المادية هي نظام الحياة الذي لا يؤمن بالروحانية، وهذا يعني أنه لا يتفق كثيرًا مع الدين، ففي مجتمع يميل إلى تقديس الملكية، من ملكية الأشياء المادية وحتى ملكية الأشخاص في حد ذاتهم، تهيمن المادية – والتي يتم تعريفها بالـ”Materialism” في اللغة الإنجليزية – على من يقدس كل ما كان ملموسًا بدلًا من كل ما هو شعوري، لتتحول في العصر الحالي لما يسمى بالمذهب المادي.
ما تهدف إليه المادية هو ببساطة السعي نحو التملك، تملك السلع، تحقيق المتعة عن طريق ملكية شيء ما، الوصول للنجاح عن طريق الحصول على كل ما يرغب الفرد بشرائه، ومن هنا يميل الفرد إلى المصلحة الذاتية أكثر من التكافل، فيكون الطمع أمرًا عاديًا بل مقبولاً بين من يتبعون هذا المذهب في حياتهم، ويتساوى تكديس المشتريات وتجميع الممتلكات بالنجاح، فيصبح ذلك انتصارات صغيرة في حياة الفرد.
لا يتم نقد النظام المادي من مبدأ الحقد الطبقي، ولكن يصفه الباحثون في علم النفس والفلسفة بنظام مجتمعي يؤثر على كل من الغني والفقير على حد سواء، من حيث كونه نظامًا يختزل القيمة المجتمعية في قيمة الممتلكات، وبذلك فهو نظام مدمر على المستوى المجتمعي، وعلى المستوى الذاتي، فهو يسلب الإرادة الفردية قبل المجتمعية، ويعمل بنفس الميكانيكية التي تتشابه في عملها بعمليات غسل الأدمغة والتلاعب فكريًا بالأفراد.
كلما كنت ماديًا، كلما كنت تعيسًا!
وجد الباحثون كذلك علاقة وطيدة ما بين المادية والانعزالية وقلة التفاعل مع الآخرين، وكذلك الحزن المستمر المصحوب بالقلق الدائم أو الاكتئاب أحيانًا، وبمرور الزمن لم تكن تلك علاقة بين بضعة متغيرات فحسب، بل تم اكتشاف أن للمادية علاقة مسببة لكل ما سبق ذكره من متغيرات، فكلما كان الإنسان ماديًا أكثر، كلما قلت علاقاته الاجتماعية مع من حوله، وقلّت قوة ارتباطها كذلك.
أثبت ما سبق دراسة أجريت على مجموعة من الشباب في عمر الثامنة عشر، عن أهمية المادة في حياتهم، ونظرتهم للنجاح، إما في الحصول على فرصة عمل جيد أو اكتساب مزيد من المال، أو في تحقيقهم لذواتهم، ليجري الباحثون نفس التجربة عليهم بعد مرور اثنتي عشرة سنة على التجربة الأولى، لتكون النتيجة بأن كل من كان يميل في نظام حياته إلى النظام المادي، كان يعاني من اضطرابات عقلية تتغير من طفيفة إلى شديدة من شخص لآخر، أما كل من كان لا يميل إلى الماديات كوسيلة لتحقيق الذات والنجاح، فكان أكثر سعادة من أقرانه المشاركين.
مزيد من المال، مزيد من المشاكل
هل سمعت من قبل بمقولة “مزيد من المال يعني مزيدًا من المشاكل”؟، ربما تبدو المقولة شديدة الغرابة لمن يقرأها الآن، لا سيما أن الحل لكل المشاكل يكمن في الحصول على المال للقضاء عليها، أو هكذا يظن الكثير منّا، ولكن إذا عقدنا مقارنة صغيرة بين حياتنا الآن وحياة من سبقونا منذ خمسين عامًا مضت، فسنجد أننا بلا شك نأكل أضعاف ما كانوا يأكلون في السابق، وتضاعفت كميات مشترياتنا عما سبق، لتتضاعف معها ديون العديد من الأفراد للبنوك على بطاقات الدين الخاصة بهم.
لم يتغير نمط الحياة عما كانت في القرون السابقة من لا شيء، فلا يمكن أن تتضاعف الرغبة في الشراء من العدم، بل اتجهت الثقافة الاستهلاكية في جعل شراء البضائع وامتلاكها كشيء شديد المتعة بالنسبة للناس، فتحقيق السعادة يتم عن طريق الذهاب إلى المحل التجاري لشراء ما يرغب به الفرد من منتجات ربما لا يحتاج هو أغلبها، إلا أن علامات خصومات الأسعار التي تملأ واجهات المحلات تثيره، وترضيه، لتحقق له رغبته في الشعور بالسعادة.
هذا هو النظام الاقتصادي الذي نتبعه، وهو الشراء المستمر، الكل يشتري، لا يهم إن كان الكل يملك المال اللازم للشراء أم لا، المهم أن يشتري في النهاية، فعلى الرغم من كل ما يمر به العالم من مشاكل متعددة، إلا أننا سنستمر في شراء الكثير والكثير من البضائع التي لا نحتاجها بالمال الذي لا نمتلكه.
من الممكن أن تدمر المادية علاقتك بشريك حياتك
ربما يسعى البعض للحصول على أعلى معدلات للدخل الشهري، لكي يقوم بشراء كل ما يحتاجه هو وأسرته، إلا أنه أثبتت الأبحاث بأن كلما زاد اهتمام الناس بالماديات وأسسوا علاقتهم الزوجية عليها، كانوا أكثر تعاسة وزاد معدل انتهاء العلاقة في المستقبل، فعلى الرغم من أنه ليس هناك علاقة مباشرة تمامًا بين المادية وفشل العلاقات الزوجية، فهي سبب لا يستهان به في فشل التواصل بين الزوجين أحيانًا وانشغالهم المستمر بما كان يجب عليهم شراءه بدلًا مما يجب أن تكون عليه رابطتهم العاطفية.
هل يمكن أن يصل بنا الأمر إلى الاضطرابات النفسية؟
هذا احتمال ليس ببعيد، حيث أثبتت الأبحاث أنه ربما تكون الثقافة الاستهلاكية التي تهيمن على العديد من المجتمعات الآن، من أحد أهم الأسباب في الاضطرابات النفسية التي تؤدي بالبعض إلى جنون العظمة، والتي تكون معالمه الغرور وحب النفس، والميل دومًا لتحقيق المصلحة الذاتية، بحيث يميل هؤلاء إلى الماديات في إخفاء الفراغ الداخلي الذي يحتل نفوسهم، لتكون المادية بذلك سببًا كافيًا لهم للسيطرة.
هل أنت محاط بكل ما تستطيع التخلي عنه بسهولة؟
تخيل حدوث حريق مفاجئ في منزلك؟ ما أهم الأشياء التي ستهتم بحمايتها من الحريق؟ هل سيتجه عقلك فورًا إلى هاتفك المحمول أم إلى حاسوبك الفخم أم إلى الساعة التي تساوي آلاف الدولارات؟ لننس الحريق إذًا، ماذا لو سألت نفسك قبل شراء أي منتج جديد سؤالين؟ هل أنت بحاجة شديدة له بالفعل؟ وهل ستسطيع التخلي عنه بسهولة في يوم من الأيام؟ ربما يكون الأمر صعبًا على البعض، إلا أن الاعتماد على الماديات كمصدر للسعادة لن يجعلك تتخلى عن كل ما كان ملموسًا بسهولة، وهو ما يمكن أن يسلبك حريتك وإرادتك الشخصية في النهاية دون وعي منك.