تخوض اليوم مدينة الموصل مخاضًا عسيرًا لولادة ربيعها الثاني بعد فقدانها لولدها الأول في منصف عام 2014 حين تم إجتياح المدينة من قبل تنظيم الدولة “داعش” لتتوقف الحياة فيها على مدار أكثر من عامين ونصف من اليوم.
فقدت الموصل خلالها أكثر من ٨ الألف من أبنائها، على يد التنظيم، وما يزال العدد قابل للزيادة في ظل الحرب الدائرة في شوارعها.
كما أنها فقدت الكثير من شواخصها، التراثية والعمرانية ولم يتبقَّ من تراث المدينة العريق إلا القليل والقليل جدًا، ولم تسلم البنى التحتية من بنوك ومرافق حيوية وطرق والجسور ومستشفيات من نار الحرب رغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد.
كل هذا لا يمنع من التفكير بأن المدينة تمتلك ولدأن “أم الربيعين” (أبرز ألقاب مدينة الموصل تم إطلاقه عليها بسبب إعتدال الطقس فيها فالخريف الموصلي ربيع ثاني) قد فقدت الربيع الأول ولكنها تمتلك ربيعًا ثانيًا لو تمت مراعاته كما يجب ستصل عروس الشمال العراقي الى بر الأمن.
أبرز المشاكل التي تواجه المدينة بعد نهاية معركة الموصل
ما أن تضع معركة الموصل أوزارها حتى تظهر لنا مجموعة ملفات أقلها قد يكون أخطر من معركة الموصل حاليًا، علينا الإستعداد لها، والتعامل معها بحكمة لتصل المدينة لضفاف الأمان.
الدمار الذي أصاب جامعة الموصل نتيجة لقصف قوات التحالف
ملف إعادة الإعمار
ويعتبر أبرز قضية يتوقع أن تكون من نصيب حيتان الفساد، الأمر الذي يربك عملية إعادة الحياة للمدينة خاصة وأننا نتحدث عن مدينة فقدت غالبية المنشأة الحيوية من مباني وطرق وجسور، إضافة لبيوت الأهالي المتضررة بفعل الحرب الدائرة اليوم بين أحياء المدينة.
نحن نتحدث بناء جسور كبيرة تم قصفها، وأبنية ودوائر حكومية ومراكز شرطة ومعامل ومجمعات تجارية ومحطات للمياه والكهرباء وبنوك ومستشفيات وأسواق إضافة لمطار المدينة وجامعتها العريقة المفقودين جراء القصف أو التفجير والتجريف على يد داعش.
نحن نتحدث عن أكبر مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد بمساحة ١٨٠ كيلو متر مربع وبتعداد داخلي يتجاوز ٢ مليون نسمة بإستثناء أطراف المدينة، الإعمار سيحتاج لمراقبة دولية، ومنظومة تمتلك شفافية ترتقي بحجم الكارثة التي وقعت على المدينة، الإعمار يحتاج لصوت عالي من الموصليين على أي مؤشر للفساد يظهر، ويحتاج لحكومة محلية حقيقة تمتلك رؤية للمدينة وكيفية النهوض بها.
إذا لم تتوفر هذه الأمور سنعود لمدينة أشباح ترمم بشكل ترقيعي، يضاعف معاناة اَهلها لعقود من الزمن.
شعار داعش في شوارع الموصل في منصف ٢٠١٤
ملف القصاص من داعش
الملف المؤرق لكل موصلي والهاجس الأبرز للجميع وتنقسم المخاوف من نقطتين أساسيتين
أولا: الخوف من ترك الخلاية النائمة وعناصر داعش دون محاسبة وقصاص، لتعود مظاهر التفجيرات والقتل بالكواتم والتهديد وطلب الأتاوات والعودة لسيناريو ما قبل ٢٠١٤ حيث كانت داعش تحكم المدينة بوجود الجيش والشرطة فهي تهدد من تريد وتبتز من تريد وتقتل من تريد دون رادع فكانت حكومة ظل متغولة على الناس بشكل واضح.
ثانيًا: إعتماد الأهواء والحسد وتصفية الحسابات الخاصة والشخصية أو الحزبية في إتهام الناس بالإنتماء لداعش، ووضع الأبرياء بدل المجرمين وخلق شرخ إجتماعي جديد نتيجة لما يحدث، وإضطهاد شريحة معينة من المجتمع بهذه التهمة.
ويمكن للجهد الإستخباري والعسكري الذي يسبقه إرادة سياسية خلق طريق لمتابعة عناصر داعش، وعدم فسح المجال لإتهام الناس بالباطل لغرض أهداف محدد، وهذا الحل بيد الجهة السياسية التي تمتلك القوة على الأرض لفرض هذه الرؤية وهذه الخطوة هي حجر الأساس للمصالحة بين أهالي الموصل وحكومة بغداد بالتحديد.
نازحين من مدينة الموصل في مخيم الخازر شرق المدنية
عودة النازحين والمعوقات والحلول
نحن نتكلم عن أكثر من مليون و٢٥٠ الف نازح من نينوى، الى الأن قد يقفز العدد ليتجاوز ال٢ مليون نازح بعد تقدم العمليات لتشمل جانب المدينة الأيمن.
ولعودة هؤلاء النازحين سنحتاج لإعادة الحياة لمدينة فقدت الحياة بكل معنى الكلمة، الأمر لا يقتصر على الإعمار، فهناك مشاكل في التعليم(طلاب مدينة الموصل متأخرين لثلاثة أعوام عن أقرانهم في العراق دراسيًا) ومشكلة الأرشيف المدني، فداعش أحرق الأرشيف لدوائر الجنسية والأحوال المدنية والجوازات والقضاء، إضافة أن كل عمليات الأحوال المدنية داخل مدينة الموصل غير موثقة منذ منصف ٢٠١٤ من زواج وطلاق ومواليد جدد ووفايات، إضافة لعمليات البيع والشراء وغيرها من الأمور التي تعتقد وتربك المشهد بعد التحرير بشكل كبير جدًا.
لذلك على الإدارة المحلية والوزارات في بغداد الإستعداد لهذه المشاكل وإيجاد حلول لها تبدأ مع أول لحظة لنهاية المعركة فلا يتم تأخير الناس وخلق حالة الربكة والإنتظار التي تفاقم الوضع الإنساني صعوبة.
كما أن رواتب الموظفين التي بقيت مدخرة عند حكومة بغداد، وإعادة توزيعها، يجب أن يتم التحرك عليها فورًا لإعادة الحركة الإقتصادية للمدينة التي دخلت في غيبوبة بسبب إنقطاع الرواتب وتوقف الأعمال الخاصة.
وتفعيل التعويضات من قبل الحكومة العراقية عن الممتلكات والأرواح، والعمل عليه دون تسويف أو محسوبية بحيث تصل التعويضات لمستحقيها من ذوي الشهداء العسكرية، أو بإجرام من داعش.
رئيس الوزراء العراقي العبادي مع رئيس حكومة إقليم كردستان العراق البرزاني
ملف علاقة الموصل بين أربيل وبغداد
نحن نتحدث عن ملف حساس جدًا ليس جديدًا ظهر على الساحة بس متجذر من بعد ٢٠٠٣ حيث يشكل الخلاف على عائدية الأراضي شرق وشمال الموصل نقطة الخلاف الجوهرية بين أربيل والموصل وتدعم بغداد الموصل في نظرتها للأحقية في حكم الأراضي التابعة لها وفق الحدود الأدارية المعروفة ما قبل عام ٢٠٠٣، بينما يرى الأكراد أن هذه الاراضي يسكنها غالبية كردية لذلك فهي جزء من وكردستان العراق، وهذه أبرز مشاكل الموصل مع الأقليم خاصة أن الأقليم قام بوضع يده على جميع تلك الأراضي بعد طرد داعش منها عن طريق مقاتلين البيشمركة الكوردية.
فيما تكمن مشكلة الموصل مع بغداد هي مشكلة المركزية والطائفية وتدعم أربيل الموصل في توجها ضد هيمنة بغداد، وورقة ضغط على بغداد لغرض القبول بالحدود الجديدة لإقليم كردستان العراق.
الى هذه اللحظة لا يوجد مشروع خاص بالموصل، وإنما كل المشاريع هي إرتداد لما تريده بغداد أو أربيل
الى هذه اللحظة لا يوجد مشروع خاص بالموصل، وإنما كل المشاريع هي إرتداد لما تريده بغداد أو أربيل، ولا يوجد نظرة مستقلة تراعي الإرادة الحقيقة للمدينة وأهلها بالتقاطع مع المشروعين الموجودين في الساحة العراقية، أو التصادم معهم أو التوافق مع أحدهم على حساب الأخر.
المدينة لا تمتلك مشروعها الخاص الذي يؤهلها لرسم سياسة واضحة من التحالفات تقود المدينة لإستحصال حقوقها داخل العراق.
لذلك فإن الحل هو خروج مشروع داخلي من مدينة الموصل يوصل صوت المدينة، ويرسم سياسة للمدينة يضمن لها حقوقها أو على الأقل يحقق البعض من تلك الحقوق.
الشرخ الإجتماعي المتجذر
ما لا يخفى على أحد أن كل مكونات محافظة نينوى تعرضت للظلم خلال الفترة الماضية، وقد يكون الإعلام لم يسلط الضوء على الأغلبية بقدر تسليطه على الأقليات في نينوى لكن يمكن أن أوكد لكم أن كل مكون من مكونات نينوى تعرض للظلم بنسبة مساوية لحجم تواجده في المحافظة، ولكن هذه الصورة غير موجودة عند مكونات المجتمع في نينوى، فالأقليات تعتقد أنها ظلمت بشكل خاص، مثل الشبك، والأيديديين، والمسيحيين والتركمان، وهم فعلاً تعرضوا لظلم جماعي مؤلم بين قتل ونهب وتهجير وأبرز حدث مؤلم هو سبي نساء الإيزيديات وهذا ثلم يؤلم كل نينوى وأهلها.
فيما إنتزع الأكراد حقوقهم، بواقع الدعم والإنتماء لمرجعية إقليم كردستان، فيما يبقى الغالبية وهم من العرب السنة الذين ينقسمون بدورهم الى قسمين أيضًا هم المدنيون من أبناء المدينة والقسم الريفي، الذي يعتقد كل طرف أن الطرف التاني هو سبب المشكلة فيما يعانيه، لذلك فإن هذا الشرخ لا يقل خطورة على عن الشروخ مع الأقليات.
فيما تنقسم المدينة إنقسام من نوع أخر لا ينتمي للأديان ولا القوميات وإنما لقرار خاص تم اتخاذه بعد دخول داعس الموصل وهو “هل أبقى في مدينتي وداري وأثبت في مكاني؟ أنكم أغادر للحفاظ على حريتي وحياتي؟ وهل أمتلك القدرة على الصبر على مرارة الغربة والمخيمات أم أبقى في داري بكرامتي؟”
هذا السؤال قسم المدينة نصفين فقد خرج مليون نازح من نينوى منذ أكثر من عامين وبقي حوالي ٢مليون في ديارهم.
خلال العامين ونصف تشكل عقل جمعي مختلف بين الفريقين فيعتقد غالبية الفريق الأول في قرارة نفسه أن الذي قرر البقاء إختار الحل السهل، أو أن هواه داعشي، فكان قرار البقاء وفق هذا الهواء، فيما تشكل في الفريق الثاني أن الذي غادر المدينة هرب ولم يصمد داخل المدينة، ووفق هذا التفسير فإن عملية تخوين متبادلة ظهرت مثل الجمر الراكد تحت الرماد قد يظهره أي نسمة هواء.
كل هذه الإنقسام إضافة لمن تعرض لسلب الأموال، أو قتل لأحد أقاربه يجعلنا نفكر بحجم القنبلة الموقوتة في المدينة، الأمر الذي يجعلنا نقف لنحلل الصورة بحذر لنجد أن المخرج الوحيد هو بيد القوة المتغلبة على الأرض، هل ستفتح المجال لهكذا سجال يودي لمزيد من سفك الدماء وتفجر الوضع أم ستضرب أي محاولة من هكذا نوع بيد من حديد وتفتح المجال لعملية مصالحة إجتماعية، ودفع بعجلة الحياة في المدينة الثكلى بربيعها الأول فهل سنحافظ على ربيعها الثاني؟