ترجمة وتحرير نون بوست
يحمل صالح حقيبة جلدية سوداء وكانت أصابعه النحيلة تتحرك بعصبية فوق الحقيبة، بينما كان يحركها وكأنه يعزف على مفاتيح البيانو، لمرات عديدة خلال المقابلة، فتح صالح ملفًا لسحب مغلفين، وهي رسائل المحكمة التي رُفِض فيها طلبه للبقاء في روسيا، آخر هذه الرسائل كانت بتاريخ 3 من تشرين الثاني/ نوفمبر.
صالح هو أصيل حلب، لكنه كان في روسيا عندما دمرت القنابل منزله في تلك المدينة الشهيدة، الآن هو واحد من بين عدة آلاف من السوريين الذين يأملون في أن يمنحهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يشارك في الحرب السورية، مأوى قانونيًا إلى حين انتهاء القتال.
لكن صالح أخبر “الدايلي بيست” أنه فقد الأمل في النظام القانوني الروسي، ففي تشرين الثاني/ نوفمبر، فقد صالح البالغ من العمر 32 سنة، خلال المواجهة، أعصابه، وقال متحدثا عن تلك المواجهة: “القاضي أخبرني أن الحياة في حلب، التي تتعرض للقصف كل يوم، على ما يرام، وأنه عليّ العودة إلى سوريا، فأجبت قائلاً: “سيُقطع رأسي ويُرسل لك لتضعه فوق مكتبك، حينها سيكون قد فات الأوان لمنحي صفة لاجئ”.
إن أسوأ كابوس بالنسبة لمحامي “المساعدة المدنية” هو تلقي مكالمة هاتفية تعلمهم بأنه تم القبض على أحد عملائهم من قبل أجهزة الأمن الروسية وتقرر ترحيله إلى بلاده
خلال ذلك الأسبوع، استهدفت الصواريخ الروسية شرق حلب، في الوقت الذي يتباحث فيه الرئيس فلاديمير بوتين ودونالد ترامب حول “تنظيم الصراع” في سوريا.
من الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من الليل، يأتي الزوار الأجانب الفارين من منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق وآسيا بهدف رؤية محامين في المنظمة الوحيدة التي تقدم المساعدة القانونية للاجئين والمهاجرين غير الشرعيين في موسكو.
إلى جانب صالح، تجلس جوليان ماكوندو، وهي لاجئة من الكونغو، وتجلس بجانبها صديقتها مروى منصور علي، وهي لاجئة من اليمن، وكانوا بصدد تهدئة ابنة جوليان البالغة من العمر أربعة أشهر، وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من مروى وجوليان فرّتا من الحرب ومن التهديدات، وتحاولان في الوقت الراهن الحصول على لجوء مؤقت في روسيا، وقد قالت ماكوندو متحدثة للدايلي بيست: “كل يوم تقريبًا، إما أن توقفني الشرطة للتحقق من أوراقي وإما أن يصرخ شخص ما في وجهي بسبب لون بشرتي”، وهذا في السياق، قالت مروى “لا أحد يهتم بحرب اليمن في روسيا، على الأقل هم يتحدثون عن سوريا في الأخبار”.
في “يوم الوحدة” في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، انظم مئات من الناشطين اليمينيين المتطرفين الروس للمظاهرات في جميع أنحاء العالم مرددين العبارة المعتادة: “روسيا للروس”.
كان هذا الحدث مرعبًا بالنسبة للاجئين، لكن عدد القوميين المتطرفين الذين تجرّأوا على المشاركة في هذه المظاهرة يُعدّ أقل بكثير من السنوات الفارطة، وذلك لأن السلطات الروسية شنت حملة على الناشطين الذين يتبنون الإيديولوجية النازية في روسيا.
وقالت مروى منصور: “إذا حكمنا من خلال رفض السلطات الشديد لمساعدتنا، فإنه يبدو أن الموقف السلبي تجاه السود له جذور عميقة في عقول الروس والدولة”.
أما ماكوندو، البالغة من العمر 26 سنة، فقد فرت من كابوس في الكونغو لتجد نفسها في قصة رعب أخرى في روسيا، ففي السنة الفارطة، تم اختطاف زوجها الذي يعمل مراسلاً ومصورًا، وكانت ماكوندو حينها في مرحلة مبكرة من الحمل وتلقت تهديدات بالقتل، الأمر الذي جعلها تحرص على الهرب.
“المساعدة المدنية” هي الجهة الشرعية الوحيدة التي تساعد مئات الآلاف من اللاجئين الفارين من مناطق الحرب حيث تقاتل روسيا فيها
عن طريق الصدفة، كما قالت، التقت ماكوندو برجل روسي في برازفيل، حيث أخبرها هذا الروسي أنه يعمل في الحكومة الروسية وبإمكانه مساعدتها على الهرب من الكونغو، وبعد أسابيع قليلة، وصلت ماكوندو إلى روسيا بتأشيرة روسية في جواز سفرها، بعد وصولها، اكتشفت أن الرجل الروسي الذي ساعدها كانت له خطة أخرى: فقد احتجز ماكوندو في شقة لأكثر من شهرين وقام باغتصابها، إلى أن تمكنت من الهرب ووجدت “المساعدة المدنية”، التي وفرت لها ولابنتها الرضيعة مأوى.
منذ سنة 1990، تمكن فريق المساعدة المدنية من توفير المساعدة القانونية لأكثر من 50 ألف من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين والنازحين من مناطق القوقاز والشرق الأوسط وإفريقيا وأوكرانيا وآسيا الوسطى، خلال هذه السنة، حصلت مؤسستها ومديرتها سفيتلانا غانوشكينا البالغة من العمر 74 سنة على “جائزة رايت ليفيلهوود” والتي تعرف باسم “جائزة نوبل البديلة” لشجاعتها.
لكن الكرملين لا يستحسن عمل المساعدة المدنية، ففي السنة الفارطة، وصفت وزارة العدل الروسية المنظمة غير الحكومية بأنها “عميل أجنبي” وأنها تحصل على منح من مؤسسات أجنبية، الأمر الذي قالت عنه غانوشكينا: “شبيه باتهامنا بأننا جواسيس”، وذلك في مقابلة أجْريت معها مؤخرًا.
في المقابلن ليس لدى غانوشكينا وزملائها الوقت للقلق بشأن مستقبل المنظمة، حيث يؤمنون أن احترام دولة لقيم الديمقراطية والإنسانية يمكن تقييمه من خلال معاملة تلك الدولة للاجئين.
منذ ساعات الصباح الباكر، تضج غرفة استقبال مكتب المساعدة المدنية في موسكو بأناس يائسين مثل صالح، وقالت غانوشكينا بتأثر واضح: “حاول أن تخمن عدد السوريين الذي فروا من الحرب والذين تمكنوا من الحصول على لجوء رسمي في روسيا، شخصين فقط حتى الآن، من أصل نحو 10 آلاف سوري”، ثم أضافت “يا له من أمر مخز! في السنتين أو الثلاث سنوات الفارطة، لم تمنح روسيا أكثر من 700 لجوء رسمي، حيث إن أقل من 300 لجوء كانوا من نصيب الأوكرانيين، إن الخلاصة تتمثل في أن روسيا لا تريد أن ترى أيّا من هؤلاء اللاجئين هنا، وكثيرًا ما نسمع هذا من قبل المسؤولين”.
إن مصير الأوكرانيين مثير للسخرية، فقد فرّ حوالي مليون أوكرانيّ من الحرب في منطقة دونباس، لكن منذ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر، أصبح الأوكرانيون مضطرون للانصياع لقواعد منح التأشيرات، مثلهم مثل كل الأجانب المقيمين على الأراضي الروسية، وذلك على الرغم من أن دونباس لا زالت تتعرض إلى القصف من كل الاتجاهات، وبذلك، فإن الأوكرانيين لا يُعتبرون لاجئين بعد الآن، وذلك وفقًا لمحامي المساعدة المدنية إلاريون فاسيلييف.
“إذا حكمنا من خلال رفض السلطات الشديد لمساعدتنا، فإنه يبدو أن الموقف السلبي تجاه السود له جذور عميقة في عقول الروس والدولة”
إن أسوأ كابوس بالنسبة لمحامي “المساعدة المدنية” هو تلقي مكالمة هاتفية تعلمهم بأنه تم القبض على أحد عملائهم من قبل أجهزة الأمن الروسية وتقرر ترحيله إلى بلاده، قال فاسيلييف متحدثًا عن هذا الإجراء: “نحن عادة ما نسرع في الحصول على حظر لقرار الترحيل من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، مثل هذا الحظر عادة ما يمنع السلطات الروسية من ترحيل عملائنا، ويمكن أيضًا للسلطات أن تتجاهل ذلك الحظر، وهو ما حصل مع أحد عملائنا الأوزبك في مدينة قازان، والذي تم ترحيله”.
من بين آلاف اللاجئين السوريين القادمين إلى روسيا، لم يتلق إلا عدد قليل اللجوء المؤقت، وذلك قبل الحملة الأمنية الأخيرة، ففي السنة الماضية، بقي حسن وجوليستان أحمدز في خيمة خارج مطار شيريميتيفو لمدة سبعة أيام، ثم تمكنوا من الحصول على إقامة وقتية تخول لهم البقاء في روسيا لمدة سنة.
لماذا لا تمنح روسيا الفرصة لصالح وغيره من السوريين الناطقين بالروسية أن يفعلوا شيئًا جيدًا لهذا البلد؟ فمنذ الوهلة الأولى التي قدم فيها صالح إلى موسكو سنة 2013، أحب العاصمة كثيرًا.
تمكن صالح من إيجاد وظيفة رسمية في شركة روسية تنتج أغطية السرير، وقامت هذه الشركة بتسجيل اسمه في سجل العمل الذي قام بإخراجه من حقيبته الجلدية ليريه لمراسل “الدايلي بيست”، قائلاً: “أنا لن أستسلم، وسوف يُستأنف قرار المحكمة مرارًا وتكرارًا، إن الترحيل يعني الموت بالنسبة لي“.
المصدر: صحيفة الدايلي بيست