًا لشرفية منصب الرئيس، إلا أن هذا السقوط أصاب القارة العجوز بالارتياح النسبي، كونه مؤشرًا قويًا على إمكانية تطويق هذا التيار العنصري، وتحجيم خطواته نحو السيطرة على أوروبا.