في الثامن من ديسمبر الجاري، عُقد في مدينة القدس المحتلة، لقاء عُرِف بـ”قمة الكالاماتا”، ضم كلاًّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ونظيره اليوناني، أليكسيس تسيبراس، ورئيس قبرص اليونانية أو الرومية، نيكوس أنستاسياديس.
هذا اللقاء، أو هذه القمة، هي الثانية من نوعها في العام الجاري؛ حيث سبقتها قمة أخرى في عاصمة قبرص الرومية، نيقوسيا، في شهر يناير الماضي.
القمة تأتي في ظل تحركات إسرائيلية مكثفة في منطقة شرق المتوسط، من أجل ضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من كعكة مصادر الغاز العملاقة التي كشفت عنها السنوات الماضية، وتحولت إلى أحد أهم مكامن الطاقة الواعدة في العالم، في وقتنا الحالي.
جاءت القمة الأخيرة لكي تثبِّت نتائج قمة يناير الماضي، فيما يتعلق بتعاون البلدان الثلاث في مجال استغلال مكامن الغاز في شرق المتوسط، وعلى رأسها مشروع خط الأنابيب المقرر أن يربط بين الدول الثلاث، متقاطعًا في ذلك مع مصالح دول كبرى إقليميًّا وعالميًّا، وعلى رأسها تركيا وروسيا.
ومن بين أهم المشروعات المطروحة في هذا الاتجاه، مشروع “إيست ميد”، الذي يبلغ طوله وفق مخططه الحالي، الذي طرحته شركة “إنيرجي بوسيدون” اليونانية، حوالي 1700 كيلومتر، ويسمح بنقل 15 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا إلى أوروبا، مع إمكانية ربط شبكات الكهرباء بين الدول الثلاث، من خلال كابلات بحرية.
ولسنا هنا في معرض تناول الأرقام الخاصة بالإنتاج، والتفاصيل الفنية الخاصة بمشروعات الغاز والطاقة في شرق المتوسط؛ حيث ليست هي الهدف الأصيل لهذا الموضوع، كما أنها تملأ المواقع الإخبارية والتقارير البحثية، وإنما يهدف الموضوع إلى رصد بعض ملامح الدور المصري في تعظيم المكاسب الإسرائيلية من مشروعات الطاقة في منطقة شرق المتوسط، إما من خلال تبني سياسات خاطئة فرَّطت في المصالح المصرية لأسباب سياسية ضيقة، أو من خلال اتفاق مباشر مع تل أبيب ضمن “العلاقات الدافئة” التي تكلم عنها السيسي!
الثنائي “الجريجي” بين تل أبيب والقاهرة!
تأتي القمة الأخيرة في القدس بين الثنائي الجريجي ونتنياهو، في مقابل تحرك مصري يبدو غير فعَّال إلى الآن، شمل عدة زيارات متبادلة بين مسؤولين سياسيين وعسكريين مصريين ويونانيين وقبارصة.
وكان آخرها أو أحدثها زيارة قام بها رئيس الأركان المصري، الفريق محمود حجازي إلى اليونان؛ حيث حضر التدريب المصري اليوناني المشترك “ميدوزا 2016″، خلال الفترة من 5 إلى 8 ديسمبر الجاري، وشاركت فيه عناصر من القوات البحرية والجوية لكلا البلدَيْن، وجرى في البحر المتوسط، في المنطقة جنوب شرق بحر إيجة وجزيرة كريت اليونانية.
وقبل ذلك بأيام قليلة، وفي السابع عشر من نوفمبر، قام وزير الخارجية اليوناني، نيكوس كوتزياس، بزيارة إلى القاهرة، وبحسب الخارجية المصرية؛ فإن الزيارة جاءت في إطار متابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلال القمة الرابعة للآلية الثلاثية للتعاون بين مصر واليونان وقبرص، والتي عُقدت في القاهرة في الحادي عشر من أكتوبر الماضي.
حققت السياسات الإسرائيلية خلال المرحلة الماضية العديد من المكاسب في منطقة شرق المتوسط، في مجال يضمن لإسرائيل تفوقًا اقتصاديًّا كبيرًا
القمة الثلاثية الأخيرة بين إسرائبل واليونان وقبرص الرومية، والتي عقدت القدس المحتلة، أثارت الكثير من أوجه القلق المشروع في العديد من الأوساط المصرية، في ظل اتهام النظام في الأصل بالتفريط في مصالح مصر الحيوية في مجال الطاقة في البحر المتوسط، بتوقيعه “المتسرع” – لمجرد النكاية في تركيا – في العام 2014م، على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، في العام 2014م، مما أدى إلى تكريس السيادة الإسرائيلية واليونانية والقبرصية على مكامن الطاقة الأهم في البحر المتوسط، بقيمة 220 مليار دولار، وتشمل حقول غاز ليفاثان وتامار وشمشون، وهي تحت السيادة الإسرائيلية الآن، بالإضافة إلى حقل أفروديت القبرصي.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن اعتبارات جيوسياسية وجيولوجية عديدة، لا تجعل الأمر مطمئنًا مثلما حاولت الدولة القول، من خلال تصريح صدر عن مسؤول في قطاع البترول المصري، لصحيفة “الوطن” المصرية، في الثامن من ديسمبر الجاري، نفى فيه أن يكون لترسيم أية حدود أو اتفاقيات بحرية بين إسرائيل وبين أيٍّ من دول الجوار، وهي: تركيا، واليونان، وقبرص، بشأن غاز البحر المتوسط،، أي تاثير على حقوق مصر الاقتصادية للغاز الطبيعي.
العامل التركي
لا يمكن بحال من الأحوال، تغافل دور العامل التركي في النشاط المصري أو الإسرائيلي في هذا الاتجاه، والذي يبدو وكأنه سباق بين البلدَيْن على نيل رضا اليونانيين والقبارصة الروميين.
وهو أمرٌ لا يخضع للتحليل السياسي؛ بل هو أمر واقع، قاله نتنياهو صراحة في قمة يناير الماضي، مع تسيبراس وأنستاسياديس، عندما قال: “تعاوننا مع اليونان وقبرص قائم بذاته. انه لا يتوقف على جهودنا لتطبيع العلاقات مع تركيا”.
أما تسيبراس فقد قال في ذات القمة: “اللقاء ليس موجها ضد احد. نحن نسعى لتحقيق مصالحنا ومصالح بلدان المنطقة”، في إشارة إلى تركيا، التي تُعتبر الخصم التاريخي لليونان، منذ حتى ما قبل أزمة قبرص في منتصف السبعينيات، إلى مطلع القرن التاسع عشر، عندما وقعت “يونان عصياني”، أو العصيان اليوناني بالتركية، والتي تُسمى بحرب الاستقلال اليونانية، التي شنها اليونانيون ضد الدولة العثمانية بين عامَيْ 1821م، و1832م وأدت لتأسيس المملكة اليونانية.
كما أنه من المنطقي أن يكون العامل التركي في تفكير السيسي، عندما أقدم على ترسيم الحدود البحرية بين مصر وكل من قبرص الرومية واليونان، في العامَيْن 2014م، و2015م، على التوالي.
التعاون العسكري المصري اليوناني يضع العامل التركي في أولويات حساباته
فالاتفاقية الخاصة بالحدود المصرية القبرصية، هناك تقديرات عديدة، تشير إلى أن مصر فيها قد تنازلت عن شريط مائي مساحته ضعف مساحة دلتا النيل، أي حوالي 40 ألف كيلومتر مربع، لصالح اليونان، مما منح اليونان حق الاستغلال الاقتصادي لجزيرة “كاستلوريزو”، وهو ما جعل الحدود البحرية لكل من اليونان وقبرص الرومية تتماس، وتخرج مصر من هذه المنطقة القريبة من شمال دمياط، وهو ما سوف يسمح بتمرير أنبوب الغاز المشار إليه بين تل أبيب وكلٍّ من أثينا ونقوسيا، من دون أن تدفع إسرائيل رسومًا لمصر.
وبالإضافة إلى أن ذلك سوف يوفر لإسرائيل ملايين الدولارات سنويًّا؛ فإنه كذلك إجراء احترازي لاعتبارات الأمن القومي الإسرائيلي؛ حيث لا تريد تل أبيب أية سيطرة مصرية على مشروعاتها السيادية، تحسبًا لأية خلافات مستقبلية، مع إدراك إسرائيل، أن مصر، بعيدًا عن أنظمتها، لا تزال هي أكبر خطر على وجودها، مهما وقَّعت مع حكوماتها اتفاقيات سلام ، وبروتوكولات تعاون، وهو تفكير لا نجده بطبيعة الحال لدى الحكومة المصرية.
فكان العامل التركي خلف “عدم تأني” القاهرة في ترسيم حدودها البحرية مع قبرص الرومية واليونان، مما أدى إلى تحقيق إسرائيل للكثير من المكاسب على هذا الصعيد.
فعلى أبسط تقدير، ساهمت الاتفاقيات المصرية في تكريس سيطرة إسرائيل على مكامن الغاز المسروق من داخل حدود المياه الاقتصادية للبنان ومصر وقطاع غزة، وبالتالي؛ سمح ذلك لإسرائيل – على سبيل المثال – بإبرام اتفاقيات طويلة المدى، مع كل من مصر والأردن، لتصدير الغاز الإسرائيلي لكلا البلدين، وبلغت الصفقة مع الأردن 10 مليارات دولار، على مدار 15 عامًا.
الغاز الإسرائيلي المصدَّر إلى الأردن، بموجب اتفاق وُقِّع بشكل نهائي، في السادس والعشرين من سبتمبر الماضي، بين شركة الكهرباء الوطنية الأردنية، وشركة “نوبل إينرجي” الأمريكية، يشمل إمدادات غاز “إسرائيلية” من حقل “ليفاثان” (احتياطي 18 تريليون متر مكعب منالغاز)، الذي يبُعد بحوالي 190 كيلومترًا شمال دمياط، و235 كيلومترًا من حيفا، أي أنه إما يقع في المياه الاقتصادية الخالصة المصرية أو نظيرتها التابعة لقطاع غزة.
خريطة توضح مواضع حقول الغاز التي سرقتها إسرائيل من لبنان وغزة ومصر
ولكن اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية المصرية مع كل من اليونان وقبرص الرومية، أدت إلى منحه لإسرائيل، كما تقدَّم، فيما لم تحرك السلطة الفلسطينية أي ساكن في هذا الصدد.
ولكن المكاسب الإسرائيلية لم تقف عند هذا الحد.. ونكمل معًا بعض فصول الرواية!
العامل السياسي والأمني
“نحن نعيش في إضطراب كبير”.. هذه العبارة وردت على لسان نتنياهو في إحدى لقاءاته المتعددة مع المسؤولين القبارصة واليونانيين.
وتعكس هذه العبارة والمواقف التي قالها خلالها نتنياهو، أحد أهم العوامل التي تخرج عن البواعث الاقتصادية القريبة لترتيبات الغاز شرق المتوسط التي تقوم بها إسرائيل، وهو العامل السياسي الأمني، أو العامل الأمني ذو الطابع السياسي، المرتبط بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي بشكل مباشر.
ولتقريب الأمر؛ فإن هذا العامل، تلتقي عنده استراتيجيات عدة للأمن القومي الإسرائيلي، تلتف جميعها حول هدف البقاء على دولة الكيان الصهيوني فوق الأرض التي تحتلها منذ العام 1948م، وضمان استقرارها وبقائها آمنة.
أي أننا يمكن أن نضع السياسات الإسرائيلية في هذا الصدد، مع العمليات الجوية التي تقوم بها ضد أهداف عسكرية سورية، وأخرى تابعة لـ”حزب الله” اللبناني، في سوريا ولبنان، وسياساتها في مجال الاستيطان، وفي تعزيز ترسانتها العسكرية بالمقاتلات الأحدث في العالم، من طراز “إف. 35″، وغواصات “دولفين” القادرة على حمل رؤوس نووية.
وفي هذا الإطار، فإن السعي الإسرائيلي للتعاطي مع ملف الغاز في شرق المتوسط من خلال البوابة اليونانية – القبرصية، له أكثر من مستوىً تأميني في هذا السياق.
فهو أولاً يضمن وجود المصالح الإسرائيلية في هذا المجال، ضمن مصالح تكتل إقليمي، بما يكسبه مناعة متنامية في مواجهة خصوم سياسيين، ومن بينهم تركيا، ومصر، ولكن الأخيرة لا تدرك ذلك أو تدركه ولكنها أضعف في الفترة الراهنة من أن تعترف به وتعزف منفردة بعيدًا عن إسرائيل.
“نحن نعيش في إضطراب كبير”
بنيامين نتنياهو
وكذلك في منافسين اقتصاديين، من بينهم أو على رأسهم، روسيا، التي وقعت مع تركيا في أكتوبر الماضي، خلال زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى أنقرة، على اتفاقية للبدء في تنفيذ مشروع مماثل لخط أنابيب “إيست ميد”، باسم “ترك ستريم”.
ويشمل مشروع “ترك ستريم” الذي كشف عنه بوتين في نهاية العام 2014م، كبديل عن مشروع “ساوث ستريم”، الذي كان من المقترض أن ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية؛ يشمل خطَّي أنابيب، بقدرة ضخ لكل خط، 15.75 مليار متر مكعب من الغاز، بإجمالي أكثر من 31 مليار متر مكعب، أحدهما ينقل الغاز الروسي إلى تركيا، والثاني يكمل طريقه إلى أوروبا، ومن المقرر الانتهاء منه بحلول العام 2019م.
وبوضع اليونان وقبرص في مسار تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا؛ فإن ذلك يضمن حماية أوروبية للمشروع، وبالتالي لمصالح إسرائيل، في مواجهة العملاق الروسي، وتركيا كقوة إقليمية لا يُستهان بها.
بالمناسبة، البراجماتية الإسرائيلية وصلت إلى مستوى طرح مشروع آخر على الأتراك في أكتوبر الماضي، لمد أنبوب غاز إسرائيلي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، وهو ما سوف يثير حفيظة الروس بالتأكيد.
مسار المشروع الإسرائيلي المقترح مع تركيا لتصدير الغاز إلى أوروبا
ولكن السياسة الإسرائيلية في هذا الجانب ملحظٌ شديد الأهمية، وهو أن الاتفاقيات التي عقدتها إسرائيل مع اليونان وقبرص في هذا الصدد، وترتيباتها، إنما هي مع أطراف تنتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، وهي كنيسة قريبة إن لم تكن تابعة للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهو ما يضمن عدم دخول روسيا كمنافس أو معطل للمشروعات الإسرائيلية لتصدير الغاز “الإسرائيلي” – هو في الواقع إما غاز مصري أو لبناني أو فلسطيني مسروق – إلى أوروبا، وتكون لغة الشراكة والمصالح المتبادلة، هي الأقرب.
في هذا الإطار، حققت السياسات الإسرائيلية خلال المرحلة الماضية العديد من المكاسب في منطقة شرق المتوسط، في مجال يضمن لإسرائيل تفوقًا اقتصاديًّا كبيرًا، في مقابل عدم كفاءة مصرية واضحة في إدارة ملف امتياز “شروق” الذي يشمل حقل “ظهر”، أكبر حقول الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، مع غياب أية رؤية استراتيجية للدولة المصرية في هذا الصدد، ووضع النظام الحالي لأولويات؛ ليس من بينها مصالح مصر الاقتصادية.
يأتي ذلك بالرغم من أن دول الإقليم كافة قد بدأت في التحرك بسرعة محمومة من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من “كعكة” الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، ولاسيما في مكامنه الواعدة في شرق المتوسط.
فقطر – على سبيل المثال، باعتبارها أكبر منتج ومصدِّر للغاز الطبيعي المُسال في العالم – قامت مؤخرًا بدمج أنشطة شركتَيْ الغاز الرئيسيتَيْن فيها، “قطر غاز”، و”راس غاز”، في كيان واحد، مع الدخول في صفقة هي الأكبر من نوعها في تاريخ شركات الطاقة، من خلال الاستحواذ على حصة قدرها 19.5 بالمائة من شركة “روسنفت” الروسية العملاقة، التي بقيمة 11.3 مليار دولار، في صفقة تشترك فيها مجموعة “جلينكور لتجارة السلع والتعدين” وصندوق الثروة السيادي القطري.
والدلالة هنا، هو أن “روسنفت” تعتزم شراء حصة من حقل “ظهر” المصري العملاق في شرق المتوسط أيضًا، بعدما أعلنت شركة “إيني” الإيطالية الحاصلة على امتياز الحقل، عن بيعها حصة تصل إلى عشرة بالمائة لشركة “بي. بي” البريطانية، وقد تصل الحصة التي تنوي “روسنفت” شراءها، إلى حوالي 35 بالمائة من امتياز “شروق” البحري الذي يشمل حقل “ظهر”.
في المقابل، أسست إسرائيل هيئة خاصة بتنظيم العمل في قطاع الغاز الطبيعي، وتمتلك بحسب المحلل الاقتصادي اللبناني، وليد خوري في “الحياة” اللندنية، 11 ديسمبر، صلاحيات أكبر من هيئة مكافحة الاحتكار، وبدأت هذه الهيئة في فتح 24 قطعة بحرية للشركات العالمية، ومن المتوقع أن يتم فض العروض في 21 أبريل 2017م المقبل، وهي أول عطاء للتراخيص الإسرائيلية منذ خمسة أعوام، وأهميتها في أنها تفتح المجال للمرة الأولى منذ نكبة العام 1948م، لعمل الشركات النفطية العالمية في إسرائيل.
فهل من أثر لذلك في سياسات الحكومة المصرية، وتتحسب له؟!.. كلا بطبيعة الحال!