جدد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الخميس، 8 ديسمبر 2016م، دعوته لتجديد الخطاب الديني، ووقال في كلمته خلال احتفالية المولد النبوي الشريف التي أُقيمت بمركز الأزهر للمؤتمرات، إن هذا الأمر “لم يعُد ترفًا”، مشيدًا بشيخ الأزهر، الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، رادًّا بذلك على سلسلة من التقارير التي كانت قد أشارت إلى وجود توترات بين الرجلَيْن.
وهي ليست المرة الأولى التي يتناول فيها السيسي هذا الأمر، منذ أن طرح، وللمرة الأولى، قضية تجديد الخطاب الديني في يناير 2014م، في احتفالات المولد النبوي كذلك، عندما حمَّل الأزهر الشريف، مشيخة ودعاة، وهيئات الأوقاف والإفتاء مسؤولية تجديد الخطاب الديني، والقيام بما وصفه في حينه بـ”ثورة دينية شاملة”، تقوم على تجديد الخطاب الديني، وتصحيح “المفاهيم المغلوطة”.
ومنذ ذلك الحين، تناول السيسي في 11 كلمة وخطاب له، هذه المسألة، وكان المنطلق الرئيسي الذي كان ينطلق منه السيسي في تصريحاته ودعواته هذه، هو مكافحة الفكر المتطرف.
ومن خلال رصد للمفاهيم والمصطلحات التي يطرحها السيسي في مثل هذه المناسبات، سوف نلحظ اهتمام خاص للسيسي بطرح قضية “تنقية التراث” “بما يتناسب مع العصر”، ولكن من دون المساس بثوابت الدين، وذلك كطريق أساسي لمواجهة الفكر المتطرف والحفاظ على الشباب، بحسب ما قال في خطابه الأخير.
تساؤلات مشروعة!
في هذا الإطار، ثمَّة العديد من التساؤلات المشروعة في هذا الشأن، في حقيقة الأمر، نختار منها تساؤلَيْن؛ الأول هو هل تستطيع الدولة المصرية في ظل ظروفها الحالية، أن تنهض بأعباء مهمة تاريخية مثل تجديد الخطاب الديني، ولاسيما ما يتعلق ببند تنقية كتب التراث؟!
التساؤل الثاني، هو هل يعني السيسي، وهل تعني الدولة المصرية حقًّا، تجديد الخطاب الديني، ومكافحة الفكر المتطرف، وحماية الشباب والأجيال الجديدة من الأفكار المغلوطة، أم أن هناك أهداف أخرى للدولة من وراء طرحها لهذا الشعار البراق، في هذه المرحلة؟!
التساؤل الأول هو كلا بطبيعة الحال؛ حيث إن مسألة تجديد الخطاب الديني، وتنقية كتب التراث؛ لا يمكن لحكومة بلد إسلامي واحد القيام بها، لأنه ببساطة لا يملك شرعية الحديث باسم الدين أو باسم المسلمين، وبالتالي؛ لا يمكنه فرض رؤاه الذاتية هو لإصلاح الخطاب الديني، ورؤاه هو في تنقية كتب التراث، على باقي المسلمين.
السيسي الجنرال وليس السيسي الفقيه هو مَن طرح تجديد الخطاب الديني لأهداف سياسية بحتة
فإذا كانت الحكومة المصرية لا يمكنها فرض رؤاها في هذا الصدد على كامل الشعب المصري، بمدارسه الفقهية والمذهبية المختلفة؛ فهل يمكنها ذلك على مستوى العالم الإسلامي ككل، مع كل ما فيه من جماعات وحركات صوفية وسلفية وتيارات إسلامية حركية مختلفة؟!.
الإجابة هي لا؛ فعلى أبسط تقدير؛ فإن ما يراه الأزهر الشريف على سبيل المثال، تجديدًا في اتجاه معين في الخطاب الديني؛ قد يجد آخرون أنه تفريط، بل إن داخل الأزهر نفسه هناك علماء اختلفوا على بعض الأمور البسيطة، فكيف الحال بتجديد الخطاب الديني؟!
ناهينا من الأصل على أن النظام المصري لا يمتلك الخلفية الجيدة التي يمكن أن يكون معها رأس حربة تتصدر المشهد في هذا الاتجاه؛ الذي يمثل أحد أهم قضايا الأمة عبر تاريخها.
فرصيد السيسي للآن لا يتجاوز الانقلاب على شرعية رئيسه السابق، محمد مرسي، وفض اعتصام رابعة، بالإضافة إلى زخم ضخم من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، مع كونه في الأصل، نظامًا لا يحظى بشرعية كاملة في داخل بلده.
وبالتالي؛ فإن شرعية خطابه في هذا الصدد، لا تعدو أن تكون شعارات ترافقها إجراءات تنفيذية تتعاون فيها هيئات حكومية مصرية مع أخرى في بعض دول العالم التي لها علاقات مع مصر، ولاسيما في أفريقيا وأوروبا.
في حقيقة الأمر؛ فإنه يمكننا أن نلاحظ خلال العامَيْن الأخيرين جهودًا كبيرة قام بها الأزهر الشريف بالذات، في هذا الاتجاه.
ولكن الأزهر وقع في خطأ منهجي مهم؛ حيث تحولت قضية تجديد الخطاب الديني إلى التركيز على مستوىً واحد من الأولويات التي وضعها السيسي نفسه لها، وهو الجانب المتعلق بمكافحة الفكر المتطرف.
ثم انزلق الأزهر الشريف إلى مزلقٍ سياسي أكثر تخصيصًا على هذه القضية، وهي قضية مكافحة الإرهاب، وهي ليست قضية دعوية أو فقهية أو دينية بالمعنى العام، بل هي سياسية المحتوى بشكل أساسي.
فهناك بديهية في عالم السياسة، تتعلق بأنه في ظل عدم الاتفاق على تعريف موحد للإرهاب على مستوى العالم؛ فإن الكثير من الأنشطة التي تندرج تحت بند معارضة الأنظمة، تقوم هذه الأنظمة بإدراجها وجماعاتها تحت بند الأنشطة والجماعات الإرهابية، كما هو الحال في مصر، مع جماعة الإخوان المسلمين.
تماهي الأزهر ومؤسسات الدولة الدينية الرسمية في هذا الأمر مسَّ بمصداقيتها أمام العالم الإسلامي
وليس أدل على ذلك، من أن هناك خلافات كبيرة على خلفية سياسية بين حكومات دولية عدة، حول اعتبار هذه الجماعة أو تلك، كجماعة إرهابية؛ حيث التقييم سياسي ولا علاقة له بالفقه أو الفكر وكذا، وهي نقطة سوف نعود إليها في موضع لاحق.
فمن خلال تتبع أنشطة الأزهر الشريف خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، من 2014م، إلى نهاية 2016م؛ فإننا سوف نجد أن الأزهر قد تحول إلى مؤسسة تقوم بأعمال سياسية بامتياز، كانت في الماضي من صميم اختصاص الخارجية، مثل المشاركة في مؤتمر “مكافحة الإرهاب والوقاية من التطرف العنيف” الذي نظمته المنظمة الفرانكفونية الدولية، في مطلع يونيو الماضي، بالعاصمة الفرنسية باريس، أو في اجتماع لجنة مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن الدولي، حول “سبل مكافحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأغراض الإرهاب”، والذي نظمته مصر مطلع ديسمبر الجاري، في إطار رئاستها للجنة.
وهو أمر قد يكون مقبولاً إذا ما كانت مصر والعالم العربي والإسلامي، يمرون بظروف معتادة، إلا أن الأوضاع المصرية والعربية، لا يمكن وصفها بأنها طبيعية بحيث يكون مقبولاً من الأزهر أن يقوم بهكذا جهد سياسي.
ويبدو التسييس واضحًا، حتى في اختيارات الأزهر للهيئات المتعاونة في هذا الاتجاه؛ حيث الشراكات في الغالب – للمصادفة (!!) – تأتي من البلدان والكيانات الصديقة للدولة المصرية، مثل مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ومقره فيينا، والمعهد الملكي للدراسات الدينية في الأردن، ومجلس حكماء المسلمين في الإمارات، ومجلس الكنائس العالمي.
أي أنه ليس من بينها أية هيئة من بلدان رائدة في هذا المجال، ولكن بينها وبين النظام المصري أزمات سياسية، مثل تركيا، التي تمتلك أكبر مجموعة من الهيئات الإغاثية والدعوية في القارة الأفريقية، التي يتنشط فيها الأزهر الشريف في مجال التعاون مع حكومات بعض دولها، في مجال مكافحة التطرف، وخصوصًا في المؤسسات التعليمية والمساجد، ومن بين أهم هذه الحكومات، كينيا ونيجيريا والسنغال وتشاد.
كما أن الأزهر الشريف، الذي هو من المفترض أنه مؤسسة إسلامية جامعة، ويتحرك في قضية تهم العالم الإسلامي والمسلمين ككل، تجاوز هيئات مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، ومجلس الإفتاء الأوروبي، ومقره في آيرلندا، لارتباطاتها جميعًا بالإخوان المسلمين بشكل أو بآخر، بالرغم من أنها تضم نخبة من علماء الوسطية في العالم الإسلامي.
وبالتالي؛ فإن الأزهر انغمس في استراتيجية مترامية الأطراف تمتد من أطراف أوروبا، وحتى قلب القارة الأفريقية، تستهدف بالأساس تنفيذ أجندة سياسية وأمنية تخص الدولة المصرية، ولا تتعلق بتجديد الخطاب الديني.
وهو أمر مشروع لأية دولة؛ أن تعمل على توظيف مختلف الأدوات التي تملكها في سبيل تحقيق مصالحها، شريطة ألا يكون ذلك يتم باسم الدين، وهي كلها أمور للأسف نالت من سمعة الأزهر كمؤسسة دينية لها مكانتها الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية العامة، عبر التاريخ لكل المسلمين.
تجديد للخطاب الديني أم محاصرة للخطاب الإصلاحي؟!
يرتبط الحديث السابق في جانب كبير منه بالتساؤل الثاني الذي طرحناه، بشأن الهدف من وراء هذه الحملة.
فمن خلال التدقيق في الجهود التي قامت بها الدولة المصرية في الفترة المُشار إليها في الاتجاه الذي يؤكد عليه السيسي دائمًا؛ فإن الهدف ليس هو تجديد الخطاب الديني بالضبط، وليس حتى مكافحة الإرهاب بالمعنى التقني الموضوعي.
وإنما الهدف هو حصار أفكار الجماعات التي تنتمي إلى تيارات الإسلام السياسي المختلفة، وتُعتبر بديل حكم للنظام الحالي، أو كانت بالفعل هي صاحبة الكلمة العليا في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير من العام 2011م، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمون”، بالإضافة إلى فكر الجماعات التي سبق أن دخلت في مواجهات عنيفة مع الدولة منذ السبعينيات، وحتى التسعينيات، ولها ظهير سياسي واجتماعي، وعلى رأسها الجماعة الإسلامية.
فعلى أبسط تقدير، لا يمكن أن نصف فكر جماعة الإخوان المسلمين بأنه فكر إرهابي أو متطرف، وهي حقيقة العالم يعرفها، وجاءت نتيجة مراجعات أجهزة الأمن والاستخبارات والدبلوماسية البريطانية قبل عام ونص؛ لكي تؤكد ذلك.
وهناك الكثير من الأدلة على أن أهداف الدولة المصرية من وراء طرح هذا العنوان البراق، إنما هو سياسي وليس دينيًّا، وجانب من هذه الأهداف، هو تكريس سطوة النظام وسيطرة الدولة.
ولعلنا نذكر الجدل الذي ثار قبل فترة في مصر بشأن موضوع خطبة الجمعة الموحدة، وبشأن قيام أئمة المساجد بقراءتها مكتوبة، وهذه الأخيرة؛ اعترض علماء الأزهر أنفسهم، عليها لأنه كان إجراءً ذا طابع سياسي واضح، وفيه افتئات على حرية الدعاة في طرح القضايا العامة بالصورة التي يرونها.
فإذا كان النظام يفرض على الأئمة الرسميين التابعين له خطابًا أحاديًّا، يعبر عن وجهة نظر الدولة الرسمية في الأمور العامة؛ فكيف يمكن تصديق أنه يقصد تجديد الخطاب الديني على مستوى عموم العالم الإسلامي، وعموم المسلمين؟!
ونذكر كذلك الحملة الكبيرة التي قامت بها سلطات السيسي لتنقية جداول أئمة المساجد، واستبعاد الأئمة المنتمين إلى الإخوان المسلمين والتيارات والحركات الإسلامية الأخرى المعارضة للنظام، وغلق الزوايا والمساجد الأهلية الصغيرة أو نقل تبعيتها لوزارة الأوقاف، ومنع إقامة صلاة الجمعة في بعضها، بدعوى ضيق المساحة!
وتم ذلك أيضًا، بدعوى مكافحة الفكر المتطرف، بينما التصنيف كان سياسيًّا بالأساس، ويتعلق بمساعي الدولة لتحقيق سطوتها على المنابر، التي كانت أحد المنافذ الأساسية لتحريك الجماهير في ثورة يناير، وفي مرحلة الإعداد لها من قبل.
السياسة حاكمة!
بطبيعة الحال؛ فإن هناك الكثير من الأمور الأخرى التي تقول، بل وتؤكد، أن الحملة ليست خالصة لوجه الله تعالى، وبالتالي؛ فهي لن تنجح في تحقيق أهدافها المعلنة.
والدليل على ذلك أن الدولة المصرية، وطيلة ثلاثة أعوام لم تتحرك كثيرًا في اتجاه تحقيق هذه الأهداف في المجال الديني كما تزعم، باستثناء حالة “التخفيض” التي جرت على مناهج التربية الدينية، ومناهج الأزهر الشريف، وكلها كانت تعديلات سياسية الطابع بدورها.
كما أن هناك بواعث سياسية سوف تعيق “جهود” الدولة في هذا الأمر، وهو أن موضوع تنقية كتب التراث بالذات، سوف يقود إلى اعتراضات كبيرة للمجموعات والأحزاب المنتمية للتيارات السلفية؛ حيث إن هذه المنطقة بالنسبة لهم محظور الاقتراب منها تمامًا.
وفي ظل حاجة الدولة للسلفية العلمية والصوفية، من أجل إحكام السيطرة على الشارع الديني أو الدين الشعبي – بالتعبير المجازي – في مصر؛ فإن يد الدولة والنظام سوف تكون مغلولة بشكل كامل في هذا الاتجاه.
ولعلنا هنا نذكر الحملة التي واجهها الإعلامي إسلام البحيري، عندما وَلَجَ هذه المنطقة، فاضطر النظام إلى حبسه للتبرؤ مما يدعو إليه، لتفادي الدخول في أزمة مع الأوساط الشعبية السلفية.
فلئن كانت قياداتهم التنظيمية والحزبية موالية للدولة، ومؤيدة للنظام؛ إلا أن الشارع السلفي ليس كذلك، وهم صمتوا على ما جرى في مصر بعد انقلاب يوليو 2013م، لبواعث فقهية لديهم، وليس طاعة لقياداتهم التنظيمية؛ حيث نذكر أن المكوِّن الأساسي لمليونيات الإخوان إبان المرحلة الانتقالية بعد يناير وفبراير 2011م، وخلال حكم مرسي؛ كان من السلفيين، بمختلف أطيافهم، وكانت المشاركة فردية وليست بناءً على تعليمات أحزاب أو قيادات تنظيمية.
كان ما سبق تطوافًا واسعًا يكشف بعض الجوانب المتعلقة بهذه القضية الخطيرة بالفعل، والتي تتطلب جهدًا أكبر لكشف الجوانب السياسية لأهداف الدولة المصرية، والنظام الحالي منها، من أجل عدم تمرير بعض الأمور التي لا تتفق بأي حال من الأحوال مع أية مصلحة شرعية للأمة وللدين!