“..كما ظهر الملاك مبشرًا بميلاد المسيح، فجأة نجد المسيح ظهر داخل الكاتدرائية في يوم ميلاده”.. بهذه الجملة المبالغ فيها، وصف الأنبا بولا أسقف طنطا، السيسي بـ
“>”المسيح”، بعد حضوره قداس عيد الميلاد بالكاتدرائية في يناير 2015، وهو الموقف الذي قابله المسيحيون وقتها بعاصفة من التصفيق، أوقفت القداس لدقائق وأفقدته روحانيته.
مبالغات ومداهنات
المبالغة السابقة للأنبا بولا لم تكن الأولى أو الأخيرة، وسبقتها الكثير من الجمل والمواقف المؤيدة للنظام بعد 30 يونيو منها في 2014 مقال البابا تواضروس بصحيفة الأهرام المصرية، بعنوان “نعم تجلب النعم”، ثم فاجعة
“>القمص بولس عويضة، راعي كنيسة الزهراء، الذي “تغزل” فيها بوسامة وزير الدفاع المصري وقتها، المشير عبدالفتاح السيسي، قائلًا في مقطع فيديو خلال بالكنيسة: “المشير عبدالفتاح السيسي الوسيم، هو “قمور” بطبعه .. عندما أنظر إلى صورته أذوب حبا في جمال منظره وهيئته وشكله .. إذا كانت نساء مصر قد أحببنه فهن معذورات، فمن الذي نظر إليه ولم يحبه؟ أنا عن نفسي أذوب عشقًا فيه!”.
شعب الكنيسة
لم يتوقف دعم الأقباط على المواقف الداخلية للسيسي، بل امتد لسفرياته الخارجية، حينما كانت تتصدر الكنيسة لتجييش الأقباط لاستقبال الرئيس المصري في كل زياراته الخارجية، خصوصًا زياراته الأخيرة للولايات المتحدة، حاملين الأعلام المصرية، مرددين الهتافات والأغاني المؤيدة، ضمن مسلسل تحول الأقباط إلى ما يسمى بـ “شعب الكنيسة”، بعدما تخلت عن دورها الروحي التقليدي، وتحولت في السنوات الأخيرة إلى ممارسة السياسة بمنتهى البراجماتية، وقادت قطاعات كبيرة من جمهور الأقباط للالتفاف حولها كممثل وحيد لهم، وهو نفس الدور الذي تلعبه مؤسسة الأزهر مع المسلمين، لصالح دعم النظام في كل المواقف سواء بالفتاوى، أو تفسير الآيات والأحاديث النبوية.
بداية جيدة ومأزق حالي
العلاقة بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والأقباط بدأت قوية مع منتصف العام 2013 ، بعد الثلاثين من يونيو ، وتحديدا في الثالث من يوليو عندما ظهر البابا تواضروس الثاني في الصف الأول، بينما ألقى السيسي خطاباً يعلن فيه الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين.
بعد هذا اليوم، راهن الأقباط رهاناً كبيراً على قدرة السيسي على تحسين وضعهم خلال حُكمه، آملين أن يتمكَّن من محو العقبات الكثيرة التي مهَّدت الطريق لاندلاع العنف الطائفي في سنوات كثيرة مضت، وشملت مخاوفهم الأكثر إلحاحاً إنشاء الكنائس وترميمها والحفاظ عليها، وإنهاء التمييز ضد الأقباط في حصولهم على حقوقهم المتعلِّقة بالعمل والترقيات في المناصب العامة والحكومية.
الإرهاب يتصاعد
لكن بعد تولي السيسي منصب رئاسة الجمهورية، تبخرت كل الوعود بدعم حقوق الأقباط، وأيقن الجميع أن هناك تزايد في المخاوف الأمنية، والتصعيد ضد المصريين عامة، والأقباط بصفحة خاصة، وخلال عامين ونصف من حكم السيسي انتقل الإرهاب من شمال سيناء، إلى قلب العاصمة التي شهدت عمليات إرهابية متطورة وخطيرة ومتعاقبة، كان من بينها حادث اغتيال النائب العام السابق هشام بركات، والعميد عادل رجائي قائد الفرقة التاسعة المدرعة، بخلاف عشرات العمليات التي استهدفت ضباط وعساكر من الجيش والشرطة، إلا أن حادث الكنيسة البطرسية لا يُشابه كل ما سبق، باعتباره تغير نوعي في استهداف المدنيين، وخصوصا من الأقباط.
سوابق دامية
إلى جانب التداعيات السابقة في العلاقة بين الأقباط والسيسي، كانت هناك بوادر ومؤشرات توحي بأن الوضع المقبل سيكون بدرجة أكبر من السوء، وبدأت ملامح الأزمة في 2015، حينما أعدم تنظيم داعش 21 مصريا قبطيا، تحت عنوان رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب، على أحد السواحل في ليبيا، وأظهرت الصور معاملة مشينة من عناصر داعش للأسرى، قبل أن يسارع الرئيس السيسي وقتها للإعلان عن أن بلاده تحتفظ لنفسها بحق الرد بالأسلوب والتوقيت المناسب للقصاص، وكانت هناك هجمات قوية من الجيش المصري علي داعش ليبيا للرد على ذبح المصريين الأقباط في ليبيا، وهو ما أعطفأ شعلة الأزمة الأولى.
تهجير عوائل مسيحية
وفي يونيو من نفس العام، كان هناك عملية تهجير لـ19 قبطيًا من منازلهم بقرية كفر درويش، مركز الفشن محافظة بني سويف جنوب مصر، الأمر الذي قابلته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، بالإدانة لما يمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية المكفولة، بموجب المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، مطالبين بسرعة إعادة جميع المسيحيين إلى منازلهم التي تم تهجيرهم منها مع توفير الحماية الأمنية لهم، فيما لم تحرك الحكومة أو البرلمان أو مؤسسة الرئاسة ساكنًا.
وفي20 مايو 2016، شهدت قرية الكرم بالمنيا، خروج مجموعة يقدر عددها بثلاثمائة شخص، يحملون أسلحة متنوعة، تعدوا على سبعة من منازل الأقباط، حطموا محتوياتها، وأضرموا النار في بعضها، بحسب رواية الأنبا مكاريوس أسقف المنيا، الذي أكد تجريد سيدة مسيحية مسنة من ثيابها هاتفين ومشهرين بها أمام الحشد الكبير بالشارع، ما كان له أثر كبير وغضب بنفوس المصريين عامة والأقباط خاصة.
وفي يونيو 2016، وبحسب رواية الأنبا داوود، وكيل مطرانية سمالوط بشمال المنيا، فإن قرية كرم اللوفي التابعة لمركز سمالوط، شهدت اشتباكات بين المسلمين والأقباط، بسبب تردد شائعات تفيد تحويل منزل إلى كنيسة، ما أسفر عن الاعتداء على بعض من منازل الأقباط، وتعرضها للحرق على يد بعض الأهالي.
شرطة العادلي
انتهاك حقوق الأقباط بمصر لم يتوقف فقط على المتشددين والجماعات الإرهابية فقط، بل وصل الأمر إلى تعذيب القبطي مجدي مكين في قسم شرطة الأميرية حتى الموت، حيث أكد تقرير الطب الشرعي أنه تعرض لتعذيب أدى إلى صدمة عصبية في الوصلات العصبية بالنخاع الشوكي، ما أحدث جلطات في الرئتين وتسبب في الوفاة، واكتمل الموقف بتفجير الكنيسة البطرسية المجاورة للكاتدرائية بالعباسية، ما أدى لوفاة 26 وإصابة حوالي 53 آخرين بينهم أطفال ونساء وعجزة، ما دفع للأقباط للهتاف أمام الكاتدرائية “ارحل ارحل” .. و” يابو دبورة ونسر وكاب.. إنت منبع الإرهاب”!
تجاهل وتداعيات
في ضوء التجاهل المستمر لهذه المشاكل، والضغط من أجل حلِّها خارج إطار القانون، اتَّجه الأقباط في الداخل والخارج نحو التصعيد العام في ردود الفعل على سياسات الدولة التمييزية، ونظَّم الأقباط في الولايات المتحدة مظاهرة أمام البيت الأبيض في واشنطن؛ لتسليط الضوء على معاناة نظرائهم في مصر، وسجَّل القمص مرقص عزيز -راعي الكنيسة المُعلَّقة في القاهرة سابقاً- مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع مخاطباً السيسي “إنَّ ما حدث يكفي، لقد انتخبناك ودعمناك”، مضيفاً أنَّ “السيسي أسوأ رئيس جمهورية وقد خدعنا، بعد أن وقفنا إلى جانبه”.
وبعد حادث الكنيسة قام الشباب القبطي الغاضب بطرد عدد كبير من المسؤولين، على رأسهم وزير الداخلية، ورئيس الوزراء من أمام الكنيسة، حيث رفض أهالي الضحايا والمتواجدين هناك مرورهم، في حالة من الغضب الشديدة انصبت على النظام وكل رموزه، كما تم الاعتداء على إعلاميي النظام مثل أحمد موسى ولميس الحديدي وريهام سعيد، وهو ما يحمل الكثير من الدلالات، والتي تُشير إلى بلوغ غضب الأقباط مداه.
الخلاصة
القادم أسوأ.. هكذا يرى الجميع، باعتبار أن الدولة مسؤولة عن تأمين وحماية كافة المصريين؛ وبالتالي وقوع تفجير كهذا في قلب القاهرة، وفي هدف حساس يعتبر رمزًا لأقباط مصر، هو فشل كارثي سواء كان متعمدًا أو غير متعمد!، وسيتبعه المزيد.
قد يقول البعض إن تاريخ الأنظمة المأزومة، شرعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، جعلها في بعض الأحيان للجوء إلى التجييش الطائفي واستغلاله؛ لتمزيق القوى الفاعلة في المجتمع ليسهل قمع بوادر احتجاجها، وضربها ببعضها البعض، وهو احتمال وارد، لكن تداعياته على النظام أكبر بكثير من إيجابياته إن وجدت أساسا.
لكن على الرغم من كل ذلك، هناك سؤال هام.. هل يرى الأقباط الآن بديلاً للسيسي؟ .. في الوقت الحالي، يبدو أن الجواب هو لا،لكنها قطعا لا مؤقتة.. والبديل فعلا قد لا يكون قريباً، لكنه آت لا محالة، لأن الأقباط ليسوا وحدهم.. فالجميع يشعرون بالاستياء.