لجأت دول عربية في الآونة الأخيرة إلى تحرير التعليم وخصخصته وإفساح المجال في التعليم للمال الخاص والأجنبي وذلك لتخفيف العبء عن الدولة في إدارة وتمويل مؤسسات التعليم الحكومية.
وضمن هذه الدول الجزائر، فقد أجبرت تداعيات الأزمة الاقتصادية، الحكومة الجزائرية على الانسحاب التدريجي من احتكار ودعم الكثير من القطاعات، التي تنهك الخزينة العامة، لتفتح أبواب التعليم العالي أمام استثمارات القطاع الخاص، في خطوة غير مسبوقة وصادمة للكثير من الفئات الاجتماعية.
وقررت السماح للقطاع الخاص بإنشاء جامعات خاصة، ووضعت تشريعات تحدد شروطها ومقاييسها، وقد تلقت طلبات من رجال أعمال مثل رئيس منتدى المؤسسات المقرب من السلطة “علي حداد” و”يسعد ربراب” صاحب أكبر إمبراطورية استثمارية في البلاد، والأكبر بعد شركة سوناطراك النفطية الحكومية.
لكن الغموض لا يزال يلف القرار الحكومي ويطرح أسئلة بشأن مصير التعليم العالي والآثار الاجتماعية، بعد أن تعوّد الجزائريون على التعليم المجاني طيلة العقود الماضية.
مخاوف وأعباء
ويرى مناهضو ظاهرة خصخصة التعليم أنها نتاج للعولمة وهيمنة أفكار السوق وأنها تنذر بتفكك اجتماعي وانحلال التلاحم بين مختلف شرائح المجتمع ليستمر التغير والتبدل في أحوال الوطن من سيئ إلى أسوأ.
وأبدى نقابيون من قطاع التعليم مخاوف من عواقب الخطوة في ظل ما وصفوه بـ “عدم تكافؤ الفرص بين الجامعة الحكومية الغارقة في المشكلات والاختلالات، وبين الجامعات الخاصة المنتظرة والمدعومة برؤوس أموال كبيرة، ومدى قدرة الوزارة على فرض نفس المناهج التعليمية”.
وطالبوا بالحفاظ على مصداقية التسجيل والشهادات لمنع ظهور اختلالات طبقية اجتماعية غير مسبوقة في البلاد، بين الميسورين وعامة الشعب.
ويخشى الكثيرون في الجزائر من أن تصبح الجودة والنوعية في التعليم من نصيب من يدفع أكثر، وظهور أعباء ثقيلة على الطلبة والعائلات، ترغمهم على القبول بما تقدمه الجامعات الحكومية المثقلة بالمشكلات والاختلالات، أو الانصراف عن متابعة التعليم، لأن فرص الجامعات الخاصة لن تكون في متناول الجميع.
وقد استثنى القرار دراسة الطب من الخصخصة، وفتح جميع التخصصات أمام الاستثمار الخاص، وأصدر دفتر شروط لإنشاء مؤسسات التعليم العالي الخاصة وطرق الحصول على رخصة لممارسة النشاط.
وأوضح القرار أن رخصة إنشاء جامعة خاصة تكون على مرحلتين، الأولى مؤقتة باستيفاء الشروط المحددة بموجب تقرير لجنة وزارية مختصة. أما الرخصة النهائية، فتمنح بعد تقرير لهيئة المراقبة المكلفة من الوزارة، لتقييم كافة جوانب البرامج التعليمية والإدارية.
وكان وزير التعليم العالي والبحث العلمي طاهر حجار، قد أعلن مؤخرا عن اعتماد أربع جامعات خاصة قريبا، وأن الوزارة استلمت تلك الطلبات وهي قيد الدراسة، وقال إن الخطوة تهدف إلى خلق ديناميكية جديدة وفتح باب التنافس بين الجامعات.
وحذرت التنظيمات الطلابية من أن خصخصة التعليم الجامعي تسمح لوزارة التعليم العالي بالتنصل من مهامها والاستعانة بالقطاع الخاص لتسيير وتمويل الجامعات، رغم أن نصيب الوزارة من الموازنة العامة، لم يتأثر كثيرا بإجراءات التقشف الحكومية.
وطلب القانون الجديد من وزارة التعليم العالي نشر قائمة الجامعات الخاصة المعتمدة مع بداية كل موسم دراسي، إلى جانب التخصصات التي يتم تدريسها، وفرض أن يخضع أي تعديل على عمل الجامعة الخاصة لموافقة مسبقة من وزير التعليم العالي.
وأشار نص القانون إلى أن تصنيف الجامعات الخاصة يخضع لنفس معايير عمل الجامعات الحكومية، وأن يطلق اسم جامعة على المؤسسة التي تدرس عدة تخصصات، وتسمية معهد أو مدرسة في حال تقديمها تكوينا متخصصا.
ومنح القانون المؤسسات الخاصة حق ضمان خدمات الإطعام والنقل لطلابها، وفق قرار وزاري يصدر لاحقا، وفرض عليها إنشاء مجلس علمي ووضع نظام داخلي للعمل.
وأكد القانون على أن تكون “برامج التكوين في الجامعات الخاصة مطابقة لتلك المعتمدة من قبل وزارة التعليم العالي” لتفادي الفوضى والاجتهادات حول مضمون المناهج التعليمية.
خط أحمر
وعبر سمير عنصر، الأمين العام للاتحاد العام للطلاب الحر، عن مخاوف الاتحاد من أن تصبح الدراسة الجامعية حكرا على الفئات الغنية.
وأكد في تصريحات لصحيفة “العرب” اللندنية ، أن الاتحاد يعتبر خصخصة التعليم الجامعي خطا أحمر ولا تراجع عنه، وأن إدارة الجامعات من قبل القطاع الخاص أمر مرفوض لأنه يمهد الطريق لتنازل الدولة عن مجانية التعليم وفقدان مصداقية الشهادات الجامعية.
وأضاف أن التحفظ بشأن الجامعات الخاصة، التي ستفتح أبوابها قريبا، يكمن في استقلاليتها عن الوزارة، لأنها تحدد مناهجها التربوية بنفسها، وتكون فيها الشهادات الجامعية محل شك وريبة، خاصة أن تلك الجامعات ستكون حكرا على أبناء الأثرياء والمسؤولين.
ويستقطب قطاع التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائر نحو 1.5 مليون طالب، ويوظف 42 ألف أستاذ، في أكثر من 60 مؤسسة جامعية تتوزع على 43 محافظة. ورصدت الحكومة له في موازنة العام المقبل أكثر من 3 مليارات دولار.
ومن جانبه نفى الوزير طاهر حجار وجود أي نية لدى الحكومة لخصخصة المؤسسات الجامعية الحكومية، بعدما أشيع أنها تنوي بيع المؤسسات الحالية لرجال الأعمال.
وطمأن الوزير المتخوفين والمتعلقين بمكتسبات الاستقلال الوطني بالقول “الجامعة الخاصة لن تقضي على مجانية التعليم، وأن عدد الجامعات الخاصة سيكون محدودا جدا، مقارنة بعدد المؤسسات الحكومية التي شيدتها الدولة على مدار ستة عقود”.
مسألة معقدة
وذكر الكاتب السعودي د. محمد عبدالله الخازم في مقال له حول خصخصة التعليم في صحيفة ” الجزيرة” السعودية ، أن الحكومات تعتبر المساهم الرئيسي في تمويل التعليم العام؛ ففي كندا يشكل التمويل الحكومي للتعليم العام حوالي 78 % وفي الولايات المتحدة حوالي 70 % وفي أستراليا واليابان حوالي 76 %.
وفي المملكة المتحدة حوالي 85 % وفي دول مثل الدنمارك وبلجيكا وايطاليا وهولندا وفرنسا يرتفع التمويل الحكومي ليتجاوز 90 % بينما في دول مثل البرتغال وفنلندا والسويد والنمسا يتجاوز التمويل الحكومي نسبة 95 % من تمويل التعليم العام.
وأكد الخازم أن الإحصائيات ليست حديثة هنا لكنها تمنحنا مؤشرات بأن التمويل الحكومي يشكل النسبة الأكبر لتمويل التعليم العام في أغلب دول العالم يشكل.
وعند الوقوف على تعريف الخصخصة نجدها عملية نقل للأصول أو للإدارة أو وظائف أو مسؤوليات متعلقة بالتعليم من الدولة لجهات خاصة. وقد تتضمن الجهات الفاعلة الخاصة الشركات والمؤسسات الدينية والمنظمات غير الحكومية.
وهناك العديد من الطرق المختلفة للخصخصة، مثلا من خلال تطوير شراكات القطاعين العام والخاص،و قد يكون للتوسع غير الخاضع للرقابة وغير المنظم لتوفير القطاع الخاص للتعليم، مثل المدارس الربحية أو المدارس الخاصة التي لا تفرض رسوما باهظة، قد يكون له أثر إذا لم يكن للطلاب خيار آخر من المدارس.
كما أن للجهات الخاصة الحرية، بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، في إنشاء المؤسسات التعليمية وإدارتها، حيث تخضع هذه الحرية للمتطلب الذي ينص بأن على الجهات خاصة أن تعمل وفق المعايير الدنيا التي تضعها الدولة، كما أنها ترتبط ارتباطا وثيقا مع التزام الدولة باحترام حرية الآباء في اختيار المدارس الخاصة لأطفالهم إذا كانوا يرغبون بذلك. يضمن اختيار الوالدين التعليمي بأن للعائلات الحق في اختيار التعليم الذي يتماشى مع المعتقدات الدينية والأخلاقية الخاصة بها.
لا ينص القانون الدولي لحقوق الإنسان بوضوح من هو المقدم المباشر للخدمات التعليمية، بينما ينص التعليق العام رقم 13 للجنة المعنية بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على ما يلي: ” من الواضح أن المادة 13 تعتبر أن الدول هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسية عن التقديم المباشر للتعليم في معظم الظروف؛ وعلى سبيل المثال تقر الدول الأطراف بضرورة “إنشاء شبكة مدرسية على جميع المستويات” (الفقرة 48).
في النهاية ، الدولة هي المسئولة عن ضمان الحق في التعليم بغض النظر عن من يوفر التعليم، وينص القانون الدولي لحقوق الإنسان أن على الدول تنظيم ومراقبة مؤسسات التعليم الخاص، ويجب على الدولة أن تضمن أن يلبي مزودي التعليم الخاص الحد الأدنى من المعايير التي نصت عليها الدولة، وأن تضمن أن الحريات التعليمية لا تؤدي إلى تفاوتات شديدة في فرص التعليم بالنسبة لبعض فئات المجتمع (المادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية و التعليق العام 13للجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الفقرة 30)
وعلى الجانب الإيجابي، تعزز خصخصة التعليم أحيانا كوسيلة لملء الثغرات في توفير التعليم، ولكن يثير التوجه السائد لخصخصة التعليم مخاوف جدية بشأن الآثار السلبية على التمتع بالحق في التعليم، ولا سيما فيما يتعلق بتوافر وسهولة الحصول على التعليم المجاني، والمساواة في الفرص التعليمية وجودة التعليم.
يجب أن تحترم الجهات الخاصة التي تقدم خدمات تعليمية الحق في التعليم، ويجب على الدولة ضمان أن تساءل جميع الجهات الخاصة التي تلعب دورا في توفير التعليم، وقد وضعت مبادئ توجيهية لتوفير إطار لتحديد دور الجهات الفاعلة الخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في التعليم.
وأكبر مقال على هذا، المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، والتعليق العام رقم 16 للجنة حقوق الطفل بشأن التزام الدولة فيما يتعلق بتأثير قطاع الأعمال في مجال حقوق الطفل.