ربما كان المنهاج المدرسي التونسي من المناهج القليلة في المنطقة العربية الذي يولي تدريس الفلسفة أهمية خاصة وهو أمر يمكن تبينه من خلال جانبين احدهما أن تدريس الفلسفة في المعاهد التونسية قد مر عليه أكثر من نصف قرن منذ أن تم اعتماده كمادة رئيسية في السنوات النهائية للتعليم الثانوي بأقسامها الأدبية والعلمية ومن ناحية ثانية بالنظر إلى ضارب المادة (4) في الآداب و (1) في الشعب العلمية وعدد الساعات المخصصة أسبوعيا لتدريس الفلسفة للتلاميذ حيث تتراوح بين ثلاث ساعات للشعب العلمية وثماني ساعات لشعبة الآداب.
تدريس الفلسفة أسس لفكر عقلاني يؤمن بالحرية والإقرار بحق الاختلاف
وتعلن الوثيقة الرسمية الصادرة عن الإدارة العامة للبرامج بوزارة التربية سنة 2006 أن تعليم الفلسفة للسنوات الثالثة والرابعة من التعليم الثانوي يهدف أساسا إلى “تمكين المتعلم من التمرس بالحرية بفضل ممارسة التفكير من خلال أعمال اكبر الفلاسفة والمفكرين ومن فهم أفضل وتأويل أعمق لما يعرف سلفا والوعي بذلك وعيا أوضح واشمل وتحرير المتعلم من قوالب الآراء المتداولة ومن سيطرة الأحكام المتسرعة.
إعداد المتعلم إعدادا يمكنه من تحصين نفسه تحصينا يربيه على التبصر في الحكم والثقة في النفس والثبات على المبدأ دون السقوط في الوثوقية، والاعتدال في الموقف والتسامح في التعامل دون السقوط في التبعية. مساعدة المتعلم على الارتقاء ذاتيا من وضع اللامبالاة إلى موقف واع يسند اختياراته فكرا وسلوكا، ويحمله على الإبداع ويقيه التسطيح الفكري والوجداني والاستسلام إلى المجهود الأدنى.”
إن مجمل هذه الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الجهاز التعليمي من خلال تدريس الفلسفة تطرح السؤال عن مدى تحققها فعلا وكيف يمكن أن نفسر حالة اللامبالاة الفعلية لدى المتعلم تجاه التفلسف والتفكير العقلي خاصة إذا لاحظنا مدى انتشار الفكر المنغلق والمتعصب لدى الأجيال الشابة في تونس سواء عبر ميلها إلى النزعات الوثوقية التي يمثلها الفكر الجهادي في صورته الأشد قتامة واعني به التحاق المئات من الشباب التونسي المتعلم نتاج المدرسة الحديثة بمواقع تنظيم داعش أو ميل فئة أخرى من الشباب التونسي إلى تبني نزعات لاعقلانية اقرب إلى حالات العُصاب الجماعي كما تتجسد في ظهور نزعات عبادة الشيطان وتبني تصورات غريبة تناقض الأهداف التي حاولت المدرسة التونسية في أهدافها العامة كما تجسمها رسالة التربية غرسها في ذهن المتلقي.
يعاني تدريس الفلسفة في تونس (وربما في المنطقة العربية عموما) من حالة من اللامبالاة وأحيانا نوع من المعاداة غير المبررة
بداية يعاني تدريس الفلسفة في تونس (وربما في المنطقة العربية عموما) من حالة من اللامبالاة وأحيانا نوع من المعاداة غير المبررة التي تجد جذورها في تصورات تتراوح بين النزوعات الدينية المغلقة والتصورات النفعية التي تتعامل مع المواد الدراسية من جهة مدى نجاعتها أو جدواها من الناحية الوظيفية والفلسفة في هذين الجانبين لا يمكنها أن تكون منافسا فعليا للتصورات الدغمائية المنغلقة فهي ليست منظومة دينية كما أنها في ذات الوقت ليست معرفة عملية أو صناعة يمكنها أن تتحول إلى مورد رزق لدى المتعلم. وقد كان مارتن هيدغر الفيلسوف الألماني قد أشار من قبل إلى أن الفلسفة لا يمكن التعامل معها بمنطق النجاعة أو الجدوى التي نتوخاها من المعارف التقنية أو من الفكر الاداتي عموما.
ويمكن القول أن من أسباب غياب تأثير درس الفلسفة في إعادة تشكيل عقل المتعلم جملة من العوامل التي يمكن اختصارها في ما يلي:
ـ ارتباط تدريس الفلسفة بطرق بيداغوجية فاقدة للنجاعة أو الفاعلية ولا تختلف عن باقي المناهج المتوخاة في تبليغ باقي المعارف المدرسية مما يجعلها تغرق بين التخصصات الأخرى وتفقد جوهر رسالتها الفعلية اعني بوصفها فكرا حرا يهدف إلى استنهاض الروح النقدية والقدرة على طرح السؤال وإعمال العقل وتنوير الأذهان.
ـ تفرض اكراهات العملية البيداغوجية على الفلسفة أن تخضع للجانب الاختباري الضروري لامتحان المتعلم وهو ما يحول الفلسفة إلى مجرد مادة ميتة لا حياة فيها يتلقاها التلميذ لاجتياز الامتحان وتفقد قدرتها على التأثير وتحقيق الأهداف المتوخاة من تعليمها.
ـ إن التعليم في المدرسة التونسية ورغم مضامينه التنويرية قد فشل في تغيير البنية العامة للفكر التقليدي المحكوم بمنطق التلقي وربط التعليم بالمصلحة وهو أمر تجلت آثاره على تدريس الفلسفة ذاتها حيث تحولت بدورها إلى مجرد مهنة لدى المدرس الذي يعاني من وضعية مادية مزرية وهو تحت ضغط الحاجة لا يمكنه أن يقدم من الفلسفة غير جانبها المدرسي التلقيني والمعروف أن التفلسف يشترط التحرر من ضغط الحاجة فهو “حاجة الحاجات المشبعة” كما يقول هيجل.
غياب التأثير المرجو من الخطاب الفلسفي هو أمر لا يعود إلى الدرس الفلسفي في ذاته بقدر ما يعود إلى تخلف بنية التعليم بمجملها
وإجمالا فإن السؤال عن جدوى تدريس الفلسفة الذي يحاول البعض طرحه إنما هو في الواقع محاولة لتبرير غياب التأثير المرجو من الخطاب الفلسفي وهو أمر لا يعود إلى الدرس الفلسفي في ذاته بقدر ما يعود إلى تخلف بنية التعليم بمجملها وتحوله إلى مجرد سلعة تخضع للعرض والطلب وتخضع للتنميط تحت قوالب مختلفة يتساوى في ذلك التعليم الحكومي أو الخاص.
ورغم كل هذه النقائص والمشاكل التي تحف بمنظومة التعليم في تونس فلا يمكن إنكار المنجزات التي تحققت عبر عقود من تدريس الفلسفة ليس اقلها أن أقسام الفلسفة في الجامعة التونسية قد أسهمت في تكوين أجيال من الباحثين والدارسين ممن يساهمون فعليا في التأسيس لفكر عقلاني أساسه الإيمان بالحرية والإقرار بحق الاختلاف والاعتراف بالأخر المغاير ، ويظل مشكل تدريس الفلسفة في تونس جزء من الأزمة العامة التي تعانيها المنظومة التعليمية من حيث الإمكانيات والمناهج والمضامين التي تتطلب مراجعة عاجلة هذا أوانها خاصة في ظل الانتقال الديمقراطي في تونس خاصة أن الفلسفة والديمقراطية صنوان لا يفترقان من حيث أن جوهرهما واحد وهو الحرية.