أثارت هذه الأيام تصريحات العالم المقاصدي المغربي أحمد الريسوني، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ردود أفعالٍ متشنجة وتساؤلاتٍ كثيرة لم تفهم المغزى من مثل هذه التصريحات وتوقيتها والغاية منها، خاصة عن سبب “ارتياحه” لإزاحة الرئيس محمد مرسي الرئيس المصري الوحيد المنتخب في مصر، والوحيد الذي لم يعتلي سدة الحكم على ظهر دبابة كسابقيه.
محمد مرسي أول رئيس مصري منتخب
كما هاجم الشيخ الريسوني، علماء في السعودية ومصر واصفًا جمهورهم بالعداء للفكر الإسلامي وتجديده، واضعًا إياهم على رأس المحافظة والجمود، مرجعًا ذلك إلى خوفهم على مناصبهم وامتيازاتهم التي راكموها مع الأنظمة المستبدة.
ودعا الريسوني، الذي حل ضيفًا مساء الإثنين على الملتقى الوطني العاشر لشبيبة حزب العدالة والتنمية بمدينة الرباط، إلى مواجهة من اعتبرهم “علماء السلطان” كحال علماء بالسعودية ومصر الرافضين للتجديد، عازيًا اختباءهم وراء الجمود إلى الخوف على الامتيازات.
الإسلام بين علماء “التجديد” وعلماء “التجميد”
وذكر في أثناء محاضرته في موضوع “تجديد الفكر الإسلامي الرؤية والمنهج”، أن هناك كتلتان ترفضان التجديد وتتمسكان بالتجميد، أولهما الكتلة التقليدية من فقهاء وعلماء ومتصوفة، مشيرًا إلى أن هؤلاء يخافون على الدين، ظانين أن كل ما ورثوه هو من الدين.
وكشف أن الفئة الثانية تمثلها كتلة الاستبداد والتسلط سواء من الأنظمة الحاكمة أو الحكام أو من يرتبط بهم، موضحًا أن هذه الفئة تقاومه بسوء نية لأنها تعرف أنه يهدد مناصبهم.
وبين أن المثال الأظهر للفئة الثانية يوجد في كل من جمهورية مصر والمملكة السعودية، فهذه الفئة من العلماء المرتبطة بالسلطان، وتعي أنها مرتبطة بنظام ومصالح وكل تجديد يربكها ويجعلها في مهب الريح، لذلك تتمسك بأسوأ ما في القديم للحفاظ على الاستبداد.
وشدد الريسوني على أن ما وصفها بـ”الطبقة العلمائية” في مصر والسعودية مرتبطة بشكل كلي مع الأنظمة المستبدة، ودفاعها عن الاستبداد يعني الدفاع على مصالحها وامتيازاتها التي يحميها المستبدون.
مجددًا التأكيد على أن “فكرة التجديد ضرورة حتمية لا بديل عنها لأن كل شيء يتطور ويتجدد وهي سنة الله في الكون، رغم أن هناك ثوابت لا تتغير”، موضحًا أن تجديد الدين وأموره قائم دائم ومستمر، ولو لم يكن هناك التجديد لكان هناك الموت والفناء.
وقدم نموذجًا للفقه المحافظ الرافض للتجديد، من خلال إثارته موضوع علاقة الدين بالسياسة، معتبرًا أن ما يصدر عن بعض العلماء والحركات الإسلامية من أن السياسة ليست من الدين، ليس من الدين في شيء.
وأوضح أن القائلين بهذا الكلام يرد عليهم، بأن “الأنبياء هم السياسيون الأولون”، مشيرًا إلى أن الدين مليء بالسياسة، كما أن الوحي مليء بالسياسة، ولا يمكن القول إن السياسة ليست من الدين لأن هذا تجاوز للوحي نفسه“.
الريسوني لأسبوعية الأيام: إن ما جرى في مصر انقلاب ودماء واستبداد وإلغاء لكل مكاسب الثورة
رئاسة “الإخوان” خطأ و كنت مرتاحًا جدًا لإزاحة مرسي من رئاسة مصر
كما أعلن الدكتور الريسوني أيضًا في حوار مطول مع أسبوعية “الأيام”، أنه ارتاح لإزاحة الرئيس محمد مرسي من رئاسة جمهورية مصر العربية، مشددًا على أن ما جرى في مصر “انقلاب ودماء واستبداد وإلغاء لكل مكاسب الثورة”، كما أشاد بحركة النهضة التونسية وهاجم السعودية وحذر من إيران، وقال الريسوني حرفيًا: “لقد كنت مرتاحًا جدًا لإزاحة مرسي من الرئاسة وفرحت لذلك، لأنها كانت رئاسة في غير محلها“.
وتابع الريسوني بقوله: “دخول الإخوان المسلمين بهذه السرعة وبهذه القفزة الهائلة، كنت أعرف أنه عمل غير طبيعي، ولكن المشكلة طبعًا ليست هي الانقلاب فقط وإزاحة مرسي، ولكن هي الدماء والاستبداد وإلغاء كل مكاسب الثورة“.
وكشف الريسوني قائلاً: “قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية في مصر حل مجموعة من قيادات الإخوان المسلمين بالمغرب، ونصحهم بعض الإخوان من الحركة ومن العدالة والتنمية، وأنا شخصيًا نصحتهم، بألا يترشحوا للرئاسة“.
وأضاف: “حتى بعد الرئاسة نصحهم بعض الإخوان من الحركة والحزب بأن يتخلى مرسي عن الرئاسة، وأن يدعم الإخوان مرشحًا يكون فقط يحترم الحريات والديمقراطية، مثل عمرو موسى أو البرادعي، وهم تعجبوا واستهجنوا هذا الكلام الذي لم يكونوا يرون له مكانًا، ولكن الآن يتمنون لو فعلوا ذلك“.
جماعة الإخوان منذ 80 سنة تعيش بين سجن ونفي وقتل
وأوضح الريسوني بأن “جماعة الإخوان منذ 80 سنة تعيش بين سجن ونفي وقتل، وتاريخ الدولة الحديثة في مصر هو تاريخ محاربة الإخوان المسلمين، منذ الأربعينيات وشغل الدولة الشاغل ووظيفتها الأساسية هي محاربة الإخوان المسلمين، بموجات تشتد وتخف“.
وتساءل: “فكيف بالنسبة إلى هؤلاء في غضون شهور يستحوذون على مجلس الشورى ومجلس الشعب ورئاسة الدولة والحكومة؟ لكنهم عاجزون رغم أن الشعب صوت لهم، فالجيش والقضاء ضدهم، ورجال الأعمال والأقطاب والإعلاميون والفنانون ضدهم“.
وتابع: “مصر فيها جيش عسكري وجيش أكبر منه يسمون فنانين، كل هذه الفئات والطبقات ضد الإخوان المسلمين، وهي التي تمسك بالدولة، وأنت تجلس على رأس الدولة، ما عساك تفعل“.
أجاب قائلاً: “لن تفعل شيئًا سوى الفشل، وكان ممكنًا أن يصبروا عليهم حتى يفشلوا تلقائيًا، لكن أعداءهم لم يصبروا عليهم، خافوا من أن ينجحوا، ولذلك عجلوا بالانقلاب خشية نجاحهم، خافوا أن يتداركوا ويعالجوا نقصهم وعدم خبرتهم، فعجلوا بالإطاحة بهم حتى لا ينجحوا، ولا يراكموا تجربة مقدرة“.
واعتبر الريسوني أنه “من الناحية السياسية كان ترشح الإخوان المسلمين للرئاسة غلطًا، وكذلك الدخول في تحمل مسؤوليات الدولة بسرعة خارقة، من أعلى الهرم فقط، وإلا فإن جسم الدولة كان كله ضدهم، فكل موظفي الدولة عقيدتهم التي تربوا عليها هي معاداة الإخوان المسلمين ومحاربتهم، فكيف يمكن أن تحكم مع هؤلاء؟“.
“الإخوان” من الناحية الفكرية تنظيم مذهبي لا يتيح حرية داخلية للمفكرين والعلماء
وأشار إلى أن عددًا من العلماء خرجوا من الجماعة لأنهم لا يجدون مكانًا لأفكارهم، ليس فقط لأتباعها بل حتى للاستماع إليها، فالإخوان المسلمون من الناحية الفكرية تنظيم مذهبي، وهذه المشاكل تعوق الإخوان المسلمين عن مسايرة متطلبات الزمان، وأن يجتهدوا ويفكروا باستقلالية، الآن وهم في هذه المحنة بدأ شيء من هذا، ولكن رغم ذلك ما زالت القيادة الرسمية للحركة على ما ذكرته وعلى ما وصفته، مع العلم أن القيادة الحالية مع التقدير لمكانتهم وما قدموه من تضحيات فإنهم يعانون من ضحالة فكرية تمامًا، وأبرز أنه “مما زاد هذا الجمود الفكري، أن حركة الإخوان المسلمين ككثير من الحركات والأحزاب، ومنها اليسارية، لا تتيح حرية داخلية للمفكرين والعلماء، ولذلك فالشخص إذا أصبح عالمًا في جماعة الإخوان المسلمين لا بد أن ينصرف لكي يبقى عالمًا، وإذا كان مفكرًا لا بد أن ينصرف لكي يبقى مفكرًا، لأنه داخل الجماعة ينبغي ألا تكون مفكرًا ولا عالمًا، ولذلك يوسف القرضاوي ترك جماعة الإخوان المسلمين منذ 60 سنة، وترك الجماعة وتخاصم معهم، وانصرف عنهم مطرودًا، والسيد سابق خرج منهم، والشيخ محمد الغزالي كذلك، وهم أبرز الشخصيات“.
كيف لعالم كالريسوني أن يعبر عن ارتياحه لانقلاب دموي.. لكل جواد كبوة!
ما هو غير مستساغ وغير مقبول مطلقًا في تصريح الشيخ الريسوني تعبيره عن ارتياحه لإزاحة مرسي، لأن ترشيحه، في نظره، كان غلطًا، ولأن رئاسته مصر لم تكن في محلها، والكلمات بين قوسين هنا للريسوني، مع العلم بأن الأمر يتعلق بانقلابٍ دموي، فكيف للمرء أن يعبر عن ارتياحه لانقلاب دموي، كان من نتائجه قتل آلاف الأبرياء، والزج بالآلاف الآخرين في غياهب السجون، ظلمًا وعدوانا!
من دون الحديث عن أن مرسي كان رئيسًا منتخبًا ترشّح بطريقة ديمقراطية، ووصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وكيفما كان التقدير لكفاءته وقدرته على إدارة شؤون بلاده، فهو صاحب شرعية شعبية وديمقراطية أولاً وقبل كل شيء، قد يقال الكلام نفسه اليوم عن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، فهل يعقل أن يأتي من يعبر عن فرحته بالدعوة إلى الانقلاب عليه، لأنه غير كفء، أو لأن ترشيحه أصلاً كان غلطًا؟
الريسوني الإسلامي “يتشفّى” في تجربةٍ أجهضت بل ويؤيد الانقلاب ويبرّر الظلم
وبعيدًا عن الآراء المنتقدة تصريحات الريسوني التي رأت فيها نوعًا من “التشفّي” في تجربةٍ لم يكتب لها النجاح، لأن الفشل، كما يقال، عكس النجاح، لا أبوّة له، هناك ما هو أفظع – على حد تعبير الكاتب المغربي علي أنزولا – هو تبرير الظلم الذي تعرّض له الرئيس مرسي وجماعته، خصوصًا أن مثل هذا التبرير صدر عمن يعتبر نفسه “إسلاميًا”، فالريسوني بموقفه هذا، حتى وهو يدين الانقلاب، في جزء آخر من حواره، إدانة صريحة، إلا أنه يبدو كمن يؤيد الانقلاب أو يبرره، عندما يعبر عن فرحته، لأن الانقلاب أزاح الشخص الذي جاء “خطأ” إلى السلطة!
فكيف يمكن لمرسي وجماعته أن يراكموا تجربة الحكم، إذا كان الكل ضدهم، ويستعجل إطاحتهم، بمن فيهم حتى المحسوبين على التيار نفسه الذي ينتمون إليه، مثل الريسوني الذي فرح لإزاحتهم عن السلطة.
الريسوني عالم جليل عليه أن يعتذر دون مراوغة والاعتراف سيد الأدلة
الشيخ الريسوني عالم جليل من مجددي هذا العصر والذي تكن له أجيال الصحوة المودة والاعتراف بالفضل، وما ذكره عن تنظيم “إخوان مصر” من نقد في منهجهم وتكوينهم أمر مقبول نسبيًا ويشكر على صراحته لإخوانه وهو منهم، أما القطرة التي أفاضت الكأس والتي عليه أن يعتذر دون مراوغة والاعتراف سيد الأدلة، فقد يرى بعض الناس أن فضيلته “وقف في صف الجلاد بغباء وحسن نية وهو الأصولي المحنك”.
ولذلك حق لنا أن نعذره من باب “لكل جواد كبوة”، ولكن يفهم من تصريحاته للقاصي والداني في عمقها، عن شيئين مهمين على حد تعبير – الكاتب المغربي علي أنزولا – الأول عدم فهم بعض “منظّري” الإسلاميين قواعد اللعبة السياسية وشروطها، وما تتطلبه من مناورةٍ وتكتيكٍ وتخطيط استراتيجي، الثاني، وهو الأهم، مسألة تصوّر بعض الإسلاميين للديمقراطية والحكم.
فمن يحكم ليس مهمًا أن يكون جيدًا أو سيئًا، وإنما أن تكون له شرعية ديمقراطية، والحاكم المنتخب يبقى أفضل بكثير من المستبد العادل، لأن الأول يمكن محاسبته وإزاحته، بينما لا يقبل الثاني سوى السمع والطاعة، حتى عندما يظلم ولا يعدل،
ما حدث ويحدث في مصر ودول المشرق يا شيخنا الجليل، ليس موضوع ترف فكريّ، يمكن اختزاله في التعبير عن رأي، وإنما يتطلب موقفًا واضحًا لا لبس فيه من الانقلاب على سلطةٍ مدنيةٍ شرعية بوسائل عنيفة، وموقفًا واضحًا يدين الظلم الذي تعرّض له، وما زال يتعرّض له، آلافٌ من الأبرياء.
وأخيرًا، يتعلق الأمر بتصورٍ للديمقراطية التي تتطلب، في لحظة الحسم، للدفاع عنها المواقف الواضحة، وليس الآراء الملتبسة التي تجلد الضحية، وتبرّر فعل الجلاد، بل تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فالأصولي مبدأه الأول الشرعية والوضوح، وبالتالي حق لنا أن نطالب شيخنا أخويًا بضرورة الاعتذار، “وما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل” والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.