ترجمة وتحرير نون بوست
إن الذين ينتمون للتيار الأمريكي المحافظ فكريا أو حضاريا، اتحدوا في الماضي في مواجهة الاتحاد السوفيتي، لكنهم اليوم منقسمون حول اعتبار روسيا في عهد بوتين، علمانية مستبدة أو حامية للغرب المسيحي.
يمكن التمييز بين مفهومين أساسيين تتحدد من خلالهما ملامح السياسة الخارجية للحزب الجمهوري في بداية فترة ترامب في خطاباته العامة وتعييناته الرئاسية.
يرتبط المفهوم الأول أساسا بالعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. بينما يصف ترامب روسيا بالشريك، كان رموز الحزب الجمهوري، ومن بينهم ميت رومني، وجون ماكين يعتبرونها دائما عدوا. أما المفهوم الثاني فيرتبط بالنظرة للإسلام. وقد ذكر جورج بوش، الذي يعتبر أبرز القادة الجمهوريين أن الولايات المتحدة لا تواجه أي مشاكل مع الإسلام، أو المسلمين في مختلف أنحاء العالم. أما بالنسبة لترامب وكبار مستشاريه، فإنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه قوة معادية، ويعتقدون أن كل المسلمين مدانون بدعم الإرهاب حتى تثبت براءتهم.
ظاهريا، ليس هناك أي علاقة بين المفهومين، لكنهما في الحقيقة مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطا وثيقا. قبل قدوم دونالد ترامب، كان القادة الجمهوريون يتحدثون دائما عن حرب إيديولوجية تخوضها الولايات المتحدة ضد أعداء الحرية. أما اليوم، فيتحدث ترامب وحاشيته عن صراع حضاري تخوضه الولايات المتحدة ضد أعداء الغرب. ومن بين جميع أطراف هذا الصراع، يبدو بوتين أقل خطورة من المسلمين.
إن فهم التحول في رؤية الحزب الجمهوري للسياسة الخارجية الأمريكية يقتضي التمييز بين مقاربتين اعتمدهما الحزب المحافظ خلال الحرب الباردة. كان المحافظون الحضاريون، مثل جيري فلرويل وبات بوشنان ينظرون إلى الحرب الباردة على أنها صراع بين دولتين لديهما نظرة مختلفة حول اللّه؛ أي أنه صراع بين الولايات المتحدة المسيحية/يهودية، والاتحاد السوفيتي العلماني. أما المحافظون الإيديولوجيون، مثل بول ولفويتز وإليوت أبرامز، كانوا يرون الحرب الباردة على أنها صراع بين دولتين تختلف نظرتهما حول طريقة الحكم؛ أي بين الولايات المتحدة التي تروج للحرية ضمن رؤيتها الشاملة وبين الاتحاد السوفيتي الذي يروج لنظام حكم يقوم على الشمولية. وفي بعض مراحل الحرب الباردة، ظهر تيار ثالث، تبناه هنري كسنجر وجورج كينان. ويعرف هذا التيار الحرب الباردة بأنها صراع بين قوتين كبيرتين تحركهما مصالح جيوسياسية متضاربة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي، اتسعت الهوة بين الحضاريين والإيديولوجيين داخل الحزب الجمهوري. وقد كان جمهورية يوغسلافيا السابقة أبرز دليل على ظهور توجهين داخل التيار المحافظ بعد الحرب الباردة. في السنوات الأولى من التسعينات، ارتكبت يوغسلافيا جرائم بشعة في حق جمهورية البوسنة ذات الأغلبية المسلمة بعد ظهور الحركات الانفصالية. وقد دعا عديد القادة الإيديولوجيين، من بينهم روبرت كاغان حلف الناتو للتدخل في يوغسلافيا للدفاع عن حقوق الإنسان. بينما رفض المحافظون الحضاريون/الثقافيون فكرة تدخل الولايات المتحدة من أجل الدفاع عن المسلمين في مواجهة المسيحيين. ومن جهة أخرى، كان المحافظون الإيديولوجيون يعتقدون أن التحالف بين روسيا وصربيا قائما على الرغبة المشتركة في ارتكاب المجازر وعمليات التطهير العرقي. بينما كان المحافظون الحضاريون، يعتقدون أن هذا التحالف يهدف إلى تعزيز قدرة روسيا في الدفاع عن المسيحية.
يمكن أيضا وضع هذه الاختلافات في سياق هجمات 11 أيلول/سبتمبر، فقد قام جورج بوش بتبرير “الحرب على الإرهاب” من منطلق إيديولوجي، باعتبارها صراع ضد “نظام شمولي اختطف الإسلام”. ووفقا لهذه الرؤية، فإن المسلمين في العراق وأفغانستان لا يتساوون مع النازيين أو الشيوعيين، بل يمكن تصنيفهم من بين الأشخاص الذين استعبدتهم الأنظمة الشمولية. بينما كان المحافظون الحضاريون يعتبرون جورج بوش، ساذجا. وقد كان فرانكلين غراهام الذي ألقى الدعاء خلال مراسم تنصيب جورج بوش في البيت الأبيض، يربط بين الإسلام والشر. لقد اختلفت المبررات التي قدمها كل تيار داخل الحزب الجمهوري للحرب على الإرهاب، لكنهما اتفقا على دعم المغامرات العسكرية لجروج بوش في العراق وأفغانستان.
ترك جورج بوش وراءه حزبا جمهوريا يسيطر عليه المحافظون الإيديولوجيون. وفي سنتي 2008 و2012، قاوم ماكين ورومني الفكر الذي يعتبر الإسلام تهديدا حقيقيا. فقد اعتبر هذا الأخير، النظام الاستبدادي الروسي هو العدو الأبرز للولايات المتحدة. ولكن تلك المرحلة لم تكن نهاية التيار الحضاري المحافظ، فقد واصل رموز جمهوريون، من بينه بن كارسون، وميشال باشمان مهاجمة الإسلام بصفة متواصلة.
أدرك ترامب منذ بداية حملته الانتخابية أن دعم القاعدة الأكثر تأثيرا بين نخبة الحزب الجمهوري يرتبط بالإسلام، بقدر ما يرتبط بالتجارة. ولذلك فإن ترامب نجح في لفت الأنظار إليه مقارنة بمنافسيه، دون أن يطرح إستراتيجية جديدة تختلف مع إستراتيجياتهم للقضاء على تنظيم الدولة. إن ما ساعد ترامب على خطف الأضواء هو موقفه من تنظيم الدولة، الذي أشار من خلاله إلى أن المشكلة لا تتعلق “بالإسلام المتطرف”، بل “بالمسلمين بصفة عامة”.
لقد كانت ردود الفعل سلبية في صفوف القادة الجمهوريين بسبب دعوة ترامب لمنع دخول المسلمين للولايات المتحدة، لكن أبرز استطلاعات الرأي تشير إلى أن 7 من بين 10 الناخبين الجمهوريين يدعمون هذا التوجه.
لقد نجح ترامب في لفت الأنظار إليه أيضا من خلال موقفه الأكثر مرونة تجاه روسيا. يمكن أن تكون المصالح الاقتصادية أو إعجابه الشخصي بالقادة الاستبداديين قد دفعت ترامب لتبني رؤية شاذة تجاه روسيا. ومهما كان السبب وراء هذا الانحراف السياسي الخطير، فإن ذلك قد أدى إلى تنامي العداوة بين بوتين والنخبة السياسية في الحزب الجمهوري. لكن هذا التوجه لم يؤثر رغم تهافته على حظوظ ترامب في الانتخابات، ولذلك فقد تزايدت شعبية الحزب الجمهوري أكثر مما كانت عليه عند تبني مواقف معادية لروسيا في سنة 2014.
يبدو أن البعض يسعى لتقليد ترامب، لكن الأمر يتجاوز مجرد التقليد بالنسبة لبعض القادة الجمهوريين. فالمحافظون الإيديولوجيون يعتقدون أن بوتين يرمز لنظام استبدادي يهدد بتغيير ملامح النظام الأمريكي الذي أرستها الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط.
إن المحافظين الحضاريين الذين عارضوا الاتحاد السوفيتي في الماضي بسبب ترويجه للفكر الملحد، يقفون اليوم في وجه الإسلام الذي يعتبرونه تهديدا حقيقيا للمسيحية التي يقف بوتين مدافعا عنها في الخطوط الأمامية. ويحظى بوتين بشعبية كبيرة بين أنصار اليمين الأمريكي المتطرف، لأنه يقاوم اللبرالية التي يستغلها الإسلام لتقويض الغرب.
كان ريتشارد سبنسر يردد دائما أن “روسيا هي القوة البيضاء الوحيدة في العالم”. أما ماثيو هايمباخ، وهو أحد أنصار التيار اليميني المتطرف في الولايات المتحدة، فقد ذكر في مقابلة مع صحيفة “بزنس انسايدر” أن “روسيا هي قائد العالم الحر”. وتساءل بات بوكنان في تقرير نشره في سنة 2013: “هل أصبح بوتين واحد منا في خضم الحرب الثقافية حول مستقبل البشرية؟”.
يراهن ترامب على هذا التغيير من أجل إعادة تشكيل ملامح السياسة الخارجية للحزب الجمهوري. إنه يحاول إعادة توجيه مدافعه تجاه الصراع الحضاري مع الإسلام، وتجاهل الصراع الإيديولوجي مع روسيا.
نشر الجنرال مايكل فلين، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب تغريدة على تويتر ذكر فيها أن “الخوف من المسلمين أمر عقلاني”، وأن “الإسلام يشبه السرطان”. وفي شهر أغسطس/آب الماضي، اعتبر فلين أن “الولايات المتحدة انتصرت على هتلر بفضل علاقاتها مع روسيا، ولذلك يجب إعادة إحياء هذه الشراكة في الحرب العالمية الجديدة ضد الإسلام المتطرف”. أما كبير مستشاري ترامب، ستيف بانون فهو يستمتع بالحديث عن “التاريخ الطويل من الكفاح الذي خاضه اليهود والمسيحيون ضد الإسلام في الغرب..إنها حرب ذات أبعاد هائلة” لا زالت مستمرة إلى اليوم. ولذلك يعتقد بانون في هذا الإطار أن “الغرب في حاجة إلى أن يتأمل المدى الذي ذهب إليه بوتين في رؤيته التقليدية، وتحديدا في موقفه الداعم للقومية” وخلافا لما يؤمن به أغلب أنصار العولمة في أوروبا، فإن بانون يعتقد أن بوتين يحترم مبدأ “السيادة”، وهو ما يجعله حليفا مهما للولايات المتحدة في صراعها الحضاري.
إن هذه المؤشرات قد تؤدي إلى ظهور صراع بين دونالد ترامب وبعض النواب الجمهوريين في الكونغرس، ومن بينهم جون ماكين وليندسي غراهام اللذان يريدان التحقيق في دور روسيا في فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية.
هل سيعرف الحزب الجمهوري الأمركة على أنها مجموعة من القيم العالمية أو الموروث العرقي والديني؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لن تحدد فقط المدى الذي يمكن أن تصل إليه الليبرالية الديمقراطية في الخارج، ولكنها ستحدد أيضا المدى الذي يمكن أن تصل إليه في الولايات المتحدة الأمريكية.
المصدر: الأتلنتك