ما الذي تغيّر في سياسات حزب العدالة والتنمية؟ هل أصبح “أتوقراطيًا” كما يقول أعضاء حركة كولن وكثيرون من ناقديه؟ أم أنه أصبح أكثر ثقة في تجاوز ما لم يكُ قادرًا على تجاوزه في السابق؟ هل يستخدم مؤسسات الدولة التنفيذية لضرب حركة كولن ونجاحها الاقتصادي والاجتماعي، متّبعًا خُطى من سبقوه في ضرب أي حراك اجتماعي خارج حدود الدولة؟ أم أن الحركة التي توغلّت في مؤسسات الدولة تستخدم نفوذها لضرب الآفاق التي يحاول أردوغان فتحها لتجاوز الجمهورية الأتاتوركية كما تريد قطاعات واسعة من الشعب، وخصوصًا الحركة الإسلامية، والتي يختلف معها كولَن المحافظ؟
الجمهورية الجديدة
الكُل في تُركيا يتحدث عن الجمهورية الجديدة، منذ صعود حزب العدالة والتنمية، ودخول إسلامي لأول مرة إلى قصر الرئاسة ليجلس على كُرسي أتاتُرك عام 2007، والتحولات المختلفة في السياسة الخارجية التركية وصعود نجمها في المنطقة. أهم الخطوات نحو الجمهورية الجديدة كانت صياغة دستور جديد، إلا أنها خطوة لا تزال متعثرة إلى الآن لغياب التوافق على نسق الدولة ما بعد الأتاتوركية.
تعمل تُركيا حاليًا وفق الدستور الذي وضعه انقلابيو عام 1980، وقد عدّلت فيه مرارًا على مدار السنوات الماضية، وكان حزب العدالة والتنمية يحاول جاهدًا الدفع نحو دستور رئاسي، أو مختلط على النمط الفرنسي، بحلول الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في أغسطس 2014. لم ترضى حركة كولن عن الدستور، بالإضافة إلى الأحزاب المعارضة بطبيعة الحال، باعتبار أنه يمهّد لسلطة تنفيذية أقوى، واعتبرت أنه مفصّل على أردوغان، الذي عزم على الترشّح للرئاسة لفترتين تنتهيان في 2024 يُنهي بهما –ربما- حياته السياسية. اعتراض الحركة على الدستور الرئاسي، كما يقول آخرون، ليس بالضرورة “ديمقراطيًا” كما يبدو، بل هو مجرد رغبة منها في إبقاء النسق القديم للدولة، والذي يتسم بسلطة تنفيذية ضعيفة نسبيًا في مواجهة الدولة العميقة والقضاء والإعلام والجيش، والتي قد تطيح بالحكومة في أي لحظة ضاربة بعرض الحائط الإرادة الشعبية. ولكن لماذا تريد حركة كولن النسق القديم للدولة؟ ألم تكن حليفًا لأردوغان في البداية وراغبةً في “التغيير”؟
كانت عقيدة الحركة أن تظل بعيدة عن الشأن السياسي وعن مؤسسات الدولة قدر استطاعتها، إلا أنها على مدار العقد الماضي بدأت تخترق بأعضائها السلطة القضائية وجهاز الشرطة، وإثر تراجع جماعات الدولة العميقة الأتاتوركية، جاءت حركة كولن لتحل محلها، وهو ما يعني أن الحركة قد استثمرت سياسيًا في المنظومة كما هي إلى الدرجة التي أصبح معها أي تغيير في تلك المنظومة اليوم ضارًا بالحركة. كانت الحركة شديدة المحافظة فيما يخص “التغيير”، وهو ما جعلها تفضل دومًا أن تتعامل وتشتبك بالوضع القائم كما هو، حتى ابتلعها مع الوقت! القضاه ورجال الشرطة وجماعات الدولة العميقة الأتاتوركية التي حفّزت الجيش على التدخل في السابق، أصبحت هي اليوم في مكانها لتشكل لوبيًا يمارس وصاية معهودة على الحكومة المنتَخبة، والفارق الوحيد هو أن الجيش نأى بنفسه عن أن يكون وصيًا مع هذا اللوبي، وهو ما يعني صراعات أطول لن تُحسَم بسهولة. ولكن ألم يستثمر حزب العدالة والتنمية هو الآخر في المنظومة؟
استثمر حزب العدالة والتنمية في السلطة التنفيذية بشكلٍ أساسي، وهي في ظل النسق الحالي للدولة معرّضة لضغوط من تحالفات قد تطيح بها، في حين كانت جهوده –عبر رئاسة عبد الله كول- فيما يخص التعليم والقضاء منصبة على تحييدها وتحريرها من العلمانيين المتطرفين. أضف إلى ذلك أن الحزب عبر قوانين وتعديلات كثيرة قلل كثيرًا من مركزية الدولة، ونقل سلطات مختلفة “غير سياسية” للمجالس المحلية والبلديات. الموقع الضعيف نسبيًا للسلطة التنفيذية في تُركيا هو لُب ما يريد حزب العدالة والتنمية تغييره في النسق الجديد للدولة بحيث تصبح غير خاضعة للوصاية من أي جهة سوى الانتخابات، وأكثر قدرة على إحداث التغيير الذي طالما أرداته قطاعات واسعة همَّشتها النخبة العلمانية. ولكن إذا كانت الدولة بشكلها الكلاسيكي هي السبب الرئيسي في معاناة الإسلاميين وفي معاناة حركات تنتسب للإسلام كحركة كولن، لماذا قرر كلٌ من الحزب والحركة الاستثمار فيها والاعتماد عليها ولو جزئيًا؟
على عكس العديد من الدول الهشة، كسوريا والعراق وغيرها في العالم العربي، فإن الدولة التُركية، لأسباب داخلية وخارجية، قد تجاوزت مرحلة التأسيس. السبب الرئيسي داخليًا هو الثقافة السياسية للأتراك والتي اعتمدت دومًا، أكثر من نظيرتيها العربية والكُردية، على قدر من المركزية النسبية والـ”سلطان” السياسي، ولو أنهما قد وصلا لأوجهما بطبيعة الحال في المرحلة الأتاتوركية وما تلاها. الثقافة السياسية للأتراك محافظة بشكل كبير والكُتَل السياسية الأكبر فيها هي الإسلامية والقومية والجمهورية/العلمانية، في حيت يتراجع اليسار دومًا باستثناء الفترة التي حكم فيها العلماني بولنت أجاويد باسم “الديمقراطية الاجتماعية”. أما السبب الرئيسي خارجيًا، فهو أن تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تضطلع بدورٍ مهم في الحفاظ على التوازن مع روسيا، انطلاقًا من منافستها التاريخية معها وتقاطع المصالح الجيوسياسية التُركية والأمريكية في البحرَين المتوسط والأسود، وفي آسيا الوسطى وشرق أوربا بعد الحرب الباردة. الاضطلاع بهذا الدور كان يعني دومًا التمتّع بنظام داخلي صلب ومستقر كان أتاتُرك قد وضع نواياه، مع وجود متنفَّس للقوى السياسية المختلفة تحول دون اندلاع موجات ثورية. ويشهد على ذلك دعم الولايات المتحدة لانقلاب 1980 تحديدًا والذي وضع حدًا لمواجهات اليمين واليسار في الشارع التُركي، وعلى الناحية الأخرى دفعها المستمر للعسكر التُركي لعدم الاحتفاظ بالسُلطة كنظرائه في العالم العربي، خصوصًا وأن المزاج العام التُركي لم يكن يميل لليسار على أي حال.
لذا، كانت الدولة، وستظل لفترة طويلة، تملك مخزونًا استراتيجيًا من القدرة على الفعل السياسي والاجتماعي المحكوم مدنيًا وديمقراطيًا في الداخل غير متاحة لغيرها في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى الاضطلاع بدور عسكري ودبلوماسي في الخارج واستثنائي لدولة إسلامية حافظت على أرصدتها الجيوسياسية التي ورثتها عن الخلافة، وظلت قادرة على الاتساع بحكم الدور الذي أُسنِد لها من النظام العالمي. هذا المخزون هو الذي خلق رافدًا اجتماعيًا علمانيًا حقيقيًا في تركيا، وهو الذي يسعى حزب العدالة والتنمية لأن يكون شقه التنفيذي ظهيرًا أساسيًا له وللحركة الإسلامية التقليدية في تُركيا ومشروعها في المنطقة عبر تحريره من وصاية القضاء والجيش التقليدية. وعلى النقيض من ذلك حركة كولن، والتي ترى أن هذا المخزون يجب أن يحتفظ بشكله كما في الجمهورية الأولى، بحيث تكون الريادة لمن يملك شبكات اقتصادية وتعليمية ولوبي قضائي وإعلامي يستطيع أن يمارس به وصاية على السلطة التنفيذية، فالمشكلة لم تكن في الوصاية نفسها بقدر ما كانت في علمانيتها المتطرفة، أضف إلى ذلك أن الحركة تدَّعي أنها لا تمارس وصاية وإنما لديها كوادر متعددة تمارس مهامها في الدولة بشكل حيادي ونزيه في مواجهة ديكتاتورية أردوغان المتصاعدة والتي تعتقد أن عليها واجب إيقافه قبل أن يتغوّل سلطانه التنفيذي على حركتها، في حين يدَّعي أنصار الحزب أن الحركة ورثت الوصاية لا أكثر، وأنها تمارسها لمجرد خلافاتها السياسية مع مواقف أردوغان، والتي تدعي أنها تحظى بتأييد شعبي تركي كبير مقابل رغبة الحركة في الالتفاف عليها بشكل غير ديمقراطي عبر تحالفاتها الداخلية والخارجية.
جرت العادة أن تكون الحركات الاجتماعية هي الدافع للتغيير في مجتمعٍ ما، في حين تكون الدولة والأحزاب الحاكمة منها الأكثر محافظة على نسق الدولة، والأكثر رغبة في استثمار قوتها في البنية الموجودة بدلًا من المخاطرة بالدفع نحو تغيير البنية الموجودة والخسارة في النهاية. يمثل النموذج التُركي استثناءًا يدعو للتعجُّب، إذ أن الحركة الاجتماعية والاقتصادية التي تملك نظريًا القدرة على تحريك الواقع باتجاه تغيير أكثر راديكالية من أسفل، هي الحركة التي اختارت أن تستثمر في المنظومة كما هي وتحافظ عليها باعتبار ذلك أكثر كفاءة من محاربتها، في حين الحزب الذي تكمن قوته في قدرته على حُكم البلاد هو الذي يدفع نحو التغيير وتجاوز الخطوط الحمراء مستخدمًا سلطانه التنفيذي بشكل أساسي لإعادة تشكيل شبكة العلاقات السياسية الحاكمة لتُركيا.
قد يقول قائل أن كلًا من الحزب والحركة اختار الطريق الذي اختاره انطلاقًا من مصلحته السياسية، فحركة كولن يهمها أن تظل السلطة التنفيذية ضعيفة ومعرضة للإطاحة في أي لحظة بتدخل قضائي وضغط إعلامي، للحفاظ على مكتسباتها التي بنتتها في المجتمع التُركي وخارجه. حزب العدالة والتنمية، على الناحية الأخرى، يهمه أن يقضي على قدرة أي مؤسسة على إسقاط الحكومات بغير صناديق الاقتراع كل خمس سنوات، سواءٌ أكان القضاء أو الشرطة أو الجيش. ولكن بجانب حرص كل منهما على حماية “شبكاته”، تبقى السُبُل التي بُنيت بها تلك الشبكات، والرؤى التي بُنيَت من أجلها، فرقًا واضحًا يفرّق بين الحزب والحركة ويتجاوز كل المصالح السياسية المباشرة ويشي بالطريق الذي تنتهجهه تركيا في الداخل والخارج والتغيّرات التي ستلحق به وفقًا لتقدم كل منهما على الآخر في المعارك المختلفة التي بدأوا في خوضها منذ سنوات.
رؤية كولن هي أن يبقى العالم كما هو، وأنه لا فائدة من أي تحدي ثوري، على غرار ثورات إيران والربيع العربي، لهيمنة الغرب، ولا بديل عن الاندماج مع الثقافة الغربية لتشكيل هجين ثقافي جديد يكون حاملوه مسلمون هويةً وأخلاقًا بدون النظر بالضرورة إلى الأمة كفكرة سياسية أو للإسلام كرؤية كلية مستقلة بذاتها عن الحداثة، مع الاعتماد على الأتراك بشكل أساسي كحملة هذا المشروع الثقافي. أما حزب العدالة والتنمية فلا يرى طائلًا من خوض معارك داخلية حول الشريعة وغيرها فهي معارك خاسرة، ولا من هجر “الدولة” على طريقة النورسي. فالإسلام ليس مجرد منظومة أخلاقية كما يقول كولن، ولكن ليس بالضرورة أن يكون رؤية كلية كما في بعض كتابات الإسلاميين العرب، أو أيديولوجية داخلية كما يرى إسلاميون آخرون توَجَّه لتغيير نسق الدولة الحديثة. الإسلام للحزب، وكما كان للعثمانيين، مشروع عالمي تتطلع فيه تركيا بدور قيادي -كدولة لا كعِرق- مستغلةً الوضع الاستثنائي لها في النظام العالمي لتتوجّه للعالم العربي والإسلامي، بقدر ما تحافظ على تحالفها الاستراتيجي مع الغرب الذي يحفظ استثنائيتها هذه ويبقي لها التوازن مع روسيا وإيران.
والله أعلم