في واحدة من أعلى نقاط خريطة تركيا، فوق، في الشمال، في إحدى المدن المطلة على البحر الأسود، مدينة سامسون، استمرت رحلتنا باستخدام الباص لاثنتا عشرة ساعة.
مدينة سامسون تحمل مكانة هامة لدى الأتراك حيث أطلق منها أتاتورك حرب الاستقلال التركية عام 1919م، وتعتبر من المدن غير الكبيرة، ولكنها عاصمة مقاطعة سامسون والتي يعتبرها البعض عاصمة البحر الأسود، ومن الجدير بالذكر أن سامسون ذكرت باسمها القديم “أميسوس” فى إلياذة هوميروس.
مدينة لها تاريخ، حياؤها يُخفي وراءه طبيعة تسحر الأبصار، يتلاقي فيها البحر والسهول الخضراء تلاقي أم افتقدت ابنها الغائب عنها لسنوات، فيتعانقا عناقًا تكاد لا تعلم فيه أيهما يُبدي حبًا أدفأ للآخر، وكونها مدينة من منطقة البحر الأسود يجعلك تشعر بدفء أهلها وترحابهم للضيوف، فهي من المدن التي أنصح بزيارتها دومًا للمقيمين بتركيا، ولهذا كانت تستحق عناءً بلغ الاثنتا عشرة ساعة فى رحلتي لها.
حظيت بزيارة سامسون مرتين، مرة بالشتاء ومرة بالصيف، كانت أول مرة أزورها شتاءً فى أواخر شهر يناير المميزة، فدرجة الحرارة كانت منخفضة والجو شديد البرودة والمطر، وعلى النقيض صيفًا الجو مشمس ومعتدل، لهذا من الجيد قبل أن تقرر الذهاب لسامسون أن تلقي نظرة على أحوال الطقس أولاً.
سامسون لا تُعتبر مدينة سياحية بالدرجة الأولى، ولكنها مدينة جميلة كمدينة، يحلو لي شخصيًا العيش بها لفترة، فهي تتمتع بشوارع منظمة ونظيفة، ساحل جيد مزدهر بالألوان، مواصلات سهلة توصلك إلى أي مكان تريد بكل سلاسة، وتتميز كذلك برخص المعيشة مقارنة بمدينتي بورصة وإسطنبول على سبيل المثال.
من الأماكن التي قد تستطيع زيارتها ببورصة، هي حديقة “تشاكر” وهي حديقة شاسعة المساحة، زرتها شتاءً، ولكن برودة الجو منعت الناس من الاستمتاع بجمالها، فلم يوجد بها أحد غيري وأصدقائي حرفيًا، وكأنها وجدت لنا كحديقة قصر أتجول بها مع رفاقي، رغم ذلك لم نجد متعة فى التجول بفراغها وسط الأمطار المتزايد سرعتها والأجواء التي لا تنذر بالتحسن فقررنا تركها سريعًا والذهاب إلى وسط المدينة.
تتمتع سامسون بمركز مدينة نشط وحركي وممتلئ بالناس، ويعتبر “تشفتليك” أشهر شوارعه الممتدة لمسافة طويلة دون مرور السيارات به، مما ذكرنى بأحد شوارع القاهرة، وهو شارع يمتلئ بالأنشطة التجارية والمطاعم والمقاهي وخلافه، ويتميز بمعمار مدني مميز، حيث تمتلك كل مبانيه نفس الطرز المعماري واللون الأبيض المائل إلى الرمادي مما يعطي رونقًا جاذبًا له.
مما يمكن أن تفعله أيضًا في سامسون، أن تذهب إلى الساحل وتبدأ جولة مشي ساحلية تمتد لعدة كيلومترات، لا أظن أن الملل سيتملكك، حيث إن نظافة الساحل، ونظام الممشى ممتع للغاية، فعلى أقصى اليمين ترى البحر ثم ساحله ثم يأتي الممشى الخاص بالمشاة ثم حارة تم زرعها بالأشجار والنباتات، ثم ممشى خاص بالدراجات وخلافه، ثم ينتهى الرصيف وتبدأ حارة صغيرة خاصة بالسيارات، ثم على أقصى ما يراه بصرك على اليسار مبانٍ منخفضة لا تزيد فى الأغلب عن أربعة أو خمسة طوابق ذات طابع جمالي، فأينما تقع عينك، تأكد أنها ستقع على شيء جميل يريح نظرك، لهذا عندما مشيت، أمضيت كيلومترات دون أن أشعر، إنها حقًا تجربة فريدة عليك أن تعيشها يومًا إذا أتتك الفرصة لزيارة سامسون.
يعد التليفريك من المعالم المميزة أيضًا هنا، التليفريك هو عربة معلقة، تصعد بك إلى تلة صغيرة تشاهد من خلالها منظرًا رائعًا للساحل، وبها أيضًا مطعم ذو جو هادئ مطل على البحر، تلة أميسوس، بها أيضًا ممشى خشبي جميل يجول بك وسط الأشجار في مناخ أشعرني بأنني في إحدى الدول الآسيوية، ويأتي الكثير من المتزوجين الجدد لالتقاط صور زفافهم بهذا المكان.
وبمكان ليس ببعيد توجهنا إلى حديقة الأمازون التي تحتوي متحفًا يحكي أجزاءً من تاريخ قوم الأمازون، وبعد ذلك أراد أصدقائي تناول السمك، فتمشينا من هناك إلى سوق الأسماك القريب من مطار سمسون، واشترى أصدقائي السمك من أحد المحلات الموجودة بالحلقة ثم أعطوها للمطعم الموجود الخاص بطهي السمك الذي يشتريه المشترون من الحلقة.
واتجهنا مشيًا على الأقدام إلى يابانجلار بازار أي سوق الأجانب الذي يحتوى على العديد من المحلات لشراء التذكارات والهدايا، وكان في خطتنا زيارة الكثير من الأماكن الطبيعية الرائعة مثل منطقة دلتا كزلرماك الطبيعية الساحرة ومغارات تكاكوي ولكن لبعد تلك الأماكن نسبيًا عن وسط مدينة سمسون لم نجد وقتًا لزيارتها.
في زيارتي الأخيرة لسامسون، قمت بتجربة لا أظن أنني سأنساها أبدًا، أتى الليل ولم أكن قد حجزت أي فندق قبل مجيئي، وكنت أصطحب حقيبة النوم تحسبًا لأي طوارئ، فقال لي صديقي لم لا تجرب النوم على الساحل هذه الليلة؟ أبديت تشجعي للفكرة وبالفعل اخترت مكانًا مميزًا من الساحل وقمت بإعداد حقيبة النوم وما إن استلقيت حتى وجدت منظرًا رائعًا للنجوم من فوقي، شعرت بإحساس ليس من السهل وصفه، كما عبر عنه إيليا أبو ماضي:
كم تشتكي وتقول إنك معدم والأرض ملكك والسما والأنجم
كما يقول بول فوسل “لا يمكنك استرجاع السعادة الأولى لذا استمتع بكل لحظة من لحظات سفرك، والمسافر الحكيم هو من لا يحاول تكرار نجاحات ماضيه بل يجرب دومًا زيارة أماكن جديدة” فإنني أقول إنه بالرغم من اتفاقي مع صاحب المقولة، الا أن القلب أحيانًا يحن إلى مواطن استقر بها من قبل، وإني لأجد سامسون من تلك المدن القليلة التي لن أمل من زيارتها وإن كثرت.