“ماجرى ويجري في حلب فضح الجميع دون استثناء، فضح إجرام الأسد وروسيا وإيران وحلفائهم، فضح تفرق فصائلنا وحب قيادات الفصائل للسلطة، فضح صمت قادة العالم وتخاذلهم وتآمرهم، فضح كذب الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، ومثلما أنها فضحتهم جميعًا، هي أيضًا فضحت عجزنا التام أمام ما يحصل! ولا شعور في الدنيا يعادل شعور العجز”.
كتب أحدهم علي موقع التواصل الاجتماعي هذه الكلمات ثم وجدتني أفتح رسالة أخرى ربما كتبها شخص أراد أن يزجي سعير ضمائرنا لما يحدث لحرائر حلب أو ربما يوافق أعتى كوابيسي وفعلاً هناك فتاة في حلب قد كتبت تلك الرسالة:
رسالة من إحدى الفتيات في حلب: “إلى شيوخ الأمة، إلى شرعيي الفصائل، إلى كل من ادعى يومًا أنه يحمل هموم الأمة العقائدية. أنا إحدى فتيات حلب التي سيتم اغتصابها بعد لحظات فلم يعد هنالك سلاح ولا رجال تحول بيننا وبين وحوش ما يسمى جيش الوطن، لا أريد منكم أي شيء حتى الدعاء لا أريده، فما زلت قادرة على الكلام وأظن أن دعائي سيكون أصدق مما ستقولون ،كل ما أريده منكم ألا تأخذوا مكان الله وتفتوا في مصيري بعد موتي، أنا سأنتحر ولا أكترث إن قلتم إنني في النار.
سأنتحر، لأنني لم أصمد كل تلك السنوات في بيت أبي الذي مات وفي قلبه حرقة على من ترك، سأنتحر ليس لشيء بل كي لا يتلذذ بجسدي بضعة عناصر كانوا ومنذ أيام يخافون نطق اسم حلب، سأنتحر لأن في حلب قامت القيامة ولا أعتقد أن هناك جحيم أقسى من هذا، سأنتحر وكلي علم أنكم ستتوحدون على فتوى دخولي النار، الشيء الوحيد الذي سيوحدكم هو انتحار فتاة، ليست بأمك ولا بأختك ولا بزوجتك… فتاة لا تهمك! سأختم قولي بأن فتواكم لدي أصبحت كهذه الحياة لا قيمة لها على الإطلاق فاحفظوها لأنفسكم ولأهليكم ،سأنتحر وعندما تقرأون هذا اعلموا أنني مت طاهرة رغمًا عن الجميع”.
كانت هذه الرسالة من أوائل ما قرأت صباح اليوم، لأتذكر كيف أنني كنت أبعد عيني عن أخبار سوريا، بل وأتعجب كثيرًا من هؤلاء النشطاء الذين يكرسون جزءًا كبيرًا من وقتهم للكتابة عن الحرب هناك.
أفكر بلا جدوى في كل هذا الظلم والقهر الذي يخيم علي سماء العالم، ويجب أن نعلمه جيدًا، نتتبع الأدلة والحقائق ونستفت فيه قلوبنا، حتى وإن كنا عاجزين عن رده
الألم الذي لا يطاق، الشعور الخانق بالعجز يجعلني أهرب، فالهرب يبدو أسلم طريق ها هنا.
تمامًا كما هربنا في مصر من مواجهة الحقائق وسلمنا بحدوث المعجزات عند فوز الرئيس المنتخب محمد مرسي لكن الحقيقة أن معجزة لم تحدث في مصر منذ ثورة يناير وحتى اللحظة وأن المعجزات في سوريا ربما هي معجزة بقاء ذلك الشعب تحت الإبادة كل تلك الأعوام، فلا هم ماتوا ولا انتصرت ميليشيات الأسد وحلفاؤه التي جربت كل شيء من حصار وقتل وقصف وعنف لا مثله.
حكت لي معلمتي عن عالم أحضر نبتتين وكان يوجه كلمات مع إيمان ومشاعر جيدة لإحداهما والأخرى يوجه لها مشاعر وكلمات سيئة وكان أن مات النبات الذي وجهت نحوه الكلمات والأفكار السيئة في خلال أقل من شهر بينما نما الآخر وفاح عبيره.
كره شديد أوجهه كل صباح نحو روسيا وإيران وبشار الأسد، كره شديد نحو حكام العرب وأنا آمنت دائمًا أن الكراهية تقتل وأن توجيه تلك المشاعر نحو أحدهم سيصيبه بالوبال كما أخبرتني معلمتي.
الواقع أن الشعب المصري في غالبيته يكرهون حاكمهم الحاليّ والرجل يبدو في كل مرة في أتم الصحة وأفضل الأحوال كأنه يتغذى على كراهيتنا أو ربما يصيبه فقر الغالبية وموتهم والأزمات التي يسببها لهم بنشوة عظمي.
كما يبدو بشار في أتم القدرة والجبروت كأنه يقتات من دماء الأطفال في سوريا فيكبر الوحش ولا يفنى أبدًا ولا تنتهي مجازره، أريد أن أبقى على تصديقي لفكرة أن الكره يقتل لكنني صرت خائفة أن يقتلنا نحن فقط مع الصمت والعجز والتفرق الذي فضح حال المقاومة السورية ويفضح حالنا في مصر كل يوم.
بينما أتجول في بيتي صباحًا أنتعل جواربي المنزلية وأنظف الفوضى التي أحدثها طفلي فيه وأمارس طقوس صباح شتوي عادٍ لامرأة عربية برودة أخرى تجتاح قلبي وأنا أفكر في تلك الفتاة التي عزمت على الانتحار في حلب والأخرى التي سمعت عنها في مصر تم اعتقالها من بيتها مع أقارب لها وتوجيه تهمة تفجير الكاتدرائية لهم وهي تقريبًا فتاة في مثل عمري وأم لطفلين، والتفكير في النساء اللاتي خرجن من بيوتهن لحضور قداس ديني في الكنيسة فتفجرت أجسادهن وعدن في نعش واحد، أفكر في صورة الفتي محمود ذو التسعة عشر عامًا والذي أعلنوا أنه صاحب التفجير بينما نفت محاميته ذلك وأعلنت أنه مختفٍ منذ سنوات.
الألم الذي لا يطاق، الشعور الخانق بالعجز يجعلني أهرب، فالهرب يبدو أسلم طريق ها هنا
أفكر بلا جدوى في كل هذا الظلم والقهر الذي يخيم علي سماء العالم، ويجب أن نعلمه جيدًا، نتتبع الأدلة والحقائق ونستفت فيه قلوبنا، حتى وإن كنا عاجزين عن رده، الكارثة أن نبقى بلا علم، أن نموت بلا معرفة، أن يقتلوننا في صمت ونتحول إلى صورة أخرى يتساءل الناس حولها، كان من العجيب جدًا أن أرى أناسًا يصدقون رواية الجهات الرسمية متناسين كل كذب كذبوه عليهم من قبل وكل إجرامهم، ومتناسين أنهم ربما غدًا يصبحون ضحية رواية جديدة دون أدلة، وأننا تحولنا إلى نقطة عمياء من شدة ما تبعنا عواطفنا أو ما نسمعه بغير تفكير وأنني حين أفكر في حلب ومصر والعراق وغزة والقدس فإنني أبحث عن نقطة مضيئة وسط العتمة ونجوم قطبية تريني إشارات الطريق إلى الله، يوم أتتبع الحقائق التي لا قدرة عندي على تغييرها لكن معرفتها والصدح بها والدعاء لأهلها ومناجاة الله عنهم وإن كان مؤلمًا فهو جهاد العصر وأمل التغيير، علينا فقط أن ندرك أننا صرنا كلنا اليوم حلب التي قامت القيامة فيها وكلنا نساء الكاتدرائية وأطفالها اللاتي أكملن صلاتهن في السماء.
ربما يزهر إدراكنا جيلاً يقوده صلاح الدين ويكون محررًا لنا ومحررًا لقيود قد شدت معصم أمة دفنت رأسها من شدة الهول في الرمال.