ترجمة وتحرير نون بوست
ما كان ينبغي أن تختار مجلة التايم دونالد ترامب ليكون شخصية هذا العام، ليس المقصود هنا ارتكاب الخطأ الذي يقع فيه بعض تلاميذ المدارس حين يفترضون أن من يقع عليه الاختيار ليكون شخصية العام فهو بالضرورة حائز على التقدير والقبول من الناحية الأخلاقية. أعلم يقيناً أن مثل هذا الاختيار إنما يقصد منه القول إن هذا الشخص هيمن خلال الشهور الاثني عشر الماضية، سواء بالخير أو بالشر. (ولهذا فليس لدى مجلة تايم ما يجعلها تأسف على اختيارها لأدولف هتلر ليكون شخصية العام ١٩٣٨.)
على الرغم من أن أخبار ترامب كانت بلا منازع هي الأكبر والأبرز خلال عام ٢٠١٦، إلا أنه مع ذلك مع كان ينبغي أن يفوز بهذا الاختيار. وذلك لوجود شخصية أخرى سادت المشهد خلال هذا العام المريع، وإن كان جل حراكه في الظل، ختم هذه السنة بتكشيرة الوحش الكاسر، يغمره الرضى وقد تحققت له تقريباً كل أحلامه. ذلك الرجل هو فلاديمير بوتين.
تراه يقوم بمسح شامل للمسرح العالمي فيرى كل اليافطات تشير إلى الطريق الذي خطه بنفسه. من حلب إلى البيت الأبيض، ومن “ما بعد الحقيقة” إلى بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، كانت هذه هي السنة التي أعيد فيها تشكيل العالم كما أراده بوتين. لربما لم يكن هو اليد التي وجهت كل حدث وكل تغيير – رغم أنه بلا أدنى شك أعطى عدداً منها دفعة سرعت من وتيرتها، إلا أنها مجتمعة أهلته ليكون أكبر الفائزين في عام ٢٠١٦.
لا يشك سوى قلة قليلة من المصادر في أن روسيا كانت تقف وراء اختراق رسائل الايميل الخاصة بالحزب الديمقراطي، وأن المعلومات التي نشرها جوليان أسانج إنما أتت حتى تسبب أكبر ألم ممكن لهيلاري كلينتون وأكبر سعادة ممكنة لترامب
ولنبدأ بسوريا، والتي حتى في سنة الرعب هذه استحقت بكل تأكيد أن تكون الكارثة التي يندى لها جبين العالم. تعود زعماء البلدان الغربية على التنديد بالنكبة التي حلت بالناس في حلب، وعلى الاستنكار بأفصح العبارات ما يقع من قصف للمستشفيات، بما في ذلك العيادات المؤقتة التي تقام بشكل خفي في الطوابق السفلى تحت الأرض، والتنديد بتسوية أماكن سكني المدنيين بالأرض، وقتل الأطفال، وحرمان المحاصرين من الطعام والدواء. ومع ذلك يعلم بوتين أنه ليس مضطراً لأن يسمع أياً من ذلك. لأن ما يهمه حقاً هو الحقائق على الأرض: لم يسع أحد لوقفه عند حده أو منعه هو وتابعه السوري بشار الأسد من الاستمرار في ارتكاب المذابح.
كثيرون حذروا من أن حلب ستكون “غويرنيكا” جيلنا هذا، وأن الأجيال القادمة ستذكرها باعتبارها واحدة من أكبر الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية. سوف يسأل المؤرخون في المستقبل جميع الأسئلة، ذاتها تلك التي يندى لها الجبين مثل: لماذا لم يكن هناك غضب أكثر واستياء أكبر؟ ألم يعلم الناس بما جرى أم أنهم ببساطة لم يهتموا؟ لماذا لم يتصرفوا؟ ولكن ثمة مقارنة أخرى. ما نزل بساحة حلب هو نفس ما أنزله بوتين بساحة غروزني عندما تجرأ الشيشان على التمرد على موسكو. فهي الأخرى تعرضت للقصف في عام ١٩٩٩ حتى تحولت بحسب تقرير للأمم المتحدة إلى “أرض محروقة مدمرة”. سكت العالم على تدمير غروزني على اعتبار أنها تقع داخل الحمى الروسي.
إذ يقترب العام من نهايته، ما من يوم يمر إلا ويجلب لسيد الكريملين المزيد من المكاسب
إلا أن الإذن الذي منح لبوتين بحكم الأمر الواقع لكي يسحق سوريا يعتبر بالنسبة للدكتاتور الروسي نصراً أكبر من ذلك الذي حققه في غروزني، إذ لم يقتصر الأمر على خدمة مصالحه الاستراتيجية الضيقة من خلال الاحتفاظ بوجود له داخل منطقة الشرق الأوسط وفي طرطوس، الميناء العميق الذي يتيح له موطئ قدم على ساحل البحر المتوسط، بل تخطى ذلك إلى الفوز بجائزة قد لا تكون ملموسة بشكل كبير ولكنها ذات قيمة كبرى بالنسبة له، ألا وهي إثباته أن من الممكن قتل أو تشريد الملايين من المدنيين والإفلات من المساءلة والعقاب.
بالطبع هناك من سيقول إن جورج دبليو بوش كان قد أثبت ذلك من خلال غزوه للعراق في عام ٢٠٠٣. ولكن، حتى الآن، لربما ظلت موسكو تشعر بأنها مقيدة بسبب السابقة التي مارسها سلوبودان ميلوزيفيتش، حيث كانت تخشى وجود حدود لكميات الدم التي يسمح لك بأن تسفكها قبل أن يتحرك الغرب أو الولايات المتحدة أو حلف الأطلسي في نهاية المطاف. لقد خلص بوتين، جزئياً بسبب العراق وبسبب الإجهاد الذي خلفه، إلى أن حديث المجتمع الدولي عن “مسؤوليته عن حماية” المدنيين المهددين كلام أجوف، فقد ثبت بالتجربة أن بإمكانك قتل مئات الآلاف دون أن يحرك أحد ساكناً.
إلا أن عام ٢٠١٦ وفر لبوتين أسباباً أخرى للابتهاج، فقد أصبح لديه الآن أصدقاء في أعلى الأماكن، أو في أماكن حيث يوشك أصدقاؤه بالارتقاء إلى أعلى. وأوضح الأمثلة على ذلك ترامب، مع أن ثمة آخرين، بعضهم قريب وبعضهم بعيد. كان شهر نوفمبر / تشرين الثاني شهراً مهماً بالنسبة لروسيا، فقد وصل خلاله عدد من المرشحين من أنصار بوتين إلى السلطة في مولدوفا وبلغاريا وإستونيا، وهو بانتظار تحقيق مكسب آخر في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري في ٢٠١٧، حيث أن الفرصة سانحة جداً لكي ينتهي المطاف باثنين من المعجبين ببوتين إلى التنافس في الجولة الأخيرة من الانتخابات، وهذان هما: فرانسوا فويين ومارين لوبان.
مثل معظم منتسبي التيار اليميني المتطرف في أوروبا، لطالما نظرت لوبان إلى بوتين باحترام وتبجيل باعتباره زعيماً قومياً قوياً، وأسعدها أن تحصل على قرض بقيمة ٩ مليار يورو (ما يعادل ٨ مليون جنيه إسترليني) من مصرف مدعوم من قبل الروس. ولا يقل فويين، الذي سيكون حامل لواء يمين الوسط في فرنسا، عنها احتراماً وتوقيراً لبوتين. يرغب فويين في أن يرى رفعاً للعقوبات المفروضة على موسكو بسبب أكرانيا، ويعتقد أن بوتين، فاتح القرم، هو الطرف المظلوم والمتضرر في الصراع نظراً لأن القوى الغربية هي التي تتحمل المسؤولية عن قيام روسيا بالغزو في المقام الأول.
أينما ولى بوتين وجهه فسيجد لنفسه حلفاء، سواء من أمثال نايجيل فاراج في التيار اليميني أو مرشحة حزب الخضر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية جيل ستاين في التيار اليساري. (يذكر أن ستاين كانت قد تفاخرت أثناء حملتها الانتخابية بأنها تعشت مع الزعيم الروسي وبأنها أيضاً كانت تجلس معه على نفس الطاولة.) وبالفعل، إذا ما أخذنا بالاعتبار الأنظمة التي تحكم الآن في المجر وفي بولندا، فإنه يحق لبوتين أن يبتسم سعادة لصعود ما أطلق عليه الأستاذ في العلوم السياسية ياشكا مونك “التيار الدولي غير الليبرالي”، والممثل بقوس من الدول التي يحكمها أناس، مثلهم في ذلك مثل بوتين، يعتبرون حرية الصحافة واستقلال القضاء أموراً غير ضرورية ومؤذية.
قد لا يكون بوتين هو الذي أنجز كل ذلك بنفسه، ولكنها مع ذلك تحسب له إنجازات تاريخية
حتى التصويت الديمقراطي هذا العام جاء لصالح بوتين، حيث كان بريكسيت هدية مبكرة قدمت على طبق من فضة لهذا الرجل الذي طالما اعتبر إضعاف الاتحاد الأوروبي هدفاً استراتيجياً له. والحقيقة أن الوضع الأمثل بالنسبة له يكمن في تفكك الاتحاد الأوربي، هذا ما يتمنى رؤيته، لأنه سيتيح له فرصة إبرام صفقات ثنائية مع الدول الأوروبية كل على حده وحسب ما يقع عليه اختياره هو. هذا ما يرجوه على المدى البعيد. ولكن يكفيه في الوقت الراهن مجرد إضعاف الاتحاد الأوروبي وإبقائه في حالة من الارتباك وعدم الاستقرار. وبخروج بريطانيا، سوف يفقد الاتحاد الأوروبي واحداً من أعلى الأصوات التي ما فتئت تحذر من بوتين.
ولكن من المؤكد أن أحلى الانتصارات تحققت له في الثامن من نوفمبر. كان دونالد ترامب يتأرجح أثناء الحملة الانتخابية فيميل يمنة تارة ويسرة تارة أخرى، ولكن واحداً من المواقف القليلة التي ثبت عليها ولم يغير فيها ولم يبدل كان إعجابه ببوتين. من المؤكد أن المستبد بوتين بذل ما في وسعه في سبيل رد الجميل، وكما قال أحد حلفاء الكريملين “ربما ساعدنا قليلاً من خلال ويكيليكس.” ما من شك في أنهم قاموا بذلك فعلاً.
لا يشك سوى قلة قليلة من المصادر في أن روسيا كانت تقف وراء اختراق رسائل الايميل الخاصة بالحزب الديمقراطي، وأن المعلومات التي نشرها جوليان أسانج إنما أتت حتى تسبب أكبر ألم ممكن لهيلاري كلينتون وأكبر سعادة ممكنة لترامب. لاريب أن بوتين، بوصفه رجل الكي جي بي السابق، يفتخر بإنجاز ما يمكن اعتباره أنجح عملية تجسس في التاريخ، وهي العملية التي فاق نجاحها توقعات موسكو ذاتها، ونجم عنها تنصيب شخص في البيت الأبيض معجب بالزعيم الروسي ومتملق له.
الفوائد واضحة. إذا ما أخذنا بالاعتبار الموقف الفاتر الذي أبداه ترامب تجاه الالتزام بحلف شمال الأطلسي والدفاع عن الدول الأعضاء فيه، سينعم بوتين من الآن فصاعداً بحرية مطلقة. وكما لاحظ أحد الخبراء الروس: “الوضع كما يشاهد من موسكو يتمثل في أن الغرب لم يكن بهذه الحالة من الارتباك والفوضى منذ أزمة السويس عام ١٩٥٦. وأياً كانت القيود التي يشعر بها بوتين الآن وهو يندفع وراء غرائزه التي تغريه بالاستيلاء على مزيد من الأراضي، لم يعد حلف شمال الأطلسي واحداً من هذه القيود.”
تراه يقوم بمسح شامل للمسرح العالمي فيرى كل اليافطات تشير إلى الطريق الذي خطه بنفسه
وإذ يقترب العام من نهايته، ما من يوم يمر إلا ويجلب لسيد الكريملين المزيد من المكاسب. هذه هي الولايات المتحدة الأمريكية على وشك أن تحكم من قبل شخص كذوب بطبعه لا يملك التوقف عن الافتراء، بينما أضحت أحاديث العامة في الغرب ملوثة بالأخبار المفبركة. هذا العالم الجديد، عالم ما بعد الحقيقة، ما هو إلا عالم بوتن. على مدى سنوات، لم تكن جهوده الدعائية، والتي يمثلها ما تقوم به قناته التلفزيونية روسيا اليوم، تستهدف بشكل أساسي توجيه رسالة ما إلى المتلقين وإنما استهدفت إحداث حالة من الارتباك والفوضى، بحيث تبدو حتى الحقائق الراسخة مجرد أوهام. فيما مضى كان يبدو من غير المجدي تحدي الإطار الصلب للحقيقة والمنطق، واللذين ترسخا عبر قرون منذ عصر التنوير. أما الآن، فقد ثبت أن أجود أنواع الخشب يمكن أن يتعفن.
قد لا يكون بوتين هو الذي أنجز كل ذلك بنفسه، ولكنها مع ذلك تحسب له إنجازات تاريخية. إذا كان العام ٢٠١٦ عاماً شنيعاً، وقد كان كذلك بالفعل، فما من شك أن وجهه الحقيقي هو وجه فلاديمير بوتين.
المصدر: ذي جارديان