ترجمة وتحرير نون بوست
من أجل فهم هذه الضجة المحيطة بظاهرة الإسلام الراديكالي والإرهاب، علينا أولًا أن نفهم النظام الاقتصادي العالمي السائد، وتوقعات خبراء الاقتصاد حول رأسمالية السوق الحرة التي تحولت إلى واقع ملموس. وبغض النظر عما إذا أعجبنا هذا أم لا، فإن هناك نوع من العشوائية التي تحيط بالاقتصاد العالمي. فالأموال تتدفق من المناطق ذات الكثافة النقدية العالية إلى المناطق الأقل كثافة.
وأفضل دليل على ذلك هو صعود دول مجموعة “البريكس” في القرن 21. فالدول ضمن هذه المجموعة شهدت نموا اقتصاديا مهما، وذلك نظرا لرخص اليد العاملة في الدول النامية، بالإضافة إلى أن قوانين العمل تكاد تكون منعدمة تقريبا هناك، أما المصاريف التي تُنفق من أجل خلق بيئة عمل أمنة وصحية تكاد تكون منعدمة، بالإضافة إلى انخفاض الضرائب. ويظل المستفيد الوحيد من كل ذلك هو الشركات متعددة الجنسيات.
إن الديمقراطيات الليبرالية الغربية لا تعد أنظمة استبدادية، وذلك لأنها مسؤولة أمام ناخبيها عن إنجازاتها وهفواتها على حد السواء. ولكنها مسؤولة أكثر أمام النخب المكيافيلية الحاكمة
وبذلك فإن مجموعة البريكس تهدد باحتكار الاقتصاد العالمي التابع للمعسكر الرأسمالي، أي أمريكيا الشمالية وأوروبا الغربية. ونحن بحاجة هنا لفهم الفرق بين قطاع الصناعة وقطاع الخدمات؛ إذ يعد قطاع الصناعة التحويلية عماد الاقتصاد، حيث لا يمكن لأي شخص إنشاء قاعدة صناعية بين عشية وضحاها، فهي تقوم على أصول ثابتة. ونحن بحاجة للمواد الخام والمعدات والنقل والبنى التحتية الخاصة بالطاقة، وأخيرا وليس أخرا، اليد العاملة المؤهلة.
يمضي البشر العديد من العقود في إنشاء قاعدة للصناعات التحويلية. لكن قطاع الخدمات شبيه بالمؤسسات المالية الغربية، ويمكن أن يُنشَأ ويُفكَك في فترة زمنية قصيرة نسبيا.
إذا أردنا أن نلقي نظرة خاطفة على اقتصاد المعسكر الغربي، فإننا نلاحظ بأنه ما زال يحتفظ ببعض قواعد تصنيع التكنولوجيا العالية، ولكنه بدأ في التراجع أمام قاعدة التصنيع الأرخص والأقوى لدول البريكس النامية. ففي هذه الأيام، يتم تصنيع كل شيء في الصين، باستثناء المشغلات الدقيقة ذات التكنولوجيا الفائقة، والبرمجيات وبعض تقنيات الإنترنت وبعض المنتجات الصيدلانية وشركات النفط الكبرى والمعدات العسكرية، وحتى صناعة الانتاج الحربي تقع في الصين.
وبغض النظر عن كل ذلك، فإن اقتصاد المعسكر الغربي يرتكزعلى البنوك الاستثمارية العملاقة مثل “جي بي مورغان تشيس”، مع إجمالي أصول يفوق 2359 مليار دولار (تبلغ قيمته في السوق 187 مليار دولار)، وسيتي غروب بإجمالي أصول 1865 مليار دولار (تبلغ قيمته في السوق 141 مليار دولار)، بالإضافة إلى بنك “ويلز فارجو” و”غولدمان ساكس” و”بي أن بي باريبا” (فرنسا)، و”دويتشه بنك” ومجموعة “اليانز” (ألمانيا) و”باركليزوإتش إس بي سي” (المملكة المتحدة).
وبعد التَوصُل إلى حقيقة أن الاقتصاد الغربي يعتمد في الأغلب على قطاع الخدمات المالية، يبدو أننا صرنا في حاجة ماسة إلى فهم انعكاساته. وكما ذكرت سابقا، إن إنشاء قاعدة للصناعات التحويلية يتطلب بعض الوقت. في المقابل، من السهل جدا بناء وتفكيك اقتصاد قائم على الخدمات المالية. فماذا سيحدث إذا قرر تميم بن حمد آل ثاني (أمير قطر) سحب أسهمه من بنك “باركليز”، ووضعها في إحدى البنوك التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي؟
ماذا لو سحب جميع شيوخ العرب من دول الخليج والبترودولار أموالهم من المؤسسات المالية الغربية؟ هل ستستطيع الخدمات المالية الهشة للمعسكر الغربي تخطي هذه الخسارة التي ستضرب استثماراتها؟
في شهر أبريل/نيسان من هذه السنة، حذر وزير المالية السعودي من أن المملكة السعودية ستبيع ما يفوق 750 مليار دولار من سنداتها في الخزينة وغيرها من الأصول إذا ما صادق الكونغرس على مشروع القانون الذي من شأنه أن يسمح بمقاضاة المملكة العربية السعودية في المحاكم الأمريكية بتهمة ضلوعها في هجمات 11 أيلول/سبتمبر سنة 2011.
يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن 750 مليار دولار لا تمثل سوى قيمة الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة. وإذا أضفنا استثماراتها في أوروبا الغربية، واستثمارات دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر في الاقتصاد الغربي، فإن مجموعة الاستثمارات الخليجية في أمريكا الغربية وأوروبا الشرقية قد تصل إلى تريليونات الدولارات.
وفقا للتقرير الذي نشرته “نيويورك بوست” في يوليو/تموز 2014، فإن رجال الأعمال الصينيين أيضا أودعوا ما يقارب 1.4 تريليون دولار في البنوك الغربية بين عامي 2002 و2014. أما روسيا فاحتلت المرتبة الثانية بحوالي 800 مليار دولار.
ولكن رغم ذلك، فإننا لا زلنا بحاجة إلى دراسة مزايا وعيوب هذا الاستثمار، فإذا قلنا بأن الاقتصاد الهش هو نقطة ضعفها، فما هي نقاط قوة الدول الغربية؟
إن عماد المعسكر الغربي هو قوته العسكرية. لذلك علينا أن نعطي المزيد من المصداقية للمعسكر الرأسمالي، نظرا لأنه حقق ما لم يكن بمقدور أي دولة أخرى تحقيقه؛ ألا وهو خصخصة صناعاتها الدفاعية. وكما نعلم، فإن الشركات التابعة للقطاع الخاص هي أكثر كفاءة وابتكارا. وفي هذه الحالة بالذات يمكننا أن نقول “أكثر فتكا”. وهذا بغض النظر عن الفرق الشاسع بين امتلاك هذه القوى واستخدامها من أجل بلوغ أهداف اقتصادية معينة.
إن الديمقراطيات الليبرالية الغربية لا تعد أنظمة استبدادية، وذلك لأنها مسؤولة أمام ناخبيها عن إنجازاتها وهفواتها على حد السواء. ولكنها مسؤولة أكثر أمام النخب المكيافيلية الحاكمة. فالمواطنون العاديون يجدون صعوبة في تخطي الأحكام المسبقة المعنوية التي استحوذت على عقولهم. ومن أجل التغلب على هذه المعضلة الأخلاقية، أرادت المؤسسات السياسية الغربية إيجاد ذريعة أخلاقية لفعل ما يحلو لها، ولكن وفقا لأُسُس اقتصادية واقعية. وكانت الفرصة السانحة للمؤسسات الغربية في التاسع من أيلول/سبتمبر، عندما سمح لهم مفهوم “الحرب على الإرهاب” بالحصول على تفويض مطلق لغزو واحتلال أي بلد غني بالنفط في أي منطقة في الشرق الأوسط أوشمال إفريقيا.
يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن 750 مليار دولار لا تمثل سوى قيمة الاستثمار السعودي في الولايات المتحدة
وبالتالي، لم يكن بمحض الصدفة أن العراق وأفغانستان كانتا أولى ضحايا “الحرب على الإرهاب”، فالعراق يتمتع بما يقارب 150 مليار برميل من احتياطي النفط الخام، ومن الممكن أن يبلغ الإنتاج اليومي من النفط 5 مليون برميل، ويحتل بذلك المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية، التي تنتج 10 مليون برميل نفط في اليوم ويصل احتياطي النفط الخام لديها إلى 265 مليار برميل.
ومن أجل إعادة مجد نفط الخليج العربي في ظل هذا العالم الصناعي المتعطش للطاقة، نشير إلى بعض الأرقام والإحصاءات التي قدمتها منظمة الأوبك: بعد السعودية وإيران والعراق والتي تنتج كل منها 5 مليون برميل في اليوم الواحد، ويقدر احتياطي النفط الخام لديها بأكثر من 150 مليار برميل، تأتي الإمارات العربية المتحدة والكويت، اللتان تنتجان 3 مليون برميل في اليوم، وتمتلك احتياطيا من النفط يعادل 100 مليار برميل. وبالتالي، فإن مجموع احتياطي النفط الخام الذي تمتلكه جميع دول الخليج العربي قد يفوق 1500 مليار برميل.
ونظرا لكل ما ذكر سابقا، فإن لا شيء يثير الاستغراب إن وجدنا أن قوات الولايات المتحدة الأمريكية المنتشرة في القواعد العسكرية وحاملات الطائرات المتمركزة في الخليج العربي تفوق 35 ألف جندي. وهذا تطبيقا لعقيدة كارتر التي ظهرت في سنة 1980 عندما صرح قائلا: “دعونا نوضح موقفنا، أي محاولة من قبل أي قوَى خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي ستعتبر بمثابة اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم التصدي لهذه الاعتداءات بأي وسيلة كانت وبما في ذلك التدخل العسكري”.
المصدر: صحيفة كاونتركورنتس