ترجمة وتحرير نون بوست
في العالم المظلم للمخابرات الجاسوسية الالكترونية، وعلى الرغم من الإمكانيات المتاحة، فإن المحللين لا يملكون، رؤية واضحة وضوح الشمس ولا معلومات مسبقة أو مؤكدة 100%، حول بوادر ظهور أو حيثيات العمليات الإستخبارتية المقبلة.
وفي الوقت الراهن، باتت أوروبا تستمتع بالتنبؤات التي تحوم حول الانتخابات الألمانية، إذ أن الجميع سعداء بالتكهنات حول تدخل الحكومة الروسية وإطلاقها لحملة مفتوحة وعنيفة، بهدف التأثير في الانتخابات الألمانية المقرر تنظيمها سنة 2017.
نحن نعلم أن روسيا قادرة على القيام بذلك من دون أدنى شك؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكدت وكالة الاستخبارات المركزية أن مجموعة من القراصنة الروسيين قد شنوا هجوما إلكترونيا، واستولوا على بيانات خاصة وخطيرة تتعلق بالحملة الانتخابية للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
تم على إثر عملية الاختراق، نشر العديد من الوثائق على موقع “ويكيليكس” في مرحلة حساسة جدًا من السباق الرئاسي. وقد لعبت عملية الاختراق التي استهدفت الرسائل الالكترونية الشخصية لهيلاري كلينتون، دورا كبيرا في دعم الحملة التي شنها العديد من المعادين لكلينتون بهدف تصيد أخطائها وتشويه سمعتها.
وخلال الحملة الانتخابية الأمريكية، عمد دونالد ترامب بصفة متكررة إلى اقتباس تصريحات تعكس الأجندة الروسية، بما في ذلك تصريحاته المتمثّلة في أن باراك أوباما يمثل تهديدا وأنه يقف “وراء ظهور تنظيم الدولة”. هذا بالإضافة إلى ادعائه بأن كلينتون ستكون السبب في “الحرب العالمية الثالثة”.
ولم تقتصر عمليات القرصنة والاختراق والهجمات العنيفة، على غرار نظريات المؤامرة، على الانتخابات الأمريكية فقط، بل شملت أيضا بلدانا أخرى مثل جورجيا، وبولندا، وأوكرانيا.
ولم يكن للعملية، المحفوفة بالمخاطر، التي قامت بها روسيا، أي تأثير سلبي على مصالحها بل بالعكس، فقد ساهمت في نجاح المرشح الموالي لها وضمنت تواصل العلاقات الأمريكية الروسية التجارية كالمعتاد.
أصبحنا في هذه المرحلة، على دراية بأن العملية الروسية للتدخل في الانتخابات الألمانية قد انطلقت فعليا. ففي الأسبوع الماضي، أعلن رئيس وكالة المخابرات الداخلية الألمانية، بأنه “تم اختراق وسرقة معلومات ووثائق تخص البرلمان الألماني، وقد وقع نشر هذه الوثائق مؤخرا على موقع “ويكيليكس”.
وفي السياق نفسه، نوه رئيس جهاز المخابرات الخارجية الألمانية، إلى أن “عدد الهجمات الالكترونية قد ارتفع بشكل ملحوظ، ولكن هذه الهجمات ليست مصممة لاختراق أو سرقة معلومات تخص وزارة الدفاع الألمانية أو لضرب المصالح التجارية، بل “لإثارة مشاعر الريبة والشك في نفوس المواطنين الألمان حول الوضع السياسي”.
ولم تقتصر الهجمات الروسية فقط على التكتيكات الالكترونية، ففي وقت سابق من هذه السنة، قامت وسائل الإعلام الروسية برفقة عدد من المتواطئين الموالين لروسيا بخلق حالة من الهستيريا على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال الترويج لقصة وهمية حول فتاة تزعم أن شابا من المهاجرين السوريين قام باغتصابها.
كما لم تكتف روسيا بذلك، بل عرضت دعمها المادي للأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة في ألمانيا، مطبقة لنفس الأساليب التي انتهجتها في كل من فرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.
تطمح روسيا إلى تحقيق جملة من الأهداف خلال هذه العملية في ألمانيا، التي أصبحت جلية للعيان، إذ يمكن الجزم بأن هدف روسيا الأساسي هو إلحاق هزيمة نكراء، بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
وفي نفس الإطار، تطمح روسيا إلى تحقيق جملة من الأهداف خلال هذه العملية في ألمانيا، التي أصبحت جلية للعيان، إذ يمكن الجزم بأن هدف روسيا الأساسي هو إلحاق هزيمة نكراء، بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فحينما أعلنت، ميركل دعمها الواضح لقرار فرض عقوبات على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، مثلت هذه التصريحات صفعة مؤلمة لإدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتجدر الإشارة إلى أن أهداف روسيا وبوتين، تتضمّن أغراضا أكثر شمولية أبرزها الإطاحة بالديمقراطية الألمانية وتشويه مبادئها حتى لا يتأثر الروس وتتصاعد أصواتٌ تحرّض الشعب على المطالبة بتطبيق أصول الديمقراطية في روسيا كما تطمح روسيا إلى تقويض استقرار الاتحاد الأوربي بغية أن يتغلغل الفساد والاستبداد داخل أركان القارة الأوربية.
وتأمل أيضا في أن تمكنها مخططاتها من زعزعة الثقة وإضعاف معنويات حلف شمال الأطلسي، الذي يقف عقبة أمام جهودها المتعلقة باستعراض عضلاتها العسكرية داخل محيطه.
نحن نعلم أن روسيا قد استثمرت بالفعل موارد ضخمة وهائلة لتحقيق مصالحها. وخلال العقد الماضي، ضخّت روسيا ملايين الدولارات لتسليح أجهزة الدعاية العامة، إذ عمدت بالأساس إلى تمويل قناة “آر تي” الروسية وموقع “سبوتنيك “، اللذان ينقلان الأخبار بلغات مختلفة على غرار اللغة الألمانية.
وبالإضافة إلى ذلك، لجأت روسيا من خلال سعيها لنشر أجندتها، إلى استثمار مبلغ مماثل لكسب دعم البعض من الأصدقاء من بينهم رجال أعمال ومفكرين وحتى سياسيين. ولعل من أشهر الأسماء التي ضمن بوتين مساندتها له، المدير السابق لجهاز الستازي (وزارة أمن الدولة) في ألمانيا الغربية، ماثياس ورنيغ، الذي كان على صلة ببوتين خلال فترة الاستخبارات السوفيتية.
ويعتبر ورنيغ، من كبار رجال الأعمال، إذ أنه يشغل منصب المدير العام لشركة نورد ستريم جي، وهي الشركة التي تدير خط أنابيب الغاز الذي يربط بين ألمانيا وروسيا تحت بحر البلطيق. وتجدر الإشارة إلى أن المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، يتقلد منصب رئيس لجنة المساهمين في شركة “نورد ستري جي” .
ونحن نعلم أيضا، أو ينبغي أن نعلم، أن هذه المخططات التي تستهدف ألمانيا قد تنجح. ففي مرحلة مبكرة، سارعت روسيا لتسبق الجميع وترصد العيوب المتجذرة في صميم الديمقراطية الغربية.
كما أدركت روسيا أنه بإمكانها تقديم رشاوى للسياسيين الغربيين وجعل الشركات الخارجية الغربية تعمل لمصلحة الأقلية. كما كانت روسيا على وعي تام بأنه لا يتم تطبيق قوانين مكافحة الفساد في أوروبا في معظم الأحيان وأن الإعلام الغربي مهتز وضعيف.
إن روسيا على يقين بأن مواقع التواصل الاجتماعي قد تمكنت من تقويض ثقة المواطنين في المصادر التقليدية للسلطة
إن روسيا على يقين بأن مواقع التواصل الاجتماعي قد تمكنت من تقويض ثقة المواطنين في المصادر التقليدية للسلطة. وفي السياق نفسه، تمكن القادة الروس من استغلال التوسع العالمي لشبكة الإنترنت لإنتاج وترويج معلومات مضللة بصفة مكثفة، أكثر من أي وقت مضى.
وعلاوة على ذلك، ارتكبت المستشارة الألمانية أخطاء جسيمة، لعل من أبرزها تحملها مسؤولية إيواء اللاجئين السورين في صائفة سنة 2015. وعلى الرغم من نواياها الحسنة، إلا أن هذا القرار أعطى انطباعا أن أوروبا لم تعد تسيطر على حدودها. كما تعمقت مشاعر القلق والانزعاج مع تصاعد عدد الهجمات الإرهابية. لكن أخطاء ميركل لم تقتصر فقط على أزمة اللاجئين، بل فشلت أيضا في دعم الحلول الأوروبية فيما يتعلق بالأزمات في منطقة الشرق الأوسط.
كما تقاعست ميركل، عن التعاطي بشكل جدي مع ضرورة تركيز وتطوير الدفاع الأوروبي، على غرار فشلها في الاستثمار في منظمة حلف شمال الأطلسي. ومن المرجح أن ألمانيا ستُضطر في الوقت الراهن إلى دفع ثمن ديونها وفاتورة إخفاقاتها.
سيشهد العالم في الأشهر القليلة المقبلة، حربا إعلامية شرسة ستديرها وسائل الإعلام الروسية والأحزاب الألمانية المدعومة من قبل الكرملين. ومن المتوقع أن تكون هذه الحرب موجهة ضد المهاجرين ومعادية بشكل واضح لكل من الولايات المتحدة الأمريكية، والإتحاد الأوروبي، والحملات الانتخابية التي تشهدها البلدان الأوروبية.
كما أنه من المفترض، أن تستند روسيا إلى دعم العديد من حلفائها، على غرار الدعم غير المتوقع من حليف استراتجي، وهو موقع “برايت بارت” المنحاز لليمين المتطرف والذي يديره، كبير الاستراتجيين في البيت الأبيض ضمن إدارة ترامب، ستيف بانون، الذي صرح مؤخرا أن موقعه سيطلق صفحة ناطقة بالألمانية.
من جهة أخرى، تتمتع ألمانيا كدولة ديمقراطية بالعديد من المزايا، حيث يعتبر النجاح الاقتصادي أبرز دليل على أن الشعب الألماني لا يزال يثق في الحكومة التي تدير شؤون البلاد مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى.
وإن كانت روسيا تعتمد على وسائل الإعلام لإثارة التوتر في صفوف المواطنين الألمان، فإن العديد من وسائل الإعلام الألمانية تقف كحصن منيع أمام سيل الإهانات المروعة التي توجهها لها “الصحافة الكاذبة”، والتي كانت تستخدم فيما مضى من قبل النازيين بهدف تشويه وسائل الإعلام الرئيسية.
ويعتمدها الآن كل من تيار اليسار واليمين المتطرف نفس الأساليب الدنيئة بهدف زعزعة الاستقرار في ألمانيا خدمة لأغراضهم. في المقابل، لا تؤثر هذه الهجمات الإعلامية في الجميع.
وفي الواقع، تعمل ألمانيا على تطوير برامج لمكافحة هذه الهجمات، إذ أفاد مسؤولون في الجهاز الأمني الألماني، بأنهم نظموا اجتماعات بصفة دورية مع كبار الصحفيين لاطلاعهم على جملة من القصص التي يعتقدون أنها وهمية ولا تمت للحقيقة بصلة.
وفي ضل الهجمات التي تشهدها ألمانيا، اتبعت ميركل رفقة جملة من السياسيين، سياسة الشفافية تجاه الشعب الألماني والحديث علنا عن التهديدات التي تواجهها البلاد في الآونة الأخيرة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يكفي التفطن المسبق لحملة التشويه والتضليل التي ستقع في الأيام القادمة لإفشالها والتقليص من حدتها؟ نحن على وشك معرفة ذلك.
المصدر: واشنطن بوست