منذ منتصف القرن العشرين، واجه سكان المدن المصرية العديد من التقلبات على مستوى السكن، كان أهمها “عملية التسليع” التي زادت حدتها في الفترات الأخيرة، كما بات التحديث والتطوير اللذين تقودهما الدولة نقمة لآلاف الأسر المصرية التي لا يتم مشاركتهم في عملية التطوير، بل يفرض عليهم بعنف، وبالأخص على الفئات الأضعف في المجتمع.
وبدلًا من أن يراعي التطوير ظروف المجتمع وحاجتهم في مسكن يشعرون فيه بالألفة والاطمئنان، استُحدثت ظروف غير ملائمة لطبيعة السكن ولا تراعي ما هو عام وخاص، إذ اقتحمت الكباري ومشاريع التطوير قلب المدن السكنية، واستغلت الدولة الفراغات المحيطة بالوحدات السكنية، بل وحتى المساحات أسفل الكباري حوّلتها لمشاريع تجارية تدر لها أرباح.
في عام 2021 صدر عن دار المرايا للثقافة والفنون بالقاهرة كتاب “نشتري كل شيء.. تحولات السكن والعمران في مصر” لمجموعة من الباحثين والباحثات في حقول معرفية متنوعة، قدم الكتاب تحليلًا للتحولات التي مر بها المشهد السكني بالقاهرة من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم، والذي كان بالدرجة الأولى نتاجًا للتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في هذه الفترة الطويلة لتشكل القاهرة بوجهها اليوم.
وعلى امتداد صفحاته، حاول الكتاب الإجابة على أسئلة: هل فقدت المدينة ألفتها وانهار التوازن ما بين الفضائين الخاص والعام؟ ما هي الأسباب في تحول القاهرة من مدينة سلام إلى بؤرة من التوتر والفوضى والدناءة الطبقية؟ هل داست الدولة على حقوق الفقراء والضعفاء؟ بأى تقاليد تُشيّد المدن الجديدة؟
تصفية الأوقاف الأهلية
في دراسته “سيدي مدين: قصة بناية بحي باب الشعرية”، يسرد عبد الرحمن الطلياوي كيف مرّت بناية امتلكها جده، في شارع السوق بحي باب الشعرية الشعبي، بكل التقلبات السياسية والتشريعية عبر القرن الـ 20.
يوضّح الطلياوي أن مصطلح الأحياء الشعبية بدأ بالشيوع بحلول أربعينيات القرن الـ 20 لوصف تلك الأحياء القديمة بقلب القاهرة، فقد اهتمت الدولة بإنشاء الأحياء الجديدة، لكنها بالتوازي تركت الأحياء التاريخية تتعرض لعوامل التدهور.
كانت معظم البنايات في القاهرة القديمة متأثرة بنظام “الوقف الأهلي”، حيث كان ربّ العائلة يوقف البناية لعائلته وأولاده وأولاد أولادهم، ثم بعد انقضاء ذريته يؤول ريع البناية إلى بعض المساجد والمدارس وفقراء ومساكين المسلمين، وكان هذا النظام من أهم عوامل ثبات النسيج الاجتماعي للمدينة.
لكن مع بدايات القرن الـ 19، حاولت الدولة إدماج الأوقاف الأهلية ضمن سيطرتها، وكان أهم ما قامت به هو قانون عام 1946 الذي كانت أهم معالمه “تأقيت الأوقاف”، أي أنه بدلًا من كونها مدى الحياة نصَّ القانون على أن تكون بحدّ أقصى 60 عامًا.
رغم أن البعض يرى أن الإجراءات الناصرية كانت مجحفة بحق المالك، إلا أنها خففت من حدة تسليع السكن.
ثم في عهد الجمهورية، وخلال عقدها الأول، أصدرت 20 قانونًا خاصًّا بالأوقاف، أولها قانون رقم 180 لسنة 1952 الذي حظر الأوقاف الأهلية، لتؤول قسمة الوقف إلى ورثة الواقف، وبالتالي مثلما يوضّح الدكتور إبراهيم البيومي غانم، لم يعد شرط الواقف كما نصت الشريعة، بل أصبح كما ترغب السلطة الحاكمة، وانهار نظام الوقف الذي بلغ عمره أكثر من 14 قرنًا على يد ضباط يوليو.
وأثّر هذا الأمر بشكل كبير على نسيج الأحياء القديمة بالقاهرة، وحوّل نسبة من مساحات المدينة إلى سوق لإعادة استغلالها، مثلما أوضح الطلياوي.
وبالتوازي مع إلغاء نظام يوليو الأوقاف الأهلية، شهدت الستينيات عدة تشريعات من أجل توفير السكن، حيث أسّس عبد الناصر نظام الدولة الأبوية التي وفّرت السكن للجميع، بجانب بناء مشاريع الإسكان لمحدودي الدخل، وفرض قوانين تخفيضات الإيجار، حيث كان الإيجار يتم تقديره عبر “لجنة تحديد الإيجار”، كما أعطى القانون للساكن حق توريث عقد الإيجار.
وبحسب خالد أدهم في دراسته عن “تسليع الفراغ وعمران الطبقة المتوسطة: حالة مدينة المهندسين”، أدّت صرامة قوانين خفض الإيجار وتحديده إلى توقف استثمارات القطاع الخاص في سوق الإسكان، ولا تزال هذه القوانين مطبّقة حتى اليوم على المباني الواقعة تحت طائلته، وهي تعرَف اليوم بـ”قانون الإيجار القديم”.
ورغم أن البعض يرى أن الإجراءات الناصرية كانت مجحفة بحقّ المالك، إلا أنها خفّفت من حدة تسليع السكن، ولم يجد غالبية أبناء الطبقة المتوسطة أي صعوبة في استئجار السكن الذي كان متاحًا بأسعار معقولة.
ويوضّح أدهم أنه في فترة ما قبل السبعينيات كان دعم الأسرة للحصول على السكن من أجل الزواج أمرًا محدودًا ونادرًا، حيث كانت القاعدة في التأجير، لأن نمط التملك كان يناسب أفراد الطبقة العليا الذين كانوا يمتلكون مدخرات.
العقد الاجتماعي الجديد
جاء عهد الرئيس السادات، فشرع في تخفيف دور الدولة الاجتماعي في توفير السكن، وتراجعت الضوابط التي يمكن بموجبها التحكم في الأسعار، لم تؤدِّ سياسة الانفتاح التي قادها إلى تضاعف غير مسبوق لأسعار السكن فقط، بل غيرت أيضًا من نظرة المجتمع المصري إلى السكن، وصرنا مثلما يوضّح خالد أدهم أمام “عقد اجتماعي عائلي جديد”.
فأجيال ما قبل السبعينيات كانت تحصل على السكن المؤجر لأنفسها بسهولة، بينما أجيال ما بعد السبعينيات كان على آبائها شراء المساكن لها، لأن ما يتقاضاه الأبناء من أجور لم يعد كافيًا لبناء أو تحمل إيجار مسكن يناسب طبقتهم الاجتماعية.
وبحسب الباحث خالد أدهم في دراسته عن “تسليع الفراغ وعمران الطبقة المتوسطة: حالة مدينة المهندسين”، وقعت في فترة السبعينيات سلسلة من الأحداث، وأُصدرت مجموعات من القوانين والتشريعات، وظهرت قوى فاعلة على المستويات المختلفة، كانت محصلتها تأثير عنيف على حالة الإسكان، حيث بدأت أسعار الأراضي والعقارات تتزايد بمعدلات فلكية، أسرع بكثير من أي من مدخرات الأجور التي يحصل عليها شباب الطبقة المتوسطة.
كان تحديد القيمة التبادلية لإيجار المسكن مرتبطًا بحساب تكلفة الأرض وتكلفة تشييد المبنى.
ويعتقد أدهم أن سبب هذا الأمر يعود بدرجة أولى إلى تغيير في العلاقات الاجتماعية والمسؤوليات داخل الأسرة، حيث أصبح النمط السائد لحيازة المساكن هو التمليك بدلًا من الإيجار، وهذا برأي أدهم فرضته الأعراف الاجتماعية لدخول مؤسسة الزواج، وهو ناتج بالدرجة الأولى للتغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدتها البلاد.
وبالتالي التعامل مع المسكن كركن أساسي للزواج، أو أحد المتطلبات الأساسية له، أدّى إلى تفشي “ظاهرة الملكية” منذ السبعينيات وإلى اليوم، إذ تضاعف عمران القاهرة رأسيًّا وأفقيًّا، وصار المسكن في حدّ ذاته مصدرًا للثروة والتربح.
فعلى سبيل المثال، بين عامَي 1974 و1977 قام العاملون المصريون في الخليج بتحويل ما يقرب من 1.3 مليار دولار، موجّهين أكثر من 40% من هذا المبلغ إلى شراء المساكن.
ويوضح أدهم أنه في فترة ما قبل السبعينيات، كان تحديد القيمة التبادلية لإيجار المسكن مرتبطًا بحساب تكلفة الأرض وتكلفة تشييد المبنى، ومع بداية التحول التدريجي لنمط التمليك في السبعينيات، أصبح تقييم المسكن يُحسَب كقيمة تبادلية بسعر المتر المربع، الأمر الذي أدّى إلى مزيد من تسليع السكن، ولم يسلم عمران الطبقة المتوسطة من التسليع.
فعلى سبيل المثال، تضاعف عمران مدينة المهندسين ومدينة نصر بشكل مهول، فالبناء الذي كان به 4 طوابق، سُمح لملّاكه بتعلية أدوارها وتحولت إلى أبراج، كذلك الأدوار الأرضية أصبحت خاصة للأعمال التجارية.
نشوة المضاربة
في دراسته “الحياة الاقتصادية للمساكن الشاغرة: حالة مدينة بدر”، يحكي إبراهيم عبده عن لقاء له مع إحدى أساتذته في الجامعة، والتي قالت له بتحدٍّ إن المسؤول الأساسي عن تسليع السكن هو جموع أهالى الطبقة المتوسطة، لأنهم لا يعاملون المسكن كمجرد مكان للمعيشة، لكن أيضًا بشكل متزايد كمصدر للتربح أو كمدخر للثروة والاستثمار، لكن إبراهيم يرى أن اللوم لا يقع فقط على عاتق الطبقة المتوسطة، بل هناك أيضًا أسباب جذرية ومتنوعة تسبّبت في خلق هذه الحالة.
ومن خلال دراسته لحالة مدينة بدر، يرى إبراهيم أن لهفة الاستحواذ على الأراضي لبناء وتوفير السكن، جذبت بالدرجة الأولى المطورين والمقاولين الصغار الباحثين عن التربُّح والمضاربة، الأمر الذي أدّى إلى تضخم أسعار السكن، وبالتالي حُرمت العائلات التي قصدت المدن الجديدة لتلبية احتياجاتهم في السكن أو الرغبة لبناء البيت بأنفسهم.
كما يوضح إبراهيم أن نيل الموافقات البيروقراطية من أجل تشييد المباني عملية معقدة لا تتم بسلاسة، الأمر الذي خلق مستوى آخر للتربُّح، فهناك شبكة مكاتب لاستخراج التراخيص، وظيفتها مساعدة المقاولين والمطورين في مناورة العمليات البيروقراطية، مقابل رسومها التي تمثل حصة أخرى مشتقة من أرباح المستثمرين.
ولذا يطلق إبراهيم على هذه العملية أو ظاهرة السوق الموازي اسم “دورات التربح من المساكن”، فلكل دور توقيت وطبيعة وسرعة، وبالتالي زاد سعر المسكن النهائي، وجعل التكلفة تعلو بمقدار كبير وسريع وغير منطقي.
فالأشخاص الذين يريدون الاستقرار في هذه المساكن هم من يتحملون أعباء “دورات التربح”، وبالتالي يحتاجون إلى سنين أطول من الادخار، وتتأخر قدرتهم على الانتقال إلى المدينة، وهنا نلاحظ أن تركيز الدولة على بناء مدن جديدة كحلّ وحيد للخروج من أزمة السكن، ما زال في الحقيقة يثبت فشله إلى اليوم.
على هامش المدينة: تسليع الفراغ
في عهد السيسي، دخل السكن في موجة تسليع جديدة، فقد شهد قطاع العقارات نموًّا كبيرًا، إذا كان أحد أهم مرتكزات النظام، وأصبح أكبر قطاع اقتصادي في الدولة، وملاذًا آمنًا للعديد من العائلات التي تمتلك مدخرات، بسبب الخوف من الأزمات الاقتصادية المحتملة.
لكن هذه المرة شاركت الدولة بشكل طاغٍ في عملية التسليع والمضاربة وإعادة توزيع السكان، لم تتدخل الدولة لمراقبة سوق العقار وضبطه، بل أصبحت تكرّس حالة الاستقطاب والتمييز الطبقي في كل شيء، إذ باتت تبني مساكن ليس للفئات الاقتصادية فحسب، بل أيضًا لأصحاب الدخل المرتفع، وتهدم أحياء وشوارع كاملة من أجل تنفيذ مشاريعها.
لقد تبنّى النظام الحاكم “ظاهرة الكومبوند”، وبدلًا من أن يكون الجميع على قدم المساواة، صارت الدولة نفسها تبني مجمعات سكنية مغلقة، لها مجموعة من المداخل والبوابات ويحرسها رجال أمن.
ما لفت انتباه الباحث العمراني أحمد زعزع الفراغات في المدن المصرية، كالحدائق العامة والأرصفة، والتي كانت مأوى للفقراء يجدون فيها متنفسًا دون أن يدفعوا مبالغ لجلوسهم في هذه الفراغات.
حيث يذكر زعزع في دراسته “من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة: قراءة في تحولات فراغات المدينة العامة”، أن الفضاءات والمساحات الخضراء تحولت إلى أماكن استثمارية لدى شركات تابعة للدولة وشركات القطاع الخاص، في تهميش تامّ لاحتياجات المجتمع للتفاعل في هذه المساحات.
يرى زعزع أن الفراغات العامة في المدن تؤدي أدوارًا اجتماعية نشطة، مثل التواصل الاجتماعي المفتوح والتلاقي والتجمع والاسترخاء، ورغم أهميتها في المدينة إلا أن القانون المصري لا ينصّ على حق المصريين في الفضاء العام.
وبحسب “منصة تضامن”، فإن السياسات الأمنية هي السبب في ذلك، بسبب تخوف أجهزة الأمن من استعمال الفراغات العامة كمكان للتجمهر والتظاهر، وبالتالي لا يسعى نظام السيسي حاليًّا لوأد كل محاولة للتظاهر قد تحدث في هذه الفراغات، بل كذلك يسعى لاستثمار هذه الفراغات من خلال تأجيرها لمجمعات المطاعم والأنشطة الربحية.
لقد تقلص متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء العامة في البلاد ليصل إلى 1.5 متر للفرد مقارنة بنسبة 16 مترًا للمعايير العالمية، وخلال 4 شهور تمّت إزالة 390 ألف متر مربع من المساحات الخضراء، أي أكبر من مساحة 50 ملعبًا لكرة القدم.
حدائق عامة حُوِّلت بالكامل إلى ساحات مطاعم للوجبات السريعة، وحتى أسفل الكوبري الذي كان مأوى لأصحاب الأكشاك، هؤلاء أيضًا لم يعد لهم مكان، لأن هذه الأماكن لم تعد تستوعب شرائح الدخل الأدنى (غير الرسمية)، بل باتت تبحث عن شرائح الدخل الأعلى (الرسمية).
بحسب زعزع، فإن تآكُل الفراغات في مصر راجع إلى 3 أسباب: أمنية وإدارية واستثمارية، لكنه يفرّق بين حالة تربح أفراد وجدوا في الفراغ العام سبيلًا للحد الأدنى للبقاء، وحالة شركات أو مؤسسات ربحية تستغل الفراغ العام لمراكمة الثروة وتوسيع ملكيتها بتواطؤ من أجهزة الدولة.
في المجمل، تحولت الفراغات العامة من متنفس للأفراد إلى أنشطة تجارية، لذا يرى زعزع أن هناك تآكلًا متواصلًا في مساحة الفضاء العام، بسبب المقاربة الاستثمارية الطاغية التي لم تدرك حدود الخاص والعام، وبالتالي حلت الضوضاء البصرية وحصار القيمة الرأسمالية محل القيمة الرمزية والجمالية في الفراغ العام.
وبتعبير زعزع، صار سكان المدينة لا يفقدون ذاكرتها فقط بل كذلك ألفتها، ولذا يؤكد على أن الاعتداء هنا لا يقع على الفراغ العام الملموس فقط، بل هو في جوهره اعتداء على مفهوم المواطنة وعلاقة الإنسان بالمجتمع والحكومة.