بعد ثلاث سنوات من اتهامه بالتجسس وتسريب معلومات سرية للصحافة والإعلام، ها هو عميل الاستخبارات الأمريكية السابق إدوارد جوزيف سنودن يعود إلى الأضواء مجددًا عبر تسريبات جديدة تكشف الغطاء عن معلومات تفيد بتجسس الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا خلال السنوات الماضية على أصدقائها وحلفائها بمنطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتهم إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية.
التسريبات كشفت تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية وجهاز المخابرات البريطاني على الاتصالات الهاتفية التي تتم من على متن الطائرات، بما فيها الخطوط التجارية، وعن تجسسها على مسؤولين إسرائيليين وأردنيين وفلسطينيين، فضلاً عن إحكام المراقبة على الخطوط الجوية الفرنسية بصورة محددة، مما أثار العديد من علامات الاستفهام عن تطور نظام المراقبة الاستخباراتي الأمريكي من جانب، واستهدافه للحلفاء والأصدقاء بالتجسس من جانب آخر.
التجسس على الفضاء
التجسس الأمريكي على دول المنطقة ليس مفاجأة في حد ذاته، فالجميع يعلم مخططات واشنطن الاستخباراتية في مراقبة كل ما يحدث في المناطق الساخنة في مختلف دول العالم، لكن المثير هذه المرة أن نظام التجسس انتقل من الأرض إلى الفضاء، حيث مراقبة الطائرات وما يدور عليها من محادثات.
وفق ما نشره موقع “ذي إنترسبت”، نقلاً عن أرشيف العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن، فإن الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق وكالة الأمن القومي (N.S.A)، وبريطانيا عن طريق جهاز الاستخبارات العام (G.C.H.Q)، استحدثا نظامًا للتجسس على الطائرات المدنية منذ عام 2005، قادر على مراقبة الهواتف المحمولة في الجو، من خلال تتبّع إشارات الأقمار الصناعية وإشارات محطات سرية هوائية على الأرض، تلتقط إشارة أي هاتف في الطائرات، على ارتفاع 10 آلاف قدم عن سطح الأرض، وتتحدد بعد ذلك هوية صاحبه.
هذا الأسلوب المخابراتي في بدايته ربما كان صعبًا نظرًا لعدم إدخال تقنية استخدام الهواتف الذكية في الطائرات، لكن مؤخرًا وبعدما سمحت معظم شركات الطيران باستخدام هذه الهواتف على متنها، بات الأمر سهلاً للغاية، وهو ما دفع وكالة الأمن القومي الأمريكي لتكتب في إحدى مذكراتها الداخلية عام 2009 بأن السماء يمكن أن تصبح ملكًا للوكالة الأمريكية.
العديد من التساؤلات تفرض نفسها أيضًا بشأن التعاون المخابراتي البريطاني مع نظيره الأمريكي في قضية التجسّس على حلفاء المنطقة، وهنا يرى مراقبون أن بريطانيا ربما تتجسس لصالح الاستخبارات الأمريكية، لا سيما وأنها شريك في هيئة “الأعين الخمس” وهي أكبر رابطة استخبارية في العالم، وتضم بريطانيا، كندا، أستراليا، نيوزيلندا، فضلاً عن التقاء مصالح الطرفين فيما يسمى بالقضاء على الإرهاب، إضافة إلى المنح والمساعدات العسكرية والتكنولوجية والمادية التي تحصل عليها أجهزة المخابرات البريطانية من الولايات المتحدة.
العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية، إدوارد سنودن
الخطوط الجوية الفرنسية.. لماذا؟
التقرير المنشور كشف عن مسألة غاية في الخطورة، إذ أظهر أن الخطوط الجوية الفرنسية (إير فرانس)، هي أبرز أهداف نظام التجسّس الجوي، حيث جاء اسمها أكثر من مرة في مذكرات وكالة الأمن القومي من ضمن مشروع تعقّب الطائرات المدنية في العالم أجمع، وأن هذا التكرار ليس عشوائيًا ولا عبثيًا.
الهدف المعلن بحسب التقرير هو تجنب وقوع عمليات إرهابية مثلما حدث في 11 من سبتمبر 2001، حيث تعتبر وكالة الاستخبارات المركزية، أن رحلات الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط الجوية المكسيكية، هدفان محتملان لاعتداءات إرهابية، وهو ما كشفت عنه وثيقة تعود إلى عام 2003 صادرة عن وكالة الأمن القومي الأمريكي جاء فيها أنه لا شيء قانوني يمنع مراقبة هاتين الشركتين الجويتين في الخارج، وعندما تصبحان في المجال الإقليمي الأمريكي، عليهما أن تخضعا لمراقبة مكثفة.
الرقابة على الطائرات المدنية وفي مقدمتها الخطوط الفرنسية لا تقتصر فقط على الاتصالات الهاتفية، بل تطرقت أيضًا إلى المعلومات والرسائل والبريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعمل تحت النظام العالمي للاتصالات المتنقلة، وهي محصورة في مناطق أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.
التجسّس على إسرائيل
المثير للدهشة في التسريبات المنشورة أنه بالرغم من التحالف المقدس بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والذي وصل إلى القول أحيانًا إن واشنطن هي ذراع تل أبيب السياسية والعسكرية في العالم، تلجأ الاستخبارات الأمريكية والبريطانية إلى فرض نظام مراقبة شديد التقنية والتطور على إسرائيل.
وبحسب الموقع الأمريكي فقد بيّنت الوثائق أن البريطانيين تجسّسوا على دبلوماسيين إسرائيليين في الداخل والخارج، وراقبوا أيضًا مؤسسات خاصة في قطاع الدفاع وأجهزة في الدولة معنية بالتعاون الدولي ومراكز جامعية معروفة بمستواها العلمي العالي منها الجامعة العبرية في القدس، وهو ما يعزز من صحة ما نشرته كل من صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية و”دير شبيغل” الألمانية، بشأن تجسّس بريطاني وأمريكي على اتصالات مكتبي رئيسي الوزراء الإسرائيليين بنيامين نتنياهو ويهود أولمرت.
صورة تفصيلية لكيفية التجسّس على الطائرات المدنية
ليست الأولى
لم تكن تسريبات سنودن الأخيرة بشأن التجسس الأنجلو أمريكي على إسرائيل هي الأولى من نوعها، فقد سبقها العديد من الوثائق المسربة أيضًا والتي تفيد بأن المخابرات الأمريكية والبريطانية تجسست لأكثر من 18 عامًا على منظومة “الطائرات دون طيار” التي تملكها إسرائيل، من خلال قاعدة عسكرية محصنة في قبرص وأخرى في بريطانيا، واستطاع الطرفان في إطار حملة عسكرية أطلق عليها اسم “فوضوي” (Anarchist)، أن يفكا الشفرات التي تستخدمها إسرائيل خلال نشاطاتها العسكرية في الشرق الأوسط.
وطيلة فترة الـ18عامًا، تمكنت المخابرات الأمريكية والبريطانية من اختراق الشفرات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي لتشغيل هذه الطائرات في نشاطاته الاستخباراتية والعسكرية في المنطقة، وهو ما دفع مسؤولاً عسكريًا إسرائيليًا للتعليق على هذه التسريبات بأنها “هزة أرضية في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي”.
قضية التجسس في حد ذاتها ليست جديدة على الإسرائيليين، فهم يعون جيدًا أن عمليات التجسس الأمريكي والبريطاني على سلاحهم الجوي لم تكن وليدة اليوم، فهي إيمان منها بأن أمريكا تتجسس على العالم بأسره، الصديق والعدو، بيد أن “الزلازل” الذي تلقته مؤخرًا هو استمرار التجسس منذ ما يقارب الـ18 عامًا.
الضربة الموجعة التي تلقتها القيادة العسكرية الإسرائيلية عبر التسريبات الأخيرة، تمثلت في التجسس على منظومة “الطائرات دون طيار” واختراق الشفرات التي يستخدمها الجيش في أنشطته الاستخباراتية والعسكرية، لا سيما خلال السنوات القليلة الماضية، والمتزامنة مع حالة الصراع السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط.
قضية التجسس في حد ذاتها ليست جديدة على الإسرائيليين، فهم يعون جيدًا أن عمليات التجسس الأمريكي والبريطاني على سلاحهم الجوي لم تكن وليدة اليوم
الوثائق المسربة كشفت النقاب عن بعض اللقطات والصور التي تم الحصول عليها عبر منظومة التجسس التي فرضتها المخابرات الأمريكية البريطانية، كان أبرزها لقطات من كاميرات فيديو من الطائرات دون طيار، بين عامي 2009 و2010، وأخرى عام 2008 في الضفة الغربية وقطاع غزة والحدود مع لبنان وسوريا، الأمر الذي أتاح للاستخبارات معرفة الأهداف ومناطق التجسس الإسرائيلي.
وفي المقابل تعي واشنطن جيدًا أن تل أبيب تسخر أجهزتها الاستخباراتية للتجسس والمراقبة على بعض الملفات الإقليمية، وهو ما تم كشفه مؤخرًا بشأن تجسس إسرائيل علي أمريكا فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي، وهو ما أكدت تل أبيب توقفه نهائيًا، وذلك عقب إلقاء القبض على جوناثان بولارد المجند في البحرية الأمريكية، والذي جندته إسرائيل كعميل لها في الثمانينيات.
الطائرات دون طيار الإسرائيلية.. أبرز أهداف منظومة التجسّس الأمريكية البريطانية
فلسطين والأردن.. أهداف ضيقة
يبدو أن هناك تعاون واضح بين أجهزة الاستخبارات الأردنية والأمريكية، وهو ما كشفت عنه التسريبات الأخيرة التي ورد في إحداها أن جهاز الاستخبارات الأردني يقدم لوكالة الأمن القومي العديد من الأسماء المستهدفة في التجسّس، ومع ذلك، فإن أسماء منسّقين في الديوان الملكي الأردني ورئيس بروتوكول الملك والسفير الأردني في واشنطن، ترد في اللوائح الطويلة لجهاز الاستخبارات البريطاني كأهدافٍ للتجسّس.
ومن ثم فقد شكلت السلطة الفلسطينية والأردن هدفين ضيقين للتجسّس الأمريكي، كما راقبت بريطانيا أيضًا في عامي 2008 و2009، شخصيات في السلطة الفلسطينية واتصالات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الوفود الفلسطينية في العالم، خصوصًا في فرنسا وبلجيكا والبرتغال وباكستان وجنوب إفريقيا.
ما الهدف من التجسس؟
بعيدًا عن الأهداف المعلنة بشأن دوافع التجسّس على دول المنطقة وفي مقدمتها إسرائيل والتي تتمحور في تجنب تكرار 11 من سبتمبر جديد، إلا أنه ووفق تحقيق أمريكي منشور، فإن هناك أهداف أخرى لم يتم الكشف عنها علانية.
التحقيق الأمريكي نوه إلى أنه وبموجب توجيهات سياسية رفيعة، بذل جهازا المخابرات الأمريكي والبريطاني جهدًا كبيرًا في مراقبة تجهيزات إسرائيلية ممكنة لشن ضربة عسكرية في إيران، وهو ما دعمته الوثائق المنشورة قبل فترة بشأن تجسس واشنطن على مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خشية من أنه ينوي شن حملة عسكرية غير منسقة مع البيت الأبيض.
أمريكا وبريطانيا ضمن حملتهما الاستخباراتية قامتا بالتجسس على العديد ممن دول المنطقة أيضًا منها مصر وتركيا وإيران وحزب الله، لكن إسرائيل كانت الهدف الأساسي لهذه الحملة.
التحقيق الأمريكي نوه إلى أنه وبموجب توجيهات سياسية رفيعة، بذل جهازا المخابرات الأمريكي والبريطاني جهدًا كبيرًا في مراقبة تجهيزات إسرائيلية ممكنة لشن ضربة عسكرية في إيران
ومن الأهداف الأخرى التي سعت إليها واشنطن من وراء مراقبة إسرائيل، البحث عن معلومات عن البناء وراء الخط الأخضر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وآخر ما توصلت إليه مفاوضات المشروع الاستيطاني الذي يدعمه وزير الخارجية جون كيري، لا سيما أنه بين فترة وأخرى تتأرجح العلاقات بين إسرائيل وأمريكا، لاختلافهما في بعض من ملفات منطقة الشرق الأوسط العالقة منذ سنوات طويلة، على الرغم من قوة العلاقات التاريخية المتبادلة، بينهما عقب توقيع اتفاق إيران النووي.
استهداف البرنامج النووي الإيراني الهدف الرئيسي لإسرائيل
الوثائق المسربة كشفت أن كلا الجانبين، أمريكا وإسرائيل، يتجسسان على بعضهما البعض، ومع ذلك لم تعلق المخابرات هنا أو هناك، إيمانًا منهما بأن من حق كل دولة أن تسعى وبشتى السبل للحصول على المعلومات المتعلقة بالملفات الحيوية التي تمثل تهديدًا لمستقبلها وحياة شعوبها، فالجانب الأمريكي يسعى إلى معرفة المخططات التوسعية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، والنوايا فيما يتعلق باستهداف إيران بضربة عسكرية، إضافة إلى الموقف العسكري من الملف السوري، أما من ناحية الجانب الإسرائيلي، فهناك رغبة جامحة في الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني، وتوجهات واشنطن حيال طهران من جانب، والملفات الإقليمية الساخنة من جانب آخر.
لكن يبقى السؤال.. هل يعكس الصمت الإسرائيلي حيال التجسّس الأمريكي على منظومتها الجوية – العسكرية والمدنية – قبولاً ورضا عن هذه الممارسات، أم هدوءًا يسبق العاصفة، خاصة وأن الكشف عن بعض الصور واللقطات لتحركات الجيش الإسرائيلي تعد ضربة موجعة، واعترافًا صريحًا بفشل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، مما يشوه الصورة الذهنية لهذه المنظومة المخابراتية إقليميًا ودوليًا، وهي التي تعتمد عليها تل أبيب في تسويق قوتها العسكرية الهائلة أمام الدول العربية؟