في الثلاثين من نوفمبر الماضي، وخلال الدورة الوزارية الاعتيادية الـ171، أعلنت منظمة الدول المنتِجَة والمصدِّرة للنفط “أوبك”، عن أول اتفاق لتخفيض الإنتاج منذ العام 2008م، وعلى الإثر، ارتفعت أسعار النفط في الأسواق العالمية بنسبة ما بين 8 إلى 10 بالمائة، في أعلى ارتفاع لها منذ 19 شهرًا.
ورافق ذلك، حملة إعلامية من مصادر سياسية ودعائية سعودية وخليجية في الغالب، تناولت بالكثير من التشكيك في قدرة المستهلكين الكِبار من خارج “أوبك” على تدبير احتياجاتهم من النفط الخام من خارج المنظمة، التي تسيطر على أربعين بالمائة من الاستهلاك العالمي، وكذلك التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على تلبية احتياجاتها من الطاقة، من مكامن النفط والغاز الصخري.
ولعل أهم ما ساعد على ارتفاع الأسعار من متوسط 43/45 دولار للبرميل، إلى 55 دولار، لخام الأساس، برنت، في نهاية تعاملات السادس من ديسمبر، عاملان.
العامل الأول، هو أن اتفاق فيينا الأخير الذي كرَّس الصيغة التي تم التوصل إليها في اجتماع الجزائر الذي عقد في نهايات سبتمبر الماضي، وتقضي بتفيض الإنتاج الإجمالي للمنظمة، من مستوى 33.7 مليون برميل يوميًّا، وفق أرقام أكتوبر، إلى نحو 32.5 مليون برميل يوميًّا؛ عكس أمورًا سياسية أكثر مما عكس نتائج اقتصادية، ولاسيما فيما يتعلق بموافقة أكثر طرفَيْن إثارة للمشاكل، واستغلال ورقة الإنتاج سياسيًّا، وهما السعودية وإيران.
بداية، بلغت قيمة الخفض تقريبًا، 1.2 مليون برميل يوميًّا، بمعدل خفض، 4.5 بالمائة من إجمالي إنتاج دول “أوبك”، مع استثناء كلٍّ من ليبيا ونيجيريا من حصص الخفض بسبب الظروف الأمنية التي تمر بها، والتي أدت إلى تأثيرات كبيرة على قدراتها الاقتصادية، بحيث هي بحاجة إلى كامل طاقتها الإنتاجية، بالإضافة إلى ظروف مصادر النفط ذاتها في كلا البلدَيْن.
ووافقت الرياض، وهي ثاني أكبر منتِجٍ للنفط في العالم بعد روسيا، والمنتِج الأكبر في “أوبك”، على أن تتحمل الجانب الأكبر من التخفيض، من مستوى 10.54 مليون برميل يوميًّا، في أكتوبر الماضي، إلى 10.06 مليون برميل يوميًّا، أي بخفض بلغ حوالي نصف مليون برميل يوميًّا، وعلى وجه الدقة، 486 ألف برميل يوميًا، بينما تحملت دول الخليج العربية، 300 ألف برميل يوميًّا، كحصة خفض، الإمارات، 139 ألف برميل يوميًّا، والكويت 131 ألف برميل يوميًّا، وقطر 30 ألف برميل يوميًّا.
أما العراق، فقد وافق بعد أزمة كبيرة، على خفض يومي قدره 210 آلاف برميل، بعد احتساب معدلات إنتاجه من بيانات الشركات الأجنبية المسيطرة على مصادره النفطية، وليس بناءً على بيانات الحكومة العراقية.
في المقابل وافقت “أوبك” على صيغة وسط لإنتاج إيران اليومي؛ حيث تم تحديده بـ3.79 مليون برميل يوميًّا، بمقتضى سقف الإنتاج الجديد للمنظمة، ولكن هذا التحديد يعني السماح لإيران فعليًّا، بزيادة إنتاجها بنحو مائة ألف برميل يوميًّا عن معدلها في أكتوبر الماضي، والذي كان يبلغ 3.69 مليون برميل يوميًّا.
الأمر الثاني الذي ساعد على إسناد أسعار النفط عند مستوى 55 دولار، بعد تراجُع مؤقَّتٍ إلى مستوى 51 دولار، هو المؤتمر المقرر انعقاده في العاشر من ديسمبر الجاري، في فيينا، ويجمع بين كبار المنتجين من “أوبك”، ومن خارجها، من أجل التوصل إلى اتفاق شامل حول الإنتاج، لاستعادة التوازن بين العرض والطلب.
وهناك آمال كبرى معلقة على هذا الاجتماع، من أجل الحفاظ على وتيرة الصعود الحالية للأسعار، والوصول إلى نقطة الأمان التي حددتها تصريحات بعض مسؤولي قطاع النفط في بعض دول “أوبك”، ومن بينها الوزير السعودي، خالد الفالح، وهو حاجز الستين دولار، فيما تأمل الرياض ومنتجين كِبار آخرين في الوصول إلى مستوى 100 دولار للبرميل.
وبحسب الفاينانشيال تايمز البريطانية؛ فإن هذه الحالة من التفاؤل التي قاد إليها اتفاق فيينا؛ انعكست على بورصات النفط الدولية؛ حيث شهد يوم 30 نوفمبر، تداول أكثر من 1.7 مليون من عقود خام برنت الآجلة في بورصة إنتركونتيننتال، وهو ما يزيد على رقمها القياسي السابق، الذي حققته في يوليو من العام 2014م، وكان 1.5 مليون.
ونفس الموقف في تداولات مجموعة “سي. إم. إي” ببورصة نيويورك التجارية؛ حيث تداولت أكثر من 2.4 مليون عقد آجل لخام غرب تكساس، وهو ما يتجاوز رقمها القياسي السابق، 1.9 مليون عقد، حققته في 9 نوفمبر 2016م.
السياسة.. حاكمة!
هذه هي مجمل التطورات التي استجدت على سوق الطاقة العالمية في الآونة الأخيرة، ولها كالعادة خلفيات سياسية أكثر من كونها اقتصادية بالمعنى التقني المباشر.
خالد الفالح وزير الطاقة السعودي
الملمح السياسي الأول فيها، هو أن الأزمات الكبرى التي تعانيها موازنات الدول قد أدت إلى رضوخها مؤقتًا لمطالب التهدئة السياسية، كما تقدم في الموقف بين الرياض وطهران.
وهو ما يبدو أنه قد استوعب جهدًا كبيرًا في الوساطة من جانب دول “أوبك” الأخرى، وعلى رأسها الجزائر؛ حيث قام رئيس الحكومة الجزائرية، عبد المالك سلال، بزيارة إلى المملكة في الأسبوع الثالث من نوفمبر، وكان تنفيذ اتفاق الجزائر على رأس أولويات سلال خلال الزيارة، التي سبقتها زيارة لخالد الفالح إلى الجزائر قبلها بيومين فقط.
ووفق تقارير إعلامية رسمية وغير رسمية، من بينها تقارير لوكالة الأنباء الجزائرية “واج” ذاتها، وهي موجَّهة بالكامل، فإن كلا الزيارتَيْن رافقتها نقاشات أبرزت ضيق أعضاء “أوبك” من الموقف السعودي داخل المنظمة إزاء قضية تخفيض الإنتاج، بسبب المناكفات السعودية مع إيران وروسيا، على خلفية صراعات سياسية بين الرياض وبين كل من موسكو وطهران، كما في اليمن وسوريا؛ غالبية دول “أوبك” المأزومة اقتصاديًّا، لا ناقة لها ولا جمل فيها.
والجزائر على وجه الخصوص، اضطرت إلى أخذ قرارات تقشف عدة، كان لها أسوأ الأثر على موازنة العام 2017م التي أقرها البرلمان الجزائري مؤخرًا، وتنذر باحتجاجات اجتماعية واسعة، وبالتالي فهي تعاني من الكثير من المشكلات السياسية بسبب تراجع أسعار النفط، في ظل عدم قدرة الاقتصاد الجزائري للآن على استيعاب أثر العشرية السوداء في التسعينيات الماضية.
ولذلك؛ فإن الجزائر في سياساتها الخارجية في الأعوام الأخيرة، تباعدت كثيرًا عن القضايا العربية، منكفئةً على نفسها، وهو ما أثار ضيق الرياض، بسبب رفض الجزائر المشاركة في الحرب على اليمن، أو في التحالف “الإسلامي” الذي أعلنت عنه الرياض في نهاية 2015م، لمكافحة “الإرهاب”، مع شيءٍ غير يسير من الاستقلالية في المواقف، تجاه الأزمة السورية، بعيدًا عن مطالب الرياض التي أفسدت تقريبًا مختلف علاقاتها الإقليمية، حتى مع بعض الحلفاء الخليجيين، بشكل هدد مجلس التعاون الخليجي ذاته.
والتركيز في هذا الصدد على الموقف الجزائري، جاء بسبب أن الدور الجزائري كان حاسمًا بالفعل في اجتماع فيينا الأخير لـ”أوبك”.
نأتي لزاوية سياسية أخرى لموضوع خفض الإنتاج؛ حيث قادت القرارات الأخيرة، إلى انسحابٍ ثانٍ لإندونيسيا من المنظمة، بعد أقل من عام على عودتها لعضوية “أوبك”، منذ انسحابها الأول في العام 2009م.
المنتجون الخليجيون تحملوا الجانب الأكبر من الخفض بينما روسيا لا تنوي تقديم الخفض المتناسب
كلا الانسحابَيْن جاء بسبب اعتراض إندونيسيا على حصص الخفض، والتي حولتها في العام 2009م، من منتجٍ إلى مستوردٍ صافٍ للنقط الخام، وهو ما يتعارض مع شروط العضوية في المنظمة.
الملمح الأهم في مبررات إندونيسيا لتجميد عضويتها مرة أخرى، هو أنها لا يمكن أن تقبل خفضًا يزيد على خمسة آلاف برميل يوميًّا، لأنها أقرَّت ميزانية 2017م، بناء على معدلات الإنتاج الحالية، وهي حوالي 980 ألف برميل يوميًّا، بينما حددت “أوبك” الخفض المطلوب منها، بحوالي 37 ألف برميل، وبالتالي؛ فقد تم توزيع حصتها الإنتاجية على باقي الدول الأعضاء في “أوبك”، في اجتماع فيينا الأخير.
وهو ربما ما ساهم في تحسين الموقف داخل مفاوضات فيينا؛ حيث إن ذلك معناه زيادة إنتاج للدول الأخرى، قدرها مليون برميل يوميًّا، ولكن من دون زيادة فعلية في الإنتاج الإجمالي.
والخلافات أيضًا حاكمة!
هذه الصورة البلورية للموقف، لن تستمر، وسوف تكون السياسة كذلك هي الفاعل الرئيسي في ذلك، ولكن قبل ذلك؛ يجب التعرف على بعض العوامل التقنية التي سوف تقود إلى هذه النتيجة.
فهناك أولاً موقف المنتجين الكبار خارج “أوبك”، وعلى رأسهم روسيا، التي تُنتج في الوقت الراهن، ما معدله 11 مليون برميل، ووفق تقارير إعلامية؛ فإن روسيا لن تقبل تخفيضًا أكثر من 300 ألف برميل يوميًّا، وبشكل تدريجي طول المدى.
أما المنتجين الآخرين الكبار، مثل المكسيك وكازاخستان والنرويج، بالإضافة إلى إندونيسيا كما تقدَّم، أعلنت أنها خارج الاتفاق من الأصل.
إضافة إلى ذلك؛ أن أكبر مستهلكي النفط في العالم، مثل الصين والولايات المتحدة، لديهم الكثير من الوسائل التي يعوضون بها فارق الإنتاج الذي سوف يحدث بسبب اتفاق “أوبك”.
فالصين لديها مصادرها النفطية في أفريقيا، وتشمل مناطق تسيطر عليها في مناطق نزاعات واضطرابات أمنية، مثل السودان وكينيا، وتضع هناك قوات مسلحة لحمايتها، بالإضافة إلى شرائها للنفط السوري والعراقي والإيراني، وكذلك نفط إقليم كردستان العراق، والذي يتم إنتاجه خارج أي إطار رسمي يتم احتسابه في جداول الإنتاج العالمية التي تلتزم بما يتم تداوله في بورصات النفط العالمية الرسمية فقط.
وهي نقطة واضحة في جدول إنتاج العراق بشكل طريف للغاية. فـ”أوبك” عندما رغبت في تحديد حصة الخفض الخاصة بالعراق واجهت مشكلة بين أرقام الحكومة العراقية وبين أرقام الشركات التي تدير الحقول النفطية العراقية كما تقدم.
الحقول العراقية غير معروفة الإنتاج بدقة وبعضها خارج البيانات الرسمية!
الأكثر طرافة أن “أوبك” لم تستطع تحديد الحقول العراقية التي سيتم تقنين الإنتاج منها استجابة لحصة العراق من الخفض الأخير للإنتاج، والحكومة العراقية لم تلتزم بتقديم قائمة بهذه الحقول، لأنه في الغالب، وبالذات في حقول الجنوب التي تقع في مناطق تديرها إيران حرفيًّا، بجانب النفط الذي تسرقه حكومة إقليم كردستان العراق.
أما الولايات المتحدة، فقد نجحت في تطوير إنتاجها من النفط الصخري، ومن مصادر أخرى في خليج المكسيك وألاسكا، رغمًا عن أنف دعاة حماية البيئة.
وكان لجوء الأمريكيين إلى بدائل طاقة أخرى، أحفورية ونظيفة وغيرها، في غضون السنوات الـ12 الأخيرة، بجانب النفط والغاز الصخريَّيْن؛ قد أدى إلى خفض معدل استيراد الأمريكيين للنفط الخام يوميًّا إلى مستوى 4.6 مليون برميل، من 19 مليونًا إلى 19.5 مليون برميل يوميًّا تستهلكها الولايات المتحدة وفق معلومات إدارة الطاقة الأمريكية، للعام 2015م، أي حوالي ربع الاستهلاك فقط.
وهي سياسة سوف تتكرس بكل تأكيد في عهد الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، الذي لا يحمل أجندة إيجابية لا للخليج ولا لدعاة حماية البيئة.
ننتقل إلى الجانب السياسي. فلا يمكن بحال تصور صمود الرياض كثيرًا في لعبة عض الأصابع مع إيران، خصوصًا وأنه كما هو واضح، أنها قبلت على مضض، اتفاق “أوبك” الذي مثَّل مكسبًا لإيران.
ولعله ليس أدل على عدم رغبة الرياض حقيقةً في رفع الأسعار، هو أنها تحركت خارج مجال إمكانياتها النفطية عندما أرادت سد عجز موازنتها، من خلال طرح سندات سيادية بقيمة 17 مليار دولار، بنسبة تزيد 70 بالمائة عما كان مقررًا سلفًا.
فلو أن الرياض ترغب في سد عجزها المالي، لكانت قد تعاونت بشكل أكبر مع “أوبك” لرفع الأسعار إلى مستوى المائة دولار، ولكنها تضع أولوية لرد إيران وراء حدودها، أو على أقل تقدير تقييد قدرتها على تمويل مشروعاتها الإقليمية الطموحة.
كما أن تقييد إيران نفطيًّا له جانب سياسي آخر، يتعلق بالاتفاق النووي الذي أبرمته مع مجموعة الـ”5 + 1″ الدولية، في يوليو الماضي، والذي رفع العقوبات الدولية عن إيران، ومن بينها العقوبات النفطية.
وهنا تشترك الرياض مع واشنطن ترامب في نقطة مهمة، وهي حصار إيران، وهو ما أكده الكونجرس بمجلسَيْه الذي يهيمن عليهما الجمهوريون، الشيوخ والنواب، بتجديد العقوبات الأمريكية على إيران لعشر سنوات مقبلة.
وقد يرى البعض أن خفض مستوى الإنتاج يحقق ذات النتيجة، ولكن هذا مردود عليه بأمرَيْن، الأول أن اتفاق “أوبك” الأخير منح إيران زيادة فعلية، بجانب حصتها من الإنتاج الإندونيسي المعلَّق، والثاني، أن القدرات الإنتاجية لإيران لا تسمح لها حتى لو تم فتح المجال لدول “أوبك” لزيادة الإنتاجية، بالوصول إلى معدل إنتاجية يحقق لها مع تناسب الأسعار في الأسواق، بأن تحقق عائدات أكبر.
أي أن إيران حتى لو لم يتم خفض الإنتاج، لا تملك في الوقت الراهن بسبب عقود العقوبات، التقنية أو القدرات اللوجستية التي تمكنها من استعادة طاقتها الإنتاجية كاملة، وسوف تقف عند مستوىً قريب من المستوى الحالي لإنتاجيتها (ما بين 3 إلى 4 ملايين برميل يوميًّا)، وبالتالي؛ فإن خفض الإنتاج الذي يرفع الأسعار في مصلحة إيران.
وهو ما تدركه الرياض، لذلك هي تصر على عدم الخفض، وقبلت فقط بسبب ضغوط الجزائر بالتحديد كما تقدم.
ونفس المنطق يحكم الموقف السعودي والخليجي من روسيا، وزاد من حمية المعركة الخفية التي تتم بين ديناصورات الطاقة في العالم، التطورات الدراماتيكية الأخيرة في الأزمة السورية، وعجز الرياض والدوحة عن الاستمرار في تبني نهج أكثر شدة للإطاحة بالأسد، مع هزيمة المعارضة السورية المسلحة الواضحة، بتخلي الأتراك، حليفهم الأساسي، عنهم.
ولكن الروس لهم وسائلهم في الرد، وهو ما يردع السعوديين؛ حيث يستطيع الروس، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلاء وحلفاء إقليميين، تصعيد الوضع السياسي والأمني حول السعودية، في اليمن، وفي العراق، وفي سوريا الأبعد نسبيًّا عن الحدود السعودية المباشرة.
وفي الأخير؛ فإن أيام قليلة تفصلنا عن اجتماع فيينا الجديد لمنتجي النفط داخل وخارج “أوبك”، ولو فشل الاجتماع في تحقيق اختراق؛ فإن هذا يعني استمرار أزمات موازنات دول الخليج، في مقابل تحملها مغارم سياسية كبيرة بسبب الصراعات القائمة والتي أثرت على الموارد السيادية الأخرى لها.