“عيون عبلة” عمل غنائي لكبير ممنوع مقموع، الفنان رشيد غلام، أدى فيه قصيدة رصينة رزينة وعميقة، كتبها الشاعر المصري مصطفى الجزار، استمد معانيها وكلماتها من ميازيب اللغة العربية، المغتربة بين أهلها، وتاريخ تليد مجيد غابر لم يبق منه إلا الخراب والسراب، عمل ضخم ومتميز، عرف مشاهدة غير مسبوقة تجاوزت ملايين المشاهدات “ما يقارب 3 مليون”، على صفحات قناة عربي 21 التي أنتجت المشروع ، للأسف لم يجد التغطية الإعلامية العربية العارمة اللازمة التي تخصص للعب الأطفال مما نراه ونسمعه يوميًا، أو مما يعطى لمحاولات ضعيفة تجد الدعاية التجارية والسيولة الكافية والتزييف الإشهاري والخبر المصنوع.
الشاعر المصري مصطفى الجزار
“عيون عبلة” أخرجها عبادة البغدادي، تنعي الواقع العربي الهش والمضطرب، وتربط الماضي بالحاضر، نموذج لما يجب أن يكون من أعمال فنية جمالية، تحارب القبح وتركز على الربح، في وقت التجويع الاستهلاكي الذي يدفعك لتشتري أكثر.
هذا الزمن الذي تحولت فيه الأغاني ووسائل الإعلام إلى أدوات حرب وقصف وخسف، وتحولت إلى معاقل وثكنات تشن الهجومات على الأمة، وتخرب كل جميل وأصيل، الخيال والمثال المقيم بالبيت، المعروض أمام الصبي والمراهقة، يتعلمون منه صباح مساء، إلى جانب الأسلحة الفتاكة، التي دكت سوريا اليوم، وكبحت ثورة مصر، ومزقت العراق وفتكت بلبنان، وقتلت فلسطين، حتى لو بقي أحدهم حيًا بالمعنى الترابي، فالأخطر من هذا أن تهدم هذه الأدوات الإنسان فيه، وهو جثة يمشي، غائب عن المعنى، فارغ المضمون، أو تحول الأنثى إلى دمية تجارية صماء بكماء.
صاحب هذا العمل الذي غنى لغزة ورابعة، محاصر أيضًا، وممنوع لأكثر من 16 سنة ببلده المغرب، فتحس من خلال ألحانه وتعبيراته الصوتية والجسدية بالأغنية معاناة، تحكي سنوات الظلم الذي طاله، والذي حال بينه وبين جمهوره بالمغرب أو بالأمة ككل.
فنان لم ينل حقه الطبيعي والقانوني في الفضاء العام والإعلام، وفي التغني أمام الناس الذين لهم حق تقييم عمله مع النقاد والإعلاميين، ولم تتح له كل الوسائل التي تفتح لأي فنان، فما بالك واحد بمقدراته وإمكاناته، ومع ما يحمله الرجل من رسالة ومن ثقافة وموقف وإلمام واسعين، تجد نفسك أمام “ماكينة” تواصلية وغنائية متكاملة، وفنان بما تحمل الكلمة من معنى، يتجول بك بين المقامات والنغمات، بكل احترافية وإجادة، بل ويغني لك أصعب المقاطع مما اشتهر قديمًا وحديثًا من المدارس الموسيقية المعروفة والكبيرة.
لكن للأسف ويا للحسرة، القائمون على الشأن الفني العربي أو المغربي على الخصوص، لهم رأي آخر، ولا يريدون لمثله أن يعرف، يسوقون لنماذج المسخ بكل بذخ، ويؤسسون للهواية والخلاعة والبشاعة، ويركزون على نوعية منتقاة بعناية ودراية، ممن يسمون زورًا وينتسبون للحقل الإبداعي، تحت سياسة ممنهجة ليست عبثًا، تقدم الرداءة والبذاءة والتفاهة والسفاهة، وتنشر اللعب بالأعراض، وتقيم مهرجانات تصرف عليها الملايين، تجلب الغربيبن بأمراضهم ووسوساتهم من الخارج، ليبثوا سمومهم بيننا، والقصد الأول هو التركيز على المرأة أساسًا، إما لتستولي عليها ذئاب بثياب “حب مزيف” أو لتشتريها أو تؤخذ مجانًا كسلعة.
الابتذال ووأد الحس والكراهية مقابل الحب والعنف والحقد، لهذا تدفع الأنظمة لأشباه المثقفين والناعقين والناهقين على حد سواء بسخاء، والنتيجة نشاز منتشر وفن مندثر، وغياب للتربية الجمالية والذوقية في كل ما يبث وينشر، وهجوم على روح الإنسان، وقسوة عليه وسخرية منه، وسلخه من هويته وجلده، وتحويله إلى خشبة بائسة يائسة يابسة، لا تحن ولاتئن.
وإننا حين نتحدث، فإن كثيرًا من الأصوات والأعمال والرجال الممنوعين المحاصرين والمشيطنين، يمكن أن يقولوا كلمتهم لو أتيحت لهم الفرصة، وهناك كثير من الفنانين الذين حشروهم في علب ليلية لكي يجنوا رزقًا مثلومًا ومتبوعًا بما يعرفه الجميع مما يقع بهذه الأماكن في غياب فضاءات ثقافية وصالونات أدبية بالمستوى الراقي المطلوب، لهذا على الجميع أن يساهم من موقعه في رفع التعتيم عنهم، في كل المجالات، لمقاومة هذه الحرب المسلطة على الأمة من كل الواجهات لقتلها ومسحها، وأكل خيراتها وثرواتها “كالقصعة” تداعى عليها الأكلة.