التعليم هو المقوم الأول لبناء أي نهضة أو حضارة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تدفع أمة قاطرتها التنموية دون عربة التعليم الجيد، فهو المولد الحقيقي، ومنبع الوقود الأول لدفع كافة محركات النهوض والتنمية والتقدم، لذا تصدر قائمة اهتمامات وأولويات القائمين على أمور النظم الساعية للنمو والازدهار.
ومن ثم تبذل الحكومات قصارى جهدها لتقليل معدلات الأمية لديها، خاصة مع ما تمثله من مخاطر وتهديدات لمستقبل الدول، وتعد مصر من أكثر المجتمعات التي تعاني من هذه الأزمة، خاصة مع تجاوز معدلات عدد من لا يجيدون القراءة والكتابة لديها عن 29.7% من إجمالي عدد السكان.
وعلى مدار ما يقرب من 24عامًا على إنشاء الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار، وهي الجهة الرسمية المنوط بها محاربة الأمية في مصر، تخللها مليارات الدولارات التي تم إنفاقها لإنجاح خططها واستراتيجياتها، كانت المحصلة 27.6 مليون ” أمي”.
100 مليون عربي لا يجيدون القراءة
تمثل ظاهرة محو الأمية تحديًا كبيرًا لكافة المجتمعات في مختلف الدول، فطبقا لإحصائيات منظمة اليونسكو، فإن هناك ما يقرب من 17% من سكان العالم لا يجيدون القراءة أو الكتابة، أي ما يعادل 800 مليون شخص، منهم 127 مليون شاب ، ثلثيهم من النساء، فضلا عن 67.4 مليون طفل غير ملتحقين بالمدارس، ما يهدد مستقبلهم بصورة كبيرة.
وعربيًا، تجاوزت معدلات الأمية حاجز الـ 19% من إجمالي عدد السكان، إلا أن هذه النسبة تتباين ما بين دولة وأخرى، تصل ذروتها في مصر كما سيتم ذكره لاحقا، حيث وصل عدد الأميين العرب حوالي 100 مليون نسمة، بالرغم من الجهود المبذولة للحد من هذه الظاهرة.
27.5 مليون أمي في مصر
تتباين الأرقام الصادرة عن مختلف القطاعات والهيئات الرسمية بشأن معدلات الأمية في مصر، إلا أن أحدثها وأكثرها رسمية، التقرير الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، سبتمبر الماضي بمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية، والذي كشف أن معدل الأمية في مصر بلغ 29.7% من إجمالي عدد السكان، بزيادة قدرها 9% عن النسبة في العام الماضي.
فوفقًا لبيانات القوى العاملة عام 2015، فان عدد الأميين (10 سنوات فأكثر) بلغ 14.5 مليون نسمة ، منهم 9.3 مليون نسمة من الإناث، وتبلغ نسبة الذكور 14.7% مقابل 27.3% للإناث، في حين بلغ معدل الأمية للسكان (15 سنة فأكثر) 23.7%، (للذكور 16.6% مقابل 30.9% للإناث).
وأشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن معدل الأمية بين الشباب (15-24 سنة) ينخفض مقارنة بكبار السن (60 سنة فأكثر)، حيث بلغ 6.6% للشباب مقابل 59.4% لكبار السن، في حين بلغ معدل الأمية للمقيمين بالحضر 13.9% مقابل 26.2% للمقيمين بالريف.
29.7% من المصريين لا يجيدون القراءة أو الكتابة
70 مليون دولار ميزانية تعليم الكبار في مصر سنويًا
تراكمت على مدى السنين أعداد كبيرة من الأميين وتزايدت خاصة في قطاع المرأة والبيئات الريفية والمناطق النائية المحرومة من فرص التعليم في مصر، وذلك نتاج مشاكل متراكمة، وقد فشلت الدولة في مجال محو الأمية خلال الحقبة الماضية، ولم تأت بالنتائج المرجوة حتى الآن.
من جهتها قدمت وزارة التعليم المصرية مبادرات عدة للحد من انتشار الأمية، والعمل على تقليل معدلاتها، حسبما جاء على لسان عمر حمزة، القائم بأعمال رئيس هيئة محو الأمية وتعليم الكبار، والذي أكد على أن خطة الوزارة تهدف إلى القضاء على الأمية بصورة نهائية خلال العامين القادمين على حد قوله.
حمزه في تصريحات له أكد الأمية أخطر على مصر من “الإرهاب”، مطالبا بضرورة تكاتف الجميع للقضاء عليها، نظرا لكونها تمثل قضية أمن قومي، لافتا إلى أن ميزانية الهيئة وصلت إلى 560 مليون جنيه (70مليون دولار) سنويًا خلال العام المالي 2015-2016
كما أوضح القائم بأعمال رئيس الهيئة أنه طبقا للإحصائيات الرسمية فقد تم محو أمية ما يقرب من مليون و700 ألف خلال العامين الماضيين 2014، 2015، و2015، 2016، بما يتماشى مع خطة الهيئة للقضاء على الأمية بحلول 2019، طبقا لاستراتيجية 2014، 2019 بالوصول للصفر الافتراضي.
تعليم الكبار.. مرتع للفساد
في ظل غياب الرقابة والتشريعات التي تضبط آليات العمل بداخلها، تحولت هيئة محو الأمية وتعليم الكبار إلى مرتع للفساد في مصر، وباتت الجهة المنوط بها النهوض بالعملية التعليمية والتربوية للمواطنين، مقبرة للعلم والتعليم، في ظل مناخ غير صحي، وتربة خصبة للفساد أكثر منها للإصلاح.
الدكتور مصطفى رجب، الخبير التربوي، والرئيس السابق للهيئة، أكد على أن الفساد داخل الهيئة يفوق الخيال، على حد قوله، وذلك حين كان رئيسا لها في 2011، مشيرا إلى بعض صور الفساد المتفشية داخل الهيئة، وفي مقدمتها، وجود “سوق سوداء” لبيع الشهادات للراغبين من قبل الموظفين والمعلمين، ملفتًا أن مشروع محو الامية قد تحول إلى “سبوبة” لدى البعض بالقري والريف.
خبير تربوي: الفساد داخل هيئة محو الأمية وتعليم الكبار يفوق الخيال
وأضاف الرئيس السابق للهيئة، أن الفساد وصل إلى حد خلق أسماء وهمية ومكررة لمواطنين حصلوا على شهادات محو الأمية بغية استلام المكافآت المقررة لهم، مشيرا أن 80% ممن حصلوا علي الشهادات خلال العامين الماضيين لم يتم محو أميتهم، كما أن 90% من موظفي الهيئة تم تعيينهم بالواسطة والمحسوبية، فها هي “ماجدة السيد” فتاة عشرينية، حاصلة على دبلوم متوسط (فنى تجاري)،” طلبت مُدرسة محو أمية مني حضور الامتحان بدلاً من أمي مسجل لديها مقابل 20 جنيهًا (دولار وربع)، ومعى آخرون كذلك. وكانت اللجنة بها ثلاثة مشرفين. وكانت قد حصلت على نماذج الامتحان من المشرف الذى جاء من فرع هيئة محو الأمية بمحافظة القليوبية. ثم وزعته علينا لنبدأ الإجابة، بعدما وزعت على كل واحدة منا صورة بطاقة شخصية لأخريات من قرى مجاورة
وهو ما ذهب إليه أيضا الدكتور محمد عفيفى رئيس هيئة محو الأمية السابق، والذي أشار إلى تفشي جرائم التزوير داخل أروقة المؤسسة، والذي لفت إلى أن بعض المحفزات التي لجأت إليها الهيئة لمحو الأمية جاءت بنتائج عكسية، منها، اشتراط محو خريج الجامعة امية عدد من المواطنين للتعيين بالتربية والتعليم، حيث دفع هذا الشرط البعض إلى شراء بعض الشهادات للمواطنين على نفقتهم الخاصة دون أن يتم محو أميتهم، وذلك بهدف تقديمها للجهات المسئولة، والتي لا تكلف نفسها بالتأكد من صحة هذه الشهادات أو إجراء اختبار شفهي عابر للتيقن من نجاح الحاصلين على مثل هذه الشهادات.
أما الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي المعروف، فيشير إلى تجاوز أعداد المتسربين من التعليم سنويًا حاجز الـ 300 ألف طفل، ما يعني زيادة سنوية في معدلات الأمية، ملفتا إلى النظام الإداري الخاص بهيئة تعليم الكبار به العديد من الخلل والعقم الفكري.
مغيث وصف أداء المعلم داخل الهيئة بـ”مقاول الأنفار” حيث يحصل المعلم على مبلغ مالي قدره 200 جنيه ( 25 دولار قبل التعويم و12 دولار حاليًا) مقابل محو أمية كل مواطن، ما يدفعه للاهتمام بالكم وليس الكيف، وهذا ما يفسر حصول الكثيرين على الشهادات التي تثبت نجاحهم وهم لم تمحى أمتيهم بعد.
الخبير التربوي طالب بضرورة تأهيل معلم محو الامية وتدريبه على ألية التدريس وترغيب الأميين واقناعهم، وكذلك لابد من زيادة ميزانية محو الأمية، وترغيب الشباب المصري في المشاركة بمثل هذا المشروع.
كما يدخل في هذا السباق، قوات الدفاع الشعبي، وهي إحدى أفرع القوات المسلحة، التي تقوم بعدة أدوار متشابهة مع ما تقوم به الشئون المعنوية، من تحسين لصورة الجيش وغرس روح الولاء والانتماء لدي المواطنين من خلال دورات التربية العسكرية بالمدارس والجامعات، إضافة إلى المشاركة في محو الأمية بالمراكز والقري بالتعاون مع الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار، فضلا عن محو أمية الجنود داخل الجيش، وفي بيان صادر عن الشئون المعنوية، أفاد بمشاركة هيئة تدريب القوات المسلحة في محو أمية 14593 مواطن مدني في 7 محافظات، ومع ذلك كانت المخرجات صادمة، حيث الملايين من الأميين في الشارع.
وقفة إحتجاجية لبعض معلمات محو الأمية للمطالبة بزيادة الأجور
المعلمون ينتفضون
بالرغم من هذه الميزانية التي تعد معقولة إلى حد ما، قياسا بنظيراتها في القطاعات الأخرى، إلا أن نسبة ما يذهب للمعلم من أجور وحوافز لا تساوي شيئا قياسا ببقية الموظفين في الوزارات والهيئات الأخرى، وهو مادفعهم للتمرد على هذا الوضع والمطالبة بتحسين مستواهم المعيشي.
ففي الأشهر القليلة الماضية نظم العديد موظفي محو الأمية من أعضاء دار الخدمات النقابية والعمالية، ، عدة وقفات احتجاجية أمام مقر الهيئة العامة لتعليم الكبار، للمطالبة بتوفير حياة كريمة لهم، وحل أزمة تدنى مرتباتهم.
فمن جانبه كشف أحمد عبد المرضى رئيس دار الخدمات النقابية والعمالية، أن أولى مطالبهم كانت زيادة أجور المعلمين، حيث تتراوح مرتباتهم ما بين 800 : 1700 جنيهًا (50 – 100 دولار) لمن أمضى أكثر من 20 عاما في خدمة الهيئة، وان ذلك لا يوفر الحياة الكريمة واللائقة للعاملين بالهيئة.
وقال ناصر محمد عضو مجلس إدارة نقابة العاملين بهيئة تعليم الكبار، إن الأزمة تكمن في غياب الرؤية حول تبعية هيئة تعليم الكبار، فتارة يقال أنها تتبع وزارة التربية والتعليم، وتارة أخرى يقال لنا أنها تتبع مباشرة مجلس الوزراء، ومن هنا فشلت كافة الجهود لحل المشكلة، متسائلا عن مبررات تأخير مرتبات العاملين لعدة أشهر متتالية خلال عام ٢٠١٦.
أربعة وعشرون عاما منذ إنشاء الهيئة العامة لمحو الأمية وتعليم الكبار، أنفق خلالها عشرات الملايين من الدولارات، ذهبت معظمها أدراج رياح الفساد الذي تفشى داخل أروقة الهيئة وفروعها المختلفة هنا وهناك، بحسب أراء وشهادات المسئولين والخبراء، ليستيقظ المصريون بعد هذا الوقت والجهد والمال المهدر على محصلة نهائية قدرها 27 مليون مواطن لا يجيدون القراءة ولا الكتابة.