عانت كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي من مشاكل وأزمات اقتصادية مثيرة خلال الأزمات المالية العالمية مثل أزمة العام 2008 وأزمة منطقة اليورو لاحقًا وأزمات متفرقة متعلقة بالبطالة ومشاكل ائتمانية أصابت كل دولة على حدة، أدت جميعها لتكدس أعداد العاطلين عن العمل وإفلاس الكثير من الشركات وإغلاق أخرى ودخول القطاع المصرفي في تلك البلدان مشكلة ائتمانية معقدة ناجمة عن تأخر وتخلف في السداد من قبل المقترضين وانخفاض الإقراض بسبب ارتفاع التكلفة.
ومن تلك الدول المتأثرة بريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا إلا أن تأثرها جاء بشكل نسبي تبعًا للسياسات التي اتبعتها للتخفيف من حدة الأزمة من جانب ومن جانب آخر نوعية الاقتصاد المعمول به.
إلا أن دولة واحدة تمكنت من تجاوز الأزمات بقفزات مبهرة فلم تتعاف من الأزمة فحسب بل أكملت مشوارها في النمو والتنمية الشاملة وخلق الوظائف بشكل مطرد، تلك الدولة هي ألمانيا.
اقتصاد الماكينة الألمانية
بلغ عدد العاملين في ألمانيا خلال العام الحاليّ 42 مليون عامل وهو رقم قياسي لم تشهده البلاد من قبل، في الوقت الذي تعاني فيه أسواق المنطقة الأوروبية من تفشي البطالة بنسب عالية.
تشهد ألمانيا “معجزة اقتصادية” مع العلم أن هذا الوضع ليس جديدًا عليها فالمعجزة لديها تحققت ما بعد الحرب العالمية الثانية بالإضافة إلى اليابان، وبتحقيق نجاحات مستمرة وأرقام مرتفعة تستمر ألمانيا على طريق المعجزة.
السبب العريض لهذا النجاح يعود لمنظومة “اقتصاد السوق الاجتماعي” التي أسسها المستشار بيسمارك الملقب بـ”المستشار الحديدي” في القرن التاسع عشر، كما يشير لذلك خبراء اقتصاد.
حيث تسمح هذه المنظومة بقواعد المنافسة التي ينادي بها الاقتصاد الرأسمالي من جانب ومن جانب آخر يسمح للدولة القيام بتعديلات وتدخلات لضمان منافسة عادلة وإيجاد توازن اجتماعي في البلد، ما يعطي الحكومة مرونة في التعامل وقت الأزمات.
أما من حيث نجاح السياسات الاقتصادية فيعود للإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها حكومة المستشار السابق غيرهارد شرودر والتي أطلق عليها في تلك الفترة بـ”أجندة العام 2010″، حيث كان من بينها إنشاء قطاع للأجور المنخفضة والعمل على جعل الأسواق أكثر مرونة أدت لخلق العديد من الوظائف لكن بعضها بأجور متدنية كما يقول الأستاذ الجامعي في جامعة ستانفورد أولي بروكنير حسب الصحيفة الألمانية “دويتشه فيله”.
بلغ عدد العاملين في ألمانيا خلال العام الحاليّ 42 مليون عامل وهو رقم قياسي لم تشهده البلاد من قبل
ومن العوامل الأخرى لنجاح الاقتصاد الألماني هو الإعداد والتكوين المستمر للكفاءات المتخصصة في كل عام، إذ يتوافد نحو 100 ألف مهندس ومتخصص في العلوم الطبيعية على سوق العمل قادمين من الجامعات والمعاهد التقنية الألمانية والتي يزيد عددها على الـ200 موزعة على مختلف مدن ألمانيا.
كما لا يمكن إغفال نقطة التعليم والنظام التعليمي المعمول به في ألمانيا والذي يقوم على دمج الجوانب النظرية بالتطبيقية، وهذا يضمن للطالب والمهندس لاحقًا أن يكون ملمًا باختصاصه من جميع الجوانب، وهكذا يحصل سوق العمل على أجيال من الكفاءات المتخصصة تستفيد منها على وجه الخصوص الشركات الوسطى التي تعد عماد الاقتصاد الألماني.
ويبلغ عدد الشركات المتخصصة في ألمانيا والتي لا يزيد عدد العاملين فيها عن 500 عامل نحو 3 ملايين شركة أي ما نسبته 99% من مجموع الشركات في البلاد وغالبيتها تديرها عائلات منذ أجيال.
علمًا أن هذا النمط من الشركات عزز القطاع الصناعي في ألمانيا ورفع نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 26%، فالعائلة تمتلك الشركة ولا تطرح أسهمها في سوق البورصة مثلما يحدث في بقية الدول الرأسمالية الأخرى، ويسهم هذا النوع من الشركات بلعب دور أساسي في حياة أصحابها وهو ما يضمن بقاءها ويضمن نجاحها في السوق، كما يرى اقتصاديون ألمان.
ساهم القطاع الصناعي في ألمانيا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 26%
ومن جهة أخرى فقد أدركت الحكومات الألمانية المتعاقبة على أهمية التطوير والأبحاث وتخصيص ميزانية كبيرة لهذا الشأن بالذات، إذ خصصت الحكومة نحو 70 مليار يورو، وهي ميزانية كبيرة تعد أكبر من مثيلاتها من الدول الأوروبية، فاللحفاظ على نجاحات الشركات الألمانية ارتبط بتطوير التكنولوجيا المتقدمة لضمان الحفاظ على سوقها خاصة أن البلاد تفتقر للموارد الطبيعية.
وفي إطار المنافسة الشرسة مع باقي المنتجات المنافسة لها في الأسواق العالمية وخصوصًا المصنعة في الدول الآسيوية حيث تنخفض تكاليف اليد العاملة، عملت الشركات الألمانية على عدم الاكتفاء بتقديم منتج ذي جودة عالية فحسب ولكن أصبحت تقدم لها قائمة بالخدمات المرتبطة بالمنتج، من تركيب وتأهيل لليد العاملة وتخصيص مكتب للإصلاح على مدار الساعة وتقديم ضمانات وما إلى هنالك من خدمات مختلفة متعلقة بالمنتج.
وهناك عامل آخر هو البنية التحتية التي توظف لخدمة الاقتصاد الألماني فمهما تعددت القطاعات سواء فيما يتعلق بالإعلام أو الطاقة أو نظام الطرق والمواصلات فإن البلاد تتوفر على أفضل البنى التحتية في العالم وكذلك الموقع الجغرافي المميز الذي يسمح بالوصول إلى أي منطقة أخرى في أوروبا خلال يوم واحد فقط.
بقي أن نشير إلى أن ألمانيا استقبلت مئات آلاف اللاجئين من سوريا وبلدان أخرى خلال العامين الماضيين في الوقت الذي رفض العالم من استقبالهم، وتمكنت من دمجهم في المجتمع بفضل السياسات التي طبقتها الحكومة، والاستفادة منهم في رفد الاقتصاد المحلي ورفع معدلات النمو على الرغم من المناخ السيء في معظم دول العالم.