ترجمة حفصة جودة
عندما وصلت لبنان لأول مرة، حاولت ماريا حسن -25 عامًا- فتح حساب مصرفي، ذهبت ماريا إلى 4 مؤسسات مختلفة وكان الجواب واحدًا في كل مرة: “نحن لا نفتح حسابات للسوريين”.
تقول ماريا: “آخر مرة، كنت غاضبة جدًا وصرخت في وجه مدير البنك، لا أود المحاولة مرة أخرى، لن أعرض نفسي للإذلال أكثر من ذلك”.
عدم وجود حساب مصرفي يعني عدم وجود بطاقة ائتمانية ولا مدفوعات عبر الإنترنت، ويعني عدم وجود شيكات أو تحويل أموال، في لبنان؛ يتم طلب كشف حساب مصرفي عند التقديم للجامعة أو للحصول على تأشيرة، لذا فمثل أكثر من مليون سوري يعيشون في لبنان، يجب على ماريا أن تعتمد على النقد في كل شيء، ومنذ أن أصبح الدولار يعادل 1500 ليرة لبنانية، فهذا يعني أكوام من الفواتير.
تقول ماريا بصوت محبَط: “هناك رسوم مدرسية وتأمين وإيجار وفواتير منزلية، كل هذه الأشياء أقوم بدفعها نقدًا، ولعدم وجود حساب مصرفي؛ أعتمد على ويسترن يونيون أو “OMT” لاستلام التحويلات من عائلتي في الخارج، بعدها أحاول إخفاء النقود في مكان آمن”.
الخوف من العقوبات الدولية
عندما اندلعت الحرب في سوريا عام 2011، فرضت الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عقوبات صارمة جدا على الحكومة السورية، جزء من هذه العقوبات استهدف القطاع المصرفي، وفي أبريل 2011؛ أصدر الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمرًا تنفيذيًا “بتجميد أصول بعض الأشخاص المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان في سوريا”
استهدف الأمر قائمة من المسؤولين، بالإضافة إلى “أي شخص يحدده وزير الخزانة الأمريكية بالتشاور مع وزير الخارجية الأمريكية بأنه مشارك في القمع”، بعدها أعلن أوباما عن 4 أوامر تنفيذية إضافية باتخاذ المزيد من الخطوات ضد الحكومة السورية ومؤيديها، آخرها صدر في مايو 2012؛ وهو يسمح لوزارة الخزانة الأمريكية بحظر جميع المعاملات بين الولايات المتحدة أو أي شخص أمريكي وأي شخص أجنبي يقوم بتسهيل معاملات خادعة، أو بالنيابة عن أي شخص يخضع للعقوبات الأمريكية في سوريا.
بالنسبة للبنوك اللبنانية، فهذا يعني أمرًا واحدًا: إذا تم العثور على أي علاقة ولو كانت غير مباشرة بالكيانات التي تستهدفها العقوبات، فسوف يكون البنك معزولًا عن النظام المالي الدولي، وهذه مجازفة تخشى الكثير من البنوك اتخاذها.
التمييز في المعاملة عند شباك البنك
مي شعراني -24 عامًا- طالبة سورية من محافظة السويداء، وضحية أخرى للعقوبات، غادرت مي بلادها بسبب الحرب وتحاول الآن استكمال دراستها والحصول على شهادة البكالوريوس في الصيدلة في بيروت، ولأنها لا تمتلك أي دخل فهي تعتمد على والدها –الذي يعيش في المملكة العربية السعودية- لتغطية جميع نفقاتها.
تحكي مي قائلة: “كان والدي يمتلك حسابًا في البنك اللبناني الفرنسي، وكان يستخدمه في ارسال الأموال التي أحتاجها للحياة هنا، لكن منذ عامين؛ اتصل مدير البنك بوالدي وأخبره أن يأتي لاستلام أمواله وأغلقوا الحساب على الفور”.
حاولت شعراني فتح حساب خاص بها لكنها قوبلت بالرفض من العديد من البنوك، وكان الحل الوحيد المتبقي لوالدها، تحويل الاموال إلى عمة مي المتزوجة من مواطن لبناني ولديها حساب مشترك معه.
بعد عامين من الاعتماد على النقد، أخيرًا استطاعت مي شعراني فتح حساب مصرفي
تضيف مي: “يقوم والدي بإرسال مبالغ مالية كبيرة لعمتي كل شهر، ويجب عليّ أن أذهب إليها لاستلامهم نقدًا، مما يجعل الحياة صعبة للغاية، فعمتي تعيش بعيدًا عن بيروت، وفي طريق العودة أخشى كثيرًا من أن يصيبني مكروه أو أن تضيع الأموال، وعندما أعود أقوم بإخفاء النقود في غرفة نومي لكنها ليست آمنة أيضًا، ففي إحدى المرات قامت رفيقتي في السكن بسرقة 1000 دولار مني، ولم أستطع أن أفعل أي شيء حيال ذلك”.
بعد عامين؛ استطاعت شعراني فتح حساب في بنك عودة، بشرط إدارة أموالها بعملة أخرى غير الدولار الأمريكي، مثل الليرة اللبنانية في تلك الحالة، تقول مي: “أصبح الأمور أسهل كثيرًا، فلا اضطر لحمل أموال نقدية كثيرة وأصبح لدي بطاقة صرف آلي، لكنني ما زلت أشعر بالتمييز ضدي، فعدم قدرتي على التعامل بالدولار يعقد الأمور في كل مرة تصلني فيها تحويلات، فعند حدوث أي حركة في حسابي يحتاج البنك حوالي أسبوع للتأكد من أن الأمور طبيعية”.
قطع العلاقات مع جميع العملاء السوريين
في سبتمبر 2011، أصدرت جمعية المصارف اللبنانية “ABL” مذكرة تحث فيها جميع البنوك على الحد من علاقاتها مع العملاء السوريين، هذه الوثيقة ليست متاحة للجمهور لكننا استطعنا الحصول على نسخة منها، وهي تنص على: “عدم السماح لحسابات السوريين بإجراء معاملات خارجية بالدولار الأمريكي، بعد صدور الأوامر التنفيذية ضد سوريا”، وفي عام 2014 عندما تم إغلاف حساب والد مي، كان ABL”” قد أرسل تذكيرًا للبنوك.
ورفضت جمعية المصارف اللبنانية والبنك المركزي اللبناني؛ التعليق على الأمر، وكذلك غالبية البنوك الموجودة في بيروت.
قال مستشار مالي في بنك لبناني كبير رفض ذكر اسمه: “جميع المؤسسات المالية ترفض الحديث في هذا الأمر، فلا أحد يرغب في تحمل مسؤولية ما يحدث، نحن نعلم أن السوريين ليسوا جميعًا إرهابيين ومن منظور إنساني؛ من المؤسف أن يتم رفضهم بهذا الشكل، لكن لا أحد يرغب في تحمل اللوم إذا حدث أمر خاطيء”
لا توجد أرقام متاحة تساعدنا في تحديد عدد الحسابات السورية التي تم إغلاقها، أو عدد العملاء السوريين الذين تم رفض طلباتهم، أما مذكرة “ABL” فليس لها أي قيمة قانونية، فهي مجموعة من النصائح غير الملزمة، لكن في بيروت؛ اختارت معظم البنوك التجارية أن تكون في أمان ورفضت التعامل مع المواطنين السوريين ببساطة.
تقول مديرة أحد البنوك اللبنانية والتي رفضت ذكر اسمها: “عندما يسألني شخص سوري أن أفتح له حسابًا فإنني أرفض بأدب، قد يكون هذا التصرف غير لطيف، لكن لا أحد يرغب في المشاكل”، وتضيف: “باعتباري بنكًا فأنا بحاجة للولايات المتحدة من أجل المعاملات الخارجية، والعلاقة مع بنوك المراسلة شيء لن أتخلى عنه أبدًا، لذا فالخيار المتاح أمامي هو وقف التعامل مع جميع المواطنين السوريين، نحن لا نتفتح أي حسابات جديدة ونسمح لأنفسنا بغلق أي حساب قائم”.
بنك المراسلة هو مؤسسة مالية أجنبية تعمل كوكيل خارجي لأحد البنوك المحلية لتسهيل التعاملات وغيرها من الخدمات، فقدان العلاقات مع بنوك المراسلة “CBRs” يشكل مصدر قلق لكثير من البنوك العربية اللبنانية، ووفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد العربي؛ تشهد البنوك العربية تراجعًا ملحوظًا في علاقاتها مع بنوك المراسلة، حيث تم إنهاء 167 حسابًا في عام 2015.
هناك العديد من الأسباب التي تجعل البنوك الغربية تقطع علاقاتها مع الشركاء العرب، ومن بينها المخاوف بشأن غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وفرض العقوبات، والانخفاض العام في الإقبال على المخاطرة.
من عدم المخاطرة إلى التمييز المالي
في هذا السياق، يعتبر سلوك المصارف اللبنانية تجاه العملاء السوريين مثالا نموذجيًا لتجنب المخاطرة، فالخوف من فقدان العلاقات مع بنوك المراسلة أدى إلى تفضيل المؤسسات المحلية وقف التعامل مع مجموعة كاملة من الناس، حتى لو تضمن الأمر استبعادًا ماليًا، وهناك ما هو أكثر من الخوف من العقوبات الدولية، فتلك التدابير لها أسباب اقتصادية.
يقول مدير فرع أحد البنوك والذي رفض ذكر اسمه: “بالطبع؛ هناك منطقًا تجاريًا في رفض طلبات السوريين، فمعظمهم موجودون في لبنان بشكل مؤقت، ولا يملكون ثروة مالية كبيرة، وبالتالي فلن نجني أرباحًا تُذكر من قبول هؤلاء العملاء”.
يقول وسام فتوح؛ الأمين العام لاتحاد المصارف العربية (مؤسسة إقليمية تعمل تحت مظلة جامعة الدول العربية): “أخشى أن السبب الرئيسي وراء تدابير الإقصاء المالية التي تتخذها معظم البنوك الكبيرة هو: الربحية، نحن نشعر أن عدم المخاطرة قد تطور ليصبح شكلًا من أشكال التمييز المالي، حيث يتم اتخاذ القرارات بناءًا على التصورات وليس الحقائق، وحيث تقوم اللوائح والقوانين بحماية الأقوياء وليس الضعفاء، وعندما تصبح بعض السياسات مدفوعة بالربح وليس الأخلاق”.
المصدر: ميدل إيست آي