ترجمة وتحرير نون بوست
في 17 من تشرين الثاني/ نوفمبر نشرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الأمريكي باراك أوباما، مقالا في مجلة “فيرتشافتس فوخا” الألمانية؛ تحدثا فيه عن التزام بلديهما بقيم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون، فضلا عن الدفاع المشترك من خلال حلف الناتو. كما تم تسليط الضوء على التعاون الدولي الذي يتمحور حول السياسة المتبعة بخصوص أزمة اللاجئين، وقضية الحد من التغيرات المناخية. ولذلك يعتبر هذا المقال بمثابة تذكير بالقيم والمبادئ التي يرتكز عليها التحالف الأطلسي للأنظمة الديمقراطية الليبرالية.
في الآونة الأخيرة؛ بدأ القوميون والشعبويون يوحدون المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية في مختلف الدول الأوروبية. ففي حزيران/ يونيو، أفضى الاستفتاء الذي أجرته المملكة المتحدة إلى انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعد واحدا من أهم الانتصارات التي حققها القوميون هذه السنة. وتلى هذا الحدث فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ليمسك بمقاليد إدارة البيت الأبيض مرشح كان قد أعرب في العديد من المناسبات عن ازدرائه للديمقراطية وانتقاده لمبادئ حرية الصحافة واستقلالية القضاء وسيادة القانون.
وفي غمار هذه التناقضات، هلل السياسيون المنتمون إلى اليمين المتطرف والأوتوقراطيون من بودابست وموسكو بفوز ترامب، بينما صعقت الأنظمة الأوروبية بهذا الخبر. وفي ظل الأوضاع الراهنة، تبدوا هذه القوى الديمقراطية الليبرالية، التي برزت في نهاية الحرب الباردة، مهددة من جميع الأطراف ولعل هذا ما ينذر بقرب حلول أيام مظلمة على الأنظمة الديمقراطية ولا سيما الأوروبية منها.
لا أحد يعلم كيف ستكون إدارة ترامب، وما هي السياسة الخارجية التي سيتوخاها، لكن من الواضح أنه ستكون لإدارته العديد من التداعيات على الدول الأوروبية وحلف الناتو. ولئن كان فوز ترامب حافزا للأحزاب اليمينية المتطرفة لتعزز موقعها في الساحة السياسية وتكسب مزيدا من الجرأة لتتطاول على الأنظمة الديمقراطية، فإن ذلك لا يعني تمكنها من اعتلاء السلطة. أما بالنسبة للشعبويين الذين يمسكون بزمام السلطة أمثال؛ رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، والقائد الفعلي لبولندا، ياروسلاف كاتشينسكي، الذي يتقلد منصب رئيس مجلس إدارة حزب القانون والعدالة، فإن إدارة ترامب ستكون حليفتهم الأولى.
ينبغي على الدول الأوروبية أن تجد حلولا جذرية لأزمة الهجرة، وتوسع في نطاق المبادرات الأخيرة لتأمين حدود أوروبا الخارجية
ووفقا لما أدلى به ترامب من تصريحات طيلة حملته الانتخابية، فإنه من الواضح أنه سيطالب الدول الأوروبية بالإنفاق أكثر على المجال العسكري. وتجدر الإشارة إلى أن وجهة نظر ترامب معقولة نوعا ما، لكن إبطال الفوائد المتأتية من ترفيع أوروبا للإنفاق العسكري الدفاعي قد يُقوض من مصداقية حلف الناتو. أمّا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهو يتعارض في جوهر الأدوار التي يضطلع بها مع ما يدعو ترامب إلى تطبيقه؛ فالاتحاد كمنظمة عابرة للأوطان، تُعنى بتعزيز الترتيبات التجارية متعددة الأطراف وبالتنقل البحري وبسن القوانين البيئية، وتحرص على تطبيق القوانين الدولية. وفي الواقع لم تكن تغريدة ترامب على موقع تويتر، التي أعرب فيها عن مساندته لزعيم حزب الاستقلال، نايجل فاراج، بعد مرور فترة وجيزة على إعلان نتائج استفتاء المملكة المتحدة في حزيران/ يونيو، بالمفاجأة الكبيرة لبعض السياسيين الأوروبيين.
هل ستصمد الأحزاب الوسطية؟
كان آخر اختبار مرت به المؤسسات السياسية الأوروبية في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر في إيطاليا والنمسا. بالنسبة للانتخابات الرئاسية النمساوية، فقد هزم المرشح ألكسندر فان دير بيلين، المؤيد للاتحاد والزعيم السابق لحزب الخضر، خصمه التابع لحزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف، نوربرت هوفر، المعروف بمناهضته للمهاجرين.
لكن الأمل لدى الزعماء الأوروبيين لم يدم طويلا، ففي اليوم الذي تلا الإعلان عن نتائج الانتخابات النمساوية، عزم الناخبون الإيطاليون على رفض استفتاء الإصلاح الدستوري، الذي دعا إليه ممثل اليسار المعتدل ورئيس الوزراء، ماتيو رينزي، عقب التصويت على منح الثقة لقيادته.
وتبعا لهذه النتائج، أعلن رئيس الوزراء ماتيو رينزي عن استقالته ليترك إيطاليا غارقة في الشكوك السياسية، وفي فترة حرجة تمر فيها البلاد بضغوطات مالية تتعلق بنظامها البنكي وبتراكم الديون السيادية، ناهيك عن أزمة المهاجرين التي تشهدها وصعود حركة شعبوية تدعى بحركة النجوم الخمس.
ستكون الانتخابات الوطنية التي ستجرى في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا اختبارا سيثبت مدى قدرة الوسطيين على ترجيح كفة موازين القوى السياسية لصالحهم، والتصدي للأحزاب اليمينية المتطرفة، للحيلولة دون تكرار السيناريو النمساوي. وستعقد أول انتخابات في هولندا في آذار/ مارس، حيث سيتوجه الناخبون الهولنديون إلى صناديق الاقتراع للانتخابات البرلمانية. ومن المرجح أن يتواجه كل من المرشح المناهض للإسلام، غيرت فيلدرز، الذي يقود حزب من أجل الحرية اليميني المتطرف، مع خصمه رئيس الوزراء الحالي، مارك روته، الذي يترأس حزب يميني معتدل.
وستلي الانتخابات البرلمانية الهولندية، الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستعقد في شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو، ليقرر الشعب من هو الرئيس الجديد بعد دورتين انتخابيتين. ومن المتوقع أن تكون زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، إحدى أبرز المرشحين في الجولة الأولى، وعلى الأرجح ستكون منافسة لزعيم الحزب الجمهوري اليميني الوسطي، فرانسوا فيون، في الجولة الأخيرة.
مما لا شك فيه أن ميركل تلعب دورا قياديا هاما في هذا المنحى الجديد الذي ستتخذه أوروبا
وستجرى آخر انتخابات برلمانية في أيلول/ سبتمبر في ألمانيا، إذ ستسعى أنجيلا ميركل للفوز بولاية رابعة كمستشارة، ومن المحتمل أن تشهد ألمانيا للمرة الأولى في تاريخها، دخول الحزب اليميني المتطرف، حزب البديل من أجل ألمانيا، البرلمان الاتحادي.
وعلى الرغم من فسحة الأمل التي منحها فوز ترامب للقوى الشعبوية في فرنسا وألمانيا وهولندا، فإنه من المرجح أن يكون الحظ الأوفر في الانتخابات القادمة للأحزاب اليمينية الوسطية. فبالنسبة للنظام الحزبي المجزأ في هولندا، يتوجب على اليمين المتطرف أن يُنشأ ائتلافًا حتى يستطيع تولي الحكم، لكن من المحتمل أن تنأى الأحزاب الرئيسية في البلاد عن حزب فيلدرز، وتُتاح الفرصة لروته ليعود إلى منصبه كرئيسٍ لحكومةٍ جديدةٍ متعددة الأطياف.
أما بالنسبة لفرنسا، فهناك فرصة كبيرة لفوز لوبان، لكن من المرجح أن الوسطيين سيتكتلون ليكوّنوا ائتلافًا قادر على منافستها في الجولة الثانية من التصويت وعلى عرقلتها. أما في ألمانيا، فإن ميركل تتمتع بمساندة كبيرة شعبيًا وسياسيًا، وذلك مرتبط بما ستؤول إليه الأمور بخصوص أزمة الهجرة في ألمانيا. كما أن بعض التنازلات التي قدمتها ميركل لتكسب ثقة منتقديها، من شأنها أن تزيد من فرص فوز المستشارة بولاية أخرى. قد ينتج عن انتخابات سنة 2017 انحياز ملحوظ لبعض الأحزاب الوسطية الأوروبية نحو اليمين، لكن من المؤكد أنه ستبقى الأنظمة الليبرالية الديمقراطية في القوى الأوروبية على رأس المشهد السياسي.
كان ترامب قد أعرب في العديد من المناسبات عن ازدرائه للديمقراطية وانتقاده لمبادئ حرية الصحافة واستقلالية القضاء وسيادة القانون
وعلى الرغم من أن ترامب لن يكون قادرًا على ضمان وصول السياسيين الشعبويين إلى السلطة، فإنه يستطيع دعم نظائره الذين يتقلدون مناصب سيادية. والجدير بالذكر أن ترامب قد دعا المتشددين الموالين لأوربان، الذين حاولت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجنبهم قدر المستطاع على مدى السنوات الخمس الماضية، إلى زيارته في واشنطن. وفي مقابلة صحفية أجرتها إحدى القنوات المجرية في مطلع أيلول/ سبتمبر، مع مستشار حملة ترامب، جيفري غوردون، ادعت القناة أن ترامب يعتبر أوربان “أحد أفضل القادة السياسيين في العالم”.
وبعد هذا التصريح، فإن زعماء حزب القانون والعدالة في بولندا، الذي استولى بصفة منافية للدستور على المحكمة الدستورية في البلاد ويتلقى من الاتحاد الأوروبي تهديدات بفرض عقوبات عليه، يتوقعون أن تحتضنهم الإدارة الأمريكية. فضلا عن ذلك، فقد أشاد ترامب مرارًا أثناء حملته الانتخابية بمجهودات القادة المستبدين؛ مشيرا إلى أن الدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة لا يتمثل في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارج. وبالتالي فإن انفتاح ترامب على أوربان يوحي بأنه سوف يدعم القادة الأوروبيين ذوي الميول الاستبدادية، بدلا من أن يضغط عليهم لاحترام مبادئ الديمقراطية، كما فعلت إدارة أوباما.
وفقا لما أدلى به ترامب من تصريحات طيلة حملته الانتخابية، فإنه من الواضح أنه سيطالب الدول الأوروبية بالإنفاق أكثر على المجال العسكري
أما بالنسبة لحلف الناتو، فقد أكد ترامب في مكالمة هاتفية أجراها مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في 29 من تشرين الثاني/نوفمبر، على أهمية الحلف الذي يجمع كلا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من أن احتمالات تخلي ترامب عن هذا التحالف ضئيلة جدا، فإنه من خلال مساندته للقوى الاستبدادية في العالم، قد ألحق به أضرارا فادحة. ومن المفترض أن تكون المادة الخامسة للدفاع المشترك في حلف الناتو بمثابة الرادع الذي سيحول دون شن خصوم الناتو المحتملين هجمات ضد أحد الدول الأعضاء، لأن إقدام أي منهم على هذه الحركة سيدفع جميع الأعضاء إلى الرد بالمثل.
لكن ترامب يضع هذا الضمان على المحك، لأنه أشار إلى أن الولايات المتحدة لن تدافع سوى عن دول حلف الناتو التي تعهدت بتخصيص اثنين بالمائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي لنفقات الدفاع. كما أدى تصريح ترامب بأنه يسعى إلى توطيد علاقاته أكثر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى زيادة شكوك الحلفاء وزعزعة ثقتهم في الناتو، مستبعدين فكرة أن تمد لهم الولايات المتحدة يد العون في حال حدوث تحرك روسي.
اختبار الوحدة
سيحتفل الاتحاد الأوروبي في آذار/مارس بالذكرى الستين لمعاهدة روما، التي تقوم عليها الجماعة الأوروبية الاقتصادية، كامتداد لكيان الاتحاد الأوروبي. ومنذ نشأة الاتحاد الأوروبي، دعا مختلف الرؤساء الذين زاولوا إدارة الولايات المتحدة لمبدأ التكامل بين الدول الأوروبية. كما أكد أوباما مرارًا وتكرارًا على أن الوحدة الأوروبية تعود بالمنفعة على مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية. وورد في إحدى تصريحاته أثناء زيارة قام بها إلى اليونان في تشرين الثاني/نوفمبر، أن التكامل الأوروبي هو “واحد من الإنجازات السياسية والاقتصادية الكبرى في التاريخ البشري”. وعلى خلاف أوباما، فإنه سيتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي عدم انتظار أي تشجيع بهذا الشأن من قبل دونالد ترامب.
بل أكثر من ذلك، ينبغي على القادة الأوروبيين أن يكونوا مستعدين ليشهدوا محاولات لترامب للتفرقة فيما بينهم. وبينما يحتفي الاتحاد الأوروبي بالقيم والسياسات الليبرالية مثل حقوق الإنسان واتفاقيات التبادل التجاري، فإن ترامب يروج إلى عكسها تماما. وفي هذا السياق، فإن وحدة أوروبا القوية التي تسعى جاهدة إلى تعزيز هذه القيم الليبرالية على الصعيد العالمي، ستشكل عقبةَ أمام أجندة ترامب السياسية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التكامل الأوروبي الذي يتجسد في ما يسمى “بالعولمة”، لعله هو ما يدفع كلا من ترامب والشعبويين إلى الوقوف ضده. إذن فإن مساندة ترامب لمسألة الانسحاب البريطاني قد دفعته إلى دعم حزب أوربان وبقية الأحزاب المشككة الأخرى، وإلى السعي إلى توطيد علاقات مع روسيا، وذلك من أجل ضرب الوحدة الأوروبية. ووفقا لهذه المعطيات، فإنه يتوجب على الزعماء الأوروبيين توقع الأسوأ من الإدارة الأمريكية القادمة.
ستخوض الوحدة الأوروبية امتحانا صعبا في سنوات عهدة ترامب، ففي ظل الأوضاع المتأزمة التي تواجهها أوروبا تزامنا مع المفاوضات حول احتمال إعادة إحياء أزمة منطقة اليورو في إيطاليا، وأزمة اللاجئين العالقين في الدول الأوروبية، علاوة على العدوان الروسي على الحدود الشرقية، وصعود الأنظمة الاستبدادية في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنه سيتوجب على الاتحاد الأوروبي، أيضا التصدي لمخططات الرئيس الأمريكي التي تحرض على تفككه.
ومما لا شك فيه فإن ميركل تلعب دورا قياديا هاما في هذا المنحى الجديد الذي ستتخذه أوروبا، لكنها كانت على حق عندما أقرت بأنه “لا يمكن لشخص واحد، حتى لو كان ذو خبرة كبيرة، الأخذ على عاتقه مسؤولية حل جميع المشاكل في العالم”.
ستكون الانتخابات الوطنية التي ستجرى في كل من فرنسا وألمانيا وهولندا اختبارا سيثبت مدى قدرة الوسطيين على ترجيح كفة موازين القوى السياسية لصالحهم
إن النصر الذي حققه الرئيس فان دير بيلين في النمسا، وزيادة الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي منذ استفتاء انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد، يبشر بإمكانية صمود الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا في وجه الأزمات التي تواجهها. لكن إذا أراد زعماء أوروبا أن يحافظوا على بقاء واستمرارية وحدتهم وأنظمتهم الديمقراطية في عصر الظلمات، ينبغي عليهم أن يمدوا المواطنين برؤية إيجابية لمستقبل المشروع الجماعي والعمل على مضاعفة التزامهم به. قبل كل شيء، يجب عليهم أن يبذلوا مزيدا من الجهد لإنعاش الاقتصاد المتعثر في أوروبا، وتغيير سياسة التقشف والتركيز على تحقيق النمو في مؤشراتهم الاقتصادية.
ينبغي على الدول الأوروبية أن تجد حلولا جذرية لأزمة الهجرة، وتوسع في نطاق المبادرات الأخيرة لتأمين حدود أوروبا الخارجية، مع توفير المزيد من الدعم لتلك الدول التي تتحمل العبء الأكبر بخصوص مسألة إيواء اللاجئين. كما يجب عليهم أن يكثفوا التعاون في مجال الدفاع ليثبتوا للمواطنين مدى فعالية ونجاعة المؤسسات الأوروبية في حمايتهم من التهديدات المشتركة. ويتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يقفوا في وجه الشعبويين المشككين في وحدة الاتحاد الأوروبي ويدافعوا عن القيم الديمقراطية التي يقوم عليها الاتحاد.
المصدر: صحيفة فورين بوليسي