كان الاقتصاد السوداني قبل حرب الجنرالات التي اندلعت منتصف أبريل/نيسان الماضي يرزخ تحت وطأة العديد من الأزمات والتحديات، لكنه في المجمل كان يسير ولو على أرجل عرجاء، في ظل الدعم المقدم له من الخارج على أمل إصلاح المشهد السياسي بما يضع البلاد في المنطقة الدافئة التي تشجع المجتمع الدولي على تقديم أوجه المساعدة المختلفة.
لكن بعد اندلاع تلك المواجهات تغير الوضع بشكل كبير، ليواصل الاقتصاد الوطني للدولة الأكثر ثراءً بثرواتها المعدنية والزراعية في إفريقيا، تراجعه وانهياره بشكل غير مسبوق، نهب وسرقة وحالة من الشلل التام تهيمن على المشهد، نزوح جماعي داخلي وخارجي، غلق صنبور المساعدات الخارجية إلا فيما يتعلق بالدعم العسكري المقدم لطرفي الحرب وفق أجندات محددة.
وتعكس الصور الملتقطة للحياة العامة في شوارع الخرطوم حجم الكارثة، حيث الركام الذي يهيمن على معظم جنبات المشهد، وخلو المدينة من المارة إلا من العسكريين، وغلق معظم المصانع والشركات والمحال التجارية، فيما يخيم الصمت على تلك المناطق التي كانت بالأمس تدب بشتى مظاهر الحياة.
تحذيرات عدة من خبراء اقتصاديين ومتخصصين بشأن كارثية الوضع الاقتصادي السوداني وتجاوزه كل الخطوط الحمراء إذا استمرت تلك المواجهات التي يتوقع أن يطول أمدها في ظل التغذية المستمرة من تجار الحروب من القوى الخارجية، ليدفع المواطن السوداني وحده الثمن الباهظ الذي قد يجره حتمًا إلى النزوح – أو الموت جوعًا حال بقاءه – ليلحق بعشرات آلاف الفارين من ويلات تلك الحرب التي تأكل الأخضر واليابس.
أكوام من الحديد المنصهر
كشفت مراسلة صحيفة “لوموند” الفرنسية في الخرطوم، إليوت براشيه، في تقرير لها، حجم الخسائر التي لحقت بالاقتصاد السوداني جراء الحرب، لافتة أن مباني العاصمة ومصانعها ومستودعاتها تحولت إلى أكوام من الحديد المنصهر، كما أن منطقة بحري الصناعية في الشمال التي تعد واحدة من أكبر المناطق الصناعية في السودان تحولت إلى ساحة حرب كبيرة، وخلت تمامًا من مظاهر الصناعة والعمل التي كانت تضج بها في السابق.
ونقل التقرير عن مديرة الموارد البشرية في مجموعة “حجار” منى ميرغني، تعرض العديد من مقار الشركة (التي تعد واحدة من أعرق الشركات الاستثمارية في السودان تأسست عام 1904 ولها استثمارات عدة في الزراعة والطاقة والتكنولوجيا) للنهب والقصف والسرقة.
في ضوء تلك الصورة القاتمة تتصاعد المخاوف من احتراب أهلي قد يلوح في الأفق إذا استمر الوضع على ما هو عليه، خشية تكرار سيناريو جنوب السودان حيث الهرولة لنهب الموارد وسرقة الموارد والماشية والمحاصيل من المنازل والمستودعات والمخازن
فيما نشبت النيران في العديد من المصانع والشركات الكبرى الأخرى في المنطقة الصناعية شمال الخرطوم مثل شركة كوكاكولا وشركة “ساميل فوودز”، الشريكة لمجموعة Nutriset الفرنسية، وهي التي أنتجت آلاف الأطنان من معجون الفول السوداني لمكافحة سوء تغذية الرضع خلال السنوات الماضية، بجانب تعرض مستودعات شركة “Sayga”، أكبر مصنع للدقيق في السودان، للقصف والحرق بشكل شبه كامل.
وتعرض الاقتصاد السوداني في مجمله لخسائر فادحة منذ أبريل/نيسان الماضي أبرزها: خروج مطار الخرطوم من الخدمة وهو الذي يسيطر على 5% من إجمالي حجم التبادل التجاري بين السودان ودول الخارج، بجانب خسائر تقدر بنحو 15 مليار دولار قيمة إجمالي واردات وصادرات السودان.
وتقدر حجم خسائر عائدات صادرات الذهب التي تعرضت للتوقف بنحو ملياري دولار، فيما توقفت حركة التجارة بين الخرطوم والقاهرة والمقدرة بنحو 1.5 إلى ملياري دولار أي ما يعادل 10% من صادرات وواردات السودان، ولذلك انعكاسات كبيرة على حركة التجارة والحياة المعيشية في الداخل.
حالة من الشلل التام
“لم يعد هناك مشتري ولا بائع.. الوضع بات مجمدًا بصورة لم نعرفها من قبل حتى في أحلك المحطات التاريخية التي مرت بها بلادنا”، بهذه الكلمات وصفت “أسماء” طبيبة سودانية (27 عامًا) الوضع المعيشي العام في السودان، كاشفة أن الأمور تزداد سوءًا يومًا بعد الآخر.
وتضيف الطبيبة السودانية التي غادرت أم درمان باتجاه القاهرة قبل أسبوعين تقريبًا أن محل تجارة الفول السوداني المملوك لوالدها الذي كان يزخر بضوضاء المشترين صباحًا ومساءً، ما عاد اليوم يقترب منه أحد، فليس هناك أحد، فالغالبية تركوا منازلهم ونزحوا، إما لمناطق في الداخل أكثر أمانًا وإما خارج البلاد في مصر وتشاد.
وكشفت أسماء في حديثها لـ”نون بوست” أن أقاربها في المجمل ومعظمهم تجار كبار قرروا النزوح للقاهرة، إذ إن تجارتهم تعرضت لكساد لم يعرفوه من قبل، حتى الأموال التي معهم وكانوا ينفقون منها على التجارة أوشكت على النفاد، حتى المصانع التي كانت تورد لهم السلع (الفول السوداني) توقفت جراء القصف والحرق والنهب على أيدي طرفي الحرب.
يدفع السودانيون اليوم ثمن العديد من الأخطاء والكوارث التي مني بها الاقتصاد الوطني، على رأسها هيمنة العسكر على موارد الدولة، وهو ما ألمح له رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك حين قال في عام 2020 إن ما يقرب من 80% من موارد السودان يسيطر عليها الجيش وأعوانه
الوضع كذلك ينسحب على بقية المجالات، حيث أشار عضو شعبة الدواجن بالخرطوم، مرتضى كمال، إلى تعرض الثروة الداجنة في البلاد لخسائر فادحة، تقدر بمليارات الجنيهات، نتيجة نفوق الكثير من الدواجن بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ليفقد البلد الإفريقي أحد أبرز مصادره الاقتصادية التي كانت تدر في السابق على الاقتصاد الوطني ملايين الدولارات سنويًا.
فيما قدر عضو غرفة المصدرين السودانيين، محمد سلمان، الخسائر الناجمة عن حرق مخازن السلع في المنطقة الصناعية بالملايين، لافتًا أن الوضع ينحدر نحو ما هو أسوأ، حيث النهب والسرقة والاعتداء على المنازل وسلب ما بها من موارد، ومما زاد الوضع تفاقمًا توقف الحركة التجارية بين الميناء الوحيد للسودان (بورتسودان) والخرطوم، ما يتسبب في ندرة الموارد والسلع المتاحة، ويشجع على السرقة وينذر بنشوب حرب أهلية في القريب العاجل.
قد بلغ حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوداني جراء الاشتباكات بما لا يقل عن 3.4 مليار دولار، غير الخسائر البشرية فهناك أكثر من ألف و800 ضحية من المدنيين، ومئات الآلاف من النازحين واللآجئين، وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين تتفاقم مخاوفي من اتساع رقعة الحرب وانزلاق البلاد نحو… pic.twitter.com/NbLlwdRpPD
— Remaz ali ReRe (@jrgandecila) June 6, 2023
السودان يدفع ثمن عسكرة الاقتصاد
يدفع السودانيون اليوم ثمن العديد من الأخطاء والكوارث التي مني بها الاقتصاد الوطني، على رأسها هيمنة العسكر على موارد الدولة، وهو ما ألمح له رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك حين قال في عام 2020 إن ما يقرب من 80% من موارد السودان يسيطر عليها الجيش وأعوانه.
الأمر تفاقم أكثر بعد اندلاع المواجهات بين الجيش وقوات الدعم، حيث تقاسم الطرفان الموارد الطبيعية المهمة التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد البلد خاصة: الذهب والصمغ العربي والسمسم والماشية والزيت، بجانب الهيمنة على معظم المصانع والثروات المعدنية المغذية لها، حتى القطاع الزراعي والحيواني الذي كان متنفس السودانيين بات اليوم تحت إمرة الجنرالات.
ومع نشوب تلك المواجهات وتوقع إطالة أمدها فإن موارد الدولة ستكون الوقود الأساسي الذي يغذي الحرب، حيث يوظف كل طرف ما لديه من موارد للإنفاق على المعركة، حتى مع العقوبات الغربية المفروضة على بعض الشركات المملوكة للجنرالات، كأحد أوراق الضغط لوقف القتال، فإن البديل سيكون مزيدًا من التغول على موارد الدولة ونهبها لتعويض تلك العقوبات، فيما يترك المواطنين عرضة لسرطان الجوع والعوز والفقر، هذا لمن ارتضى منهم البقاء، أما الغالبية – وهو المتوقع – فسيضطرون إلى مغادرة الوطن هربًا من ويلات الحرب والمجاعة.
ومن الأخطاء الكارثية التي يدفع السودانيون اليوم ثمنها، وتعد في مضمونها أحد إفرازات الهيمنة العسكرية على المشهد الاقتصادي، تركيز النشاط الاقتصادي والقلاع الصناعية الكبرى في العاصمة الخرطوم، فيما تعاني الأقاليم والأطراف الأخرى من التهميش الواضح.
ونتيجة لتلك الإستراتيجية ها هي العاصمة بكل ما فيها من ثقل اقتصادي يسوى بها التراب، وتتحول إلى أكوام من الرماد والحديد المنصهر، ولم يبق للدولة أي ظهير اقتصادي آخر في المناطق البعيدة عن الخرطوم، وهو التخطيط الخاطئ الذي طالما حذر منه الاقتصاديون في الداخل إبان فترة عمر البشير وما تلاها، لكن دون استجابة من السلطات الحاكمة.
في ضوء تلك الصورة القاتمة تتصاعد المخاوف من احتراب أهلي قد يلوح في الأفق إذا استمر الوضع على ما هو عليه، خشية تكرار سيناريو جنوب السودان حيث الهرولة لنهب الموارد وسرقة الموارد والماشية والمحاصيل من المنازل والمستوداعات والمخازن، التحول الذي قد ينجم عنه تسليح المدنيين وتحويلهم إلى ميليشيات للبحث عن قوت يومهم، وهو ما يعني أن يتحول السودان إلى برك من الدماء لن تجف.
الارتدادات السلبية للحرب لن تتوقف عند حاجز الاقتصاد الوطني السوداني فحسب، بل يتوقع أن تمتد إلى دول الجوار، كذلك بنوك التنمية متعددة الأطراف التي تقرض السودان وجيرانه، وهو ما حذرت منه وكالة موديز للتصنيف الائتماني التي قالت إن انحدار الصراع إلى حرب أهلية ممتدة سيؤدي لتدمير البنية التحتية وسيكون له تداعيات اقتصادية خطيرة على الداخل والخارج.