يشكل تحرير سرت الليبية من هيمنة قردة داعش المتوحشة، وفك قيود مواطنيها الذين يبلغ عددهم نحو 80.000 نسمة، خطوة تلقى كل الترحيب بليبيا ومنطقة الشمال الإفريقي عامة، بعد التخوفات التي أثارتها الحرب على التنظيم الهمجي بكل من سوريا والعراق، من أن يقوم بنقل مركز ثقله لليبيا ليتخذها نقطة انطلاق جديدة لعملياته الإرهابية بالمنطقة.
حرب بالوكالة
وعلى الرغم من أن عملية تحرير “سرت” باتت في مراحلها الأخيرة، فالوقت لا يزال مبكرًا على الاحتفال، في دولة بلا قيادة موحدة، تتنازعها الفصائل الباحثة عن مكاسب لإرضاء ممولين وداعمين إقليميين ودوليين واقتصاد غير فاعل وعنف واضطراب يعصفان بالبلد، الأمر الذي يعني أن البلاد بالكامل لا تزال أرضًا صالحة لظهور تهديدات أخرى، خصوصًا مع تواتر الأنباء عن تهريب التنظيم لأعداد كبيرة من قياداته لخارج سرت، لتأمينهم مع اشتداد الضغط عليه، لتكوين حاضنات وجيوب أخرى لإعادة إحياء التنظيم بمناطق التوتر بدولة المختار.
أزمة التناحر بين الفصائل تتعاظم مع اقتراب تحرير سرت
يدعم هذا التصور تأكيدات عدد من المصادر الليبية بأن غياب التماسك الاجتماعي والقدرة المؤسسية لإنشاء حكومة مركزية تستطيع فرض سيطرتها على كامل الدولة، تقف حجر عثرة أمام محاولات إعادة توحيد الدولة الهشة التي تركها نظام القذافي، فالحكومة لن تستطيع فرض نفسها بين الفصائل المختلفة والجماعات الجهادية والإجرامية، بل إنها لا تستطيع التأكيد على شرعيتها.
مخاوف مشروعة
تفكك الدولة الليبية والمخاوف من صراع النفوذ بداخلها على غنائم سرت، يقوي شوكة داعش والجماعات الإرهابية مستقبلاً، وهو ما أبرزه موقع “فورين بوليسي” الأمريكي، تحت عنوان “أخيرًا ليبيا تودع جحيم داعش.. لكن لماذا لا نرى محتفلين؟”، مشيرًا إلى أن خسارة داعش مقرها الرئيسي في سرت لا تعني القضاء عليها في ليبيا، فالجهاديون يحتفظون بعدد من الخلايا في عموم البلد، وإذا خسرت داعش مدينة سرت حقًا، فإن من المرجح أن تعود إلى أساليبها الإرهابية الأكثر تقليدية، من خلال استهداف المراكز السكانية وأكاديميات الشرطة وقواعد المليشيات بهجمات انتحارية، وستتيح الفوضى العارمة المجال أمامها، لزرع بذور الشقاق والسعي إلى عقد تحالفات مع مجموعات جهادية محلية أو إقليمية، إلى أن تتمكن مرة أخرى من استعادة قدرة الاستيلاء على الأرض.
عناصر من ميليشيا فجر ليبيا خلال معارك مع داعش في سرت
مراكز القوى
يبرر تصور الموقع الأمريكي، اندفاع مراكز القوى المتنافسة على التراب الليبي من جنرال الميدان خليفة حفتر وحكومته في الشرق إلى الحكومة المنافسة في طرابلس التي تحظى بالدعم الدولي، إلى المفتي الأكبر المتطرف في البلد صادق الغريني، حيث سعى الجميع إلى تصوير أن نجاح المعركة مع داعش يعتمد عليهم فقط، لنيل رضا الداعمين والممولين إقليميًا ودوليًا ومتابعة أجنداتهم الخاصة، وكل مجموعة تعرف جيدًا أن مجرد الظهور بمظهر الاشتباك مع “داعش” سيجلب لها دعمًا دوليًا، ويقوي ادعاءاتها بالشرعية، ما يعني أن البلاد قد تشهد تطورًا للحرب الأهلية من مجموعة من الصراعات المحلية إلى حرب شاملة على السيطرة، بين تحالفين لديهما مدفعية وقوة جوية ثقيلتين تحت تصرفهما.
أزمة داخلية
المشكلة لم تنته هنا بخلاف بين قوتين متنازعتين على السيادة، بل امتدت الأزمة لداخل الفصائل نفسها، وهو ما شهدته العاصمة طرابلس خلال الأسبوع الماضي، حينما استيقظ سكان عدد من أحياء طرابلس على أصوات إطلاق نار الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، استمرت ليومين، بين عدد من المجموعات المسلّحة التي تتمركز في المدينة، والتي شكلت فيما مضى تحالف ما عرف بعمليّة “فجر ليبيا”، وهو ما يؤكد الطلاق النهائي بين أطرافه.
وتركزت الاشتباكات في مناطق باب بن غشير والهضبة، ومحيط مقر المؤتمر الوطني سابقًا وقصور الضيافة وغابة النّصر.
إثبات وجود
ووفقًا لمصادر محلية تركزت الاشتباكات بين كتيبة غنيوة الككلي، وكتيبة محسوبة على الجماعة الليبية المقاتلة بقيادة طارق درمان والمتحالفة مع كتيبة صلاح البركي، من أجل السيطرة على معسكر 77 وغابة النصر، التي يتمركز فيها الأخير، قبل أن تتوسّع رقعة الاشتباكات وتنضم إليها “كتيبة ثوار طرابلس” بقيادة هيثم التاجوري، و”قوة الردع الخاصة” التي يقودها عبد الرؤوف كارة، وتصل حي الظهرة الملاصق لحي زاوية الدّهماني، حيث يوجد مقر “الفرقة السادسة” المحسوب على الجماعة الليبية المقاتلة، وسط تداول معلومات بأن هناك نية لتحالف قوات كارة والتاجوري وغنيوة، بالتوجه إلى مجمع قصور الضيافة والسيطرة عليه، وهو المكان المعروف كمقر للمؤتمر الوطني العام سابقًا، والذي تعرّض للاقتحام منتصف شهر أكتوبر الماضي من قبل ما يسمى بـ”حكومة الإنقاذ”، بالتعاون مع الحرس الرئاسي المكلف بتأمين المكان، فيما عرف بـ”انقلاب القصور” وقتها، الذي أخرج رئيس مجلس الدولة عبدالرحمن السويحلي من المكان الذي كان يتخذ منه مقرًا للمجلس.
تضارب المصالح الدولية يضر بالموقف الأممي بليبيا
المصالح الخارجية
في مقابل ذلك لا يمكن إغفال الدور الإقليمي والدولي الفاعل بالمشهد الليبي، حتى إن الولايات المتحدة وفرنسا تقاومان بشدة المبادرة الخاصة التي أسسها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، لدمج المصالح الغربية المختلفة في سياسة متماسكة لقتال الإرهاب والاتجار بالبشر، بينما يتم إقناع الساسة الليبيين بدعم هدف استعادة حكومة وطنية فعلاً، وقامت الدولتان بوضع العراقيل أمام عمل هذه المهمة، لأن ازدياد التوتر بين الفصائل وتناحرها يصب في صالح الدولتين للهيمنة على آبار النفط والولاء السياسي.
وسعت الدولتان لخلق حالة ممتدة من الفوضى، بدلاً من محاولة دعم حكومة مركزية موحدة، عبر تدعيم فكرة إقامة حكم محلي قوي وفعَّال، واتباع آليات لحل الخلافات القبلية، كون النظام القبلي من الركائز المهمة في ليبيا، لأن الأنظمة الاجتماعية الناتجة منه أكثر فاعلية، وقدرة على البقاء من الأحزاب والتحالفات السياسية والاتفاقات المحلية لها فرص أكبر في النجاح والاستمرار لمدة أطول لأنها تتضمن أطرافًا أقل، وبالتالي يمكن تنفيذها بالكامل، بالتوازي مع الجهود السارية للتوصل إلى تسوية سياسية بين الأطراف السياسية.
أزمة بين جيش حفتر والبنيان المرصوص
سيناريوهات وعوائق
خلاصة الأمر أن تحرير سرت من أيدي داعش سيثير أزمة بين الفصائل الليبية الراغبة في الهيمنة، ويطرح تساؤلات عدة عن مستقبل العملية السياسية المتعثرة أصلاً، بين انقسام الشرق حيث البرلمان الذي يترأسه عقيلة صالح، ويدعم اللواء خليفة حفتر وجيشه، وغرب فيه حكومة الوفاق الوطني المدعومة من كتائب الثوار في مصراته، القوة الأكثر تدريبًا التي تحارب “داعش” في سرت.
الخلاف بين القوتين الشرقية والغربية لن يتوقف على ما يظهر منهما فقط الآن، على أنه اختلاف على تفسير المادتين الثامنة والثالثة عشر من اتفاق الصخيرات، لكن التحول المؤكد في ميزان القوى بين قوات حفتر والبنيان المرصوص، بعد تحرير المدينة سيجعلنا أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول، أن تعيد الأطراف المعارضة لحكومة السراج النظر في سلوكها السياسي، والقبول بتسويات سياسية تعيد الحياة للعملية السياسية الداخلية، والبحث عن حلول مرضية لكل الأطراف، وفي مقدمتها تعديل بعض مواد الاتفاق السياسي، وفي مقدمتها المادة الثامنة، وبعدها يمنح برلمان طبرق حكومة السراج الثقة.
والثاني، وهو التصور المخيف حيث قد يجد تيار “عقيلة – حفتر” أنه الطرف الخاسر في معادلة القوى بتحرير المدينة، حيث سينال جيش البنيان المرصوص كل الثناء والثقة الدولية والإقليمية، ومعه القوة التسليحية، باعتبار الحظر المفروض على قوات حفتر، يضر بموقعه ومكانته في المشهد السياسي الداخلي الليبي، وهو ما دفعه للعمل على إعادة التوازن من خلال التحرك عسكريًا، بدعم بعض القوى الإقليمية، باتجاه منطقة الهلال النفطي والدخول في مواجهة مع قوات “حرس المنشآت النفطية” لتكون سيطرته على منابع النفط نقطة قوة له تعيده إلى مسرح الأحداث بقوة وتأثير.
إذًا لا بديل أمام حكومة السراج سوى الإسراع في المصالحة عبر الحوار الوطني، الذي يشمل كل الممثلين للشعب الليبي، والتسريع بدمج كل الكتائب المسلحة ضمن جيش ليبي موحد، فهل تنجح في ذلك؟ أشك.