“هذه المهنة تقتلني!” كتب هذه الجملة صديقي العزيز محمود، منتج المقابلات في الفضائية التي أعمل بها، على صفحته على فيس بوك، دون أن يسرد لأحد قصة هذه الجملة، النارية.
في السادس من ديسمبر الجاري، تعرّض ثلاثة شباب مصريين، للتصفية الجسدية على يد قوات الداخلية، بعد إخفائهم قسريًا لأكثر من ثلاثة أشهر، وبطبيعة عمل محمود، الذي يحمل هاتفه مئات الأرقام، كان من بين هذه الأرقام، أسرة أحد هؤلاء، فبادر بالاتصال، للترتيب لمداخلة حول الموضوع، فما كان من الجانب الآخر على سماعة الهاتف، إلا الصراخ والعويل، والسبب، أنهم لم يكونو قد وصل إليهم خبر التصفية، وأُخبروا به للمرة الأولى، من محمود، تخيل كم الصدمة، وضع نفسك موضع محمود.
دائمًا، يردد الصحفيون، أن هذه المهنة، هي مهنة المتاعب، ومهنة الصعاب، لكن هذه المهنة، أضحت اليوم، سبب مرض وإرهاق نفوس من يعملون فيها، يوميًا يحرر الصحفيون، عشرات أخبار الاعتقال ومثلهم للمختفين قسريًا، ويضاف إليهم حالات القتل خارج نطاق القانون والقتل داخل مقرّات الاحتجاز ويقومون بانتاج تقارير عن هذه الحالات، وفيتشرات إنسانية عنهم، شريط العاجل الأحمر، المعبر عن كارثةٍ ما، تصفية شاب، مقتل شيخ داخل السجون، أحكامٌ بالسجن والمؤبد، اعتداءاتٌ على معتقلين في السجون، ملاحقات للشباب في الشوارع، وأكثر من ذلك بكثير.
ويمكننا هنا عقد مقاربة، أراها يوميًا، بين الصحفي حاليًا والطبيب الجراح، الطبيب التي يقوم أساس مهنته على فتح بطون الناس واستئصال بعد الأجزاء من أنحاء الجسد، ونزع الزائدة، وعلاج القلب، وجراحة المناطق الحساسة في جسم الإنسان، مع الوقت يفقد هذا الطبيب معاني كثيرة كرهبة الدماء والخوف من اللون الأحمر ووجع البطن من رؤية جدار معدة إنسان ملقى على سريره، كذلك الحال مع الصحفي حاليًا، يحرر أخبار الاعتقال والسجن والفقر والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ومع الوقت يفقد كما الطبيب المبتدئ معاني الفجع من قتل وسحل، فالفاجعة كانت في البداية، في خبر اعتقال فتاة واقتيادها إلى مديرية الأمن، لكن اليوم، عشرات الفتيات في السجون، أمرٌ عادي. تأتي الأخبار على مدار الساعة، لا لتعبر عن شيئ أكثر من الموت والظلم والقهر. هذه المهنة تقتلنا بالبطيئ، تلك حقيقة، يجلس الصحفيون في صالات التحرير وغرف الأخبار يتداولونها فيما بينهم، ويسردون الأسباب.
“This Job Is Killing Me”
لست متحاملًا على المهنة بأي شكل من الأشكال، فأنا من اخترتها وأنا في سن الخامسة عشر، وقررت أن انخرط في سلكها، وبذلت كثيرًا من وقتي ومالي في صناعة شيئ ما كأي شغوف بأي مجال، يسعى جاهدًا أن يحقق نجاحات كثيرة، ليُثبت أجقيته في هذا الخيار، لكن المهنة، لم تعُد كما بدأنا فيها، بل أصبحت مملة ومرهقة ومؤلمة، لم يعُد هناك متسع، للعمل بعيدًا عن السياسة، ووجع همومها، فأي ممتهن لمهنةٍ أخرى، يمكنه أن يسحب فيشة الأخبار، يغلق حسابه على فيسبوك، يكتفي بمتابعة الأخبار الكروية والفنية، لكن، ما الذي يفعله، من كانت الصحافة هي مصدر رزقه الوحيد؟
يعلم الزملاء في غرف الأخبار، أنا مهمتهم الأساسية، هي إحصاء أعداد قتلى التفجيرات، ومتابعة البيانات الحكومية بإحصائيات القتلى والمصابين، وأن سباق الأخبار، يصير واقعًا في الكوارث وعليهم أن يكونوا أكثر سرعةً في نقل الكوارث، وأن تتصدر نشراتهم الأخبارية، أخبار الألم والوجع الذي يملئ أنحاء الوطن. تلك هي غرف الأخبار حاليًا يا عزيزي القارئ.
أطالب السادة مديري صالات التحرير والمؤسسات الإعلامية، بإضافة “طبيب نفسي” لكل صالة تحرير، هذا ما يحتاجه محررو الأخبار هذه الأيام، أكثر من وقت آخر، فالأمراض التي نخرت نفوسهم من هذه المهنة المزعجة، تحتاج بالفعل لعلاج دائم ومستمر وطويل المدى، إما ذلك، أو يتوقف العالم عن الدماء والقتل والقصف والرصاص واستباحة الإنسان، وبما أن الأخيرة لن تحدث، فعلى مديري صالات التحرير أن يعملوا بنصحيتي.