تعيش تونس هذه الأيام على وقع المؤتمر الدولي للاستثمار، مؤتمر علق عليه آمالاً كثيرة في نجاح الثورة التونسية من خلال تحقيق أهدافها الاجتماعية، فالثورة ورغم تحقيقها منجزات على المستوى السياسي من دستور وهيئات دستورية وحرية التعبير وتفعيل آليات العدالة الانتقالية لا تزال في نظر المتابعين وعموم الشعب التونسي منقوصة.
شعار الكرامة، كان شعارًا مركزيًا خلال تحركات ثورة تونس، وإن يحمل هذا الشعار معانٍ كبرى فكرامة الشعب لا يمكن اختزالها في المطالب الاجتماعية، بل تتعدى ذلك إلى كرامة ثقافية وسياسية، إلا أن العدالة الاجتماعية تبقى المترجم الأهم لهذا الشعار.
خلال الفترة الأولى اللاحقة للثورة سعت مختلف الحكومات المتعاقبة لتحقيق هذه الأهداف، إلا أنها اصطدمت بواقع حال دون ذلك، فحالة الفوضى والمطلبية العالية والاغتيالات السياسية والهجمات الإرهابية حولت الميزانيات المرصودة للاستثمار في التنمية إلى استثمارات في السلم الاجتماعي والأمن وتغطية خسائر قطاعات حيوية على غرار السياحة، وقد مثل هذا الواقع مناخًا غير مشجع للاستثمار الخارجي، حيث تراجعت الاستثمارات الخارجية في تونس بمعدل 7.6% بين سنتي 2016 و2010.
إثر الانتخابات التشريعية، ومع الإعلان عن حكومة التوافق المدعومة من قبل أهم مكونين سياسيين في البلاد (حركة النهضة ونداء تونس)، افتتحت البلاد مسارًا جديدًا نحو الاستقرار خاصة على المستويين الأمني والسياسي، وبقي التحدي الاجتماعي قائمًا ليكون المؤتمر الدولي للاستثمار نقطة ارتكاز نحو تجاوزه، حيث ظهرت فكرة تنظيم ندوة دولية للاستثمار ببادرة من الحكومة السابقة برئاسة السيد الحبيب الصيد، الذي أعلن عن التوجه نحو إنجازه يوم الأربعاء 27 من أبريل 2016 بمناسبة ندوة دولية نظمتها مؤسسة كارنغي للسلام الدولي، ثم تم تحديد موعد فيما بعد لهذه الندوة الدولية يومي 29 و30 من نوفمبر، حيث عرف المؤتمر حضورًا كبيرًا من قبل رجال الأعمال والحكومات الراغبة في مساعدة تونس، وخاصة منهم الراغبة في نجاح التجربة الديمقراطية الناشئة على غرار قطر وتركيا، اللتين ساهمتا بمبالغ مهمة من إجمالي ما حصدته الندوة، والذي بلغ 14.85 مليار دولار.
وبتقييم أولي يعتبر المؤتمر ناجحًا وحقق جزءًا مهمًا من أهدافه إلا أن النجاح الكامل للمؤتمر يستوجب جهدًا من قبل المجموعة الوطنية وفي مقدمتها الحكومة والمجتمع المدني وقد يصطدم هذا النجاح بمجموعة عوائق أهمها:
الفساد
حسب تقرير لمنظمة الشفافية الدولية لسنة 2015 حصلت تونس على 38 نقطة في السلم الخاص لاحتساب الفساد والمشتمل على 100 نقطة محتلة بذلك المرتبة 76 من أصل 168 دولة شملها التقرير، كما أكد تقرير للبنك الأوروبي تفشي الرشوة والفساد في تونس، حيث تخسر تونس سنويًا 2000 مليار نتيجة الفساد، فالفساد الذي كان سببًا في قيام الثورة تطور بعد قيامها حسب تصريحات السيد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وساهم بشكل كبير في تعطيل الاقتصاد، وفي غياب وقفة جدية للتصدي لهذه الظاهرة سيكون مصير المبالغ المرصودة للتنمية الحسابات البنكية للفاسدين، تخوف جدي يحتم على المجتمع المدني القيام بمسؤوليته الرقابية في متابعة هذه المبالغ.
هشاشة الحزام المساند للحكومة
تعتبر الحكومة الحلقة الأساسية في مسار تنفيذ البرامج المدعومة من قبل المانحين ومتابعة الوعود، ورغم كونها نتاج توافق واسع ضم 9 أحزاب سياسية و3 منظمات وطنية، لا تحظى هذه الحكومة إلى اليوم بالإسناد المطلوب من قبل من زكاها، بل تشتغل تحت وابل مكثف من النيران الصديقة، وذلك لأسباب تعود إما لضعف بعض وزرائها أو لنقص تواصلها مع هذه الأطراف، إضافة إلى هشاشة المشهد السياسي المشكل لهذه الحكومة وكثرة التجاذب داخله، هذه الهشاشة قد تكون سببًا في عجزها عن اغتنام الفرصة في الإقلاع الاقتصادي كما يجب.
ارتفاع سقف المطلبية
خلال مناقشة وثيقة قرطاج أجمع مختلف الأطراف على صعوبة الوضع الاقتصادي والاجتماعي التي تمر به البلاد من خلال الأرقام والمعطيات الميدانية الواضحة للجميع، كما اتفقوا على ضرورة تضافر الجهود لمواجهة هذه الصعوبات تحت عنوان تقاسم الأعباء.
اتفاق لم يدم طويلاً، حيث انطلقت الاحتجاجات قبل موسمها بما ينذر بشتاء ساخن على حد تعبير الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الذي أعلن عن إضراب عام للوظيفة العمومية يوم 9 من ديسمبر احتجاجًا على قانون المالية، تصعيد أسنده احتجاجات الهيئة الوطنية للمحامين والتي أعلنت إضراب مفتوحًا بكامل المحاكم انطلاقًا من يوم 5 من ديسمير لنفس السبب، واحتجاجات قطاعات أخرى على غرار الأطباء والطلبة، احتجاجات تؤكد عدم صلابة اتفاق قرطاج ويضع الحكومة أمام تحدي أولوية السلم الاجتماعي على حساب التنمية.
تحديات تضع الحكومة ومختلف مكونات المجتمع أمام خيار وحيد وهو الحوار الجدي والسريع بسقف عنوانه المصلحة الوطنية وتقاسم التضحيات، لإخراج تونس من أزمتها الاقتصادية وإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي من خلال الاستفادة من فرصة نوايا الاستثمار التي عبر عنها المشاركون في الندوة.