حارة الدمج.. قلب المخيم وحصن المقاومة في جنين

على مساحة أقل من نصف كيلومتر مربع، صمدت بقعة جغرافية لأكثر من 48 ساعة أمام طائرات الاحتلال الإسرائيلي وآلياته وأسلحته ومجنزراته المحتشدة، وجعلت غرفة العمليات في جيش الاحتلال تراقب عن كثب فشل عملياتها واجتياحها، وتكتب من جديد “عشّ الدبابير هزم إسرائيل”.

لمرتَين، تعرّض مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين لاجتياح إسرائيلي بهدف القضاء على البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، بدءًا بعملية “السور الواقي” عام 2002 واجتياح المخيم لـ 11 يومًا، ليتكرر المشهد مرة أخرى عام 2023 في عملية أطلق عليها الاحتلال “بيت وحديقة”، والهدف واحد: مخيم جنين.

على خلاف عملية السور الواقي، لم يستطع الاحتلال الدخول إلى عمق المخيم، وتركزت عمليته الأخيرة، والتي استمرت لـ 40 ساعة على الأرض، على أطراف المخيم من جميع الجهات، فيما فشلت قوات الاحتلال في المرور من حارة الدمج في قلب المخيم، ودارت معركة ثقيلة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال فيها، هذه الحارة الشاهدة على هزيمة الاحتلال تسمّى بين أهالي المخيم بـ”حصن المقاومة”.

“حصن المقاومة”

تعود تسمية حارة الدمج إلى عائلة الدمج الموجودة في المخيم، وفيها مسجد الأنصار، ويعتبرها الأهالي قلب المخيم، وقد سطّرت في الاجتياحَين والعمليات العسكرية المختلفة على مخيم جنين بطولة الصمود، ومعاني مختلفة من الاشتباك مع قوات الاحتلال.

في اجتياح عام 2002، كانت الحارة أيضًا ساحة للمعركة، لا سيما معركة طوالبة الشهيرة، والتي خاض فيها الشهيد محمود طوالبة ومجموعته من سرايا القدس عدة اشتباكات عنيفة مع جنود الاحتلال في حارة الدمج استمرت عدة ساعات، وبنصب العديد من الكمائن بكل بسالة وشجاعة، ثم انسحب إلى حارة الحواشين واشتبك برفقة المقاومين مع جنود الاحتلال، وتمكنوا من قتل جنديَّين صهيونيَّين، وتمَّ سحب جثتَيهما بأحد الأسلاك الطويلة ومصادرة أسلحتهما.

ليست الاجتياحات وحدها من كان لحارة الدمج بأسٌ فيها، ففي عام 2014، وبعدما نشطت خلية لكتائب القسام في المخيم يقودها حمزة أبو الهيجا، بدأ الاحتلال عملية عسكرية سريعة لاغتيال أبو الهيجا، شاركت فيها قوة كبيرة مكونة من عشرات الجيبات العسكرية وناقلات الجند وجرافة عسكرية، بدعم من سلاح الطيران الحربي الإسرائيلي.

تجاوز الاحتلال الحارة يعني سيطرته على قلب المخيم وإحكام القبضة على المقاومين

وفي منزل في حارة الدمج تحصّن أبو الهيجا، وحاصرته قوات الاحتلال فيه، واستخدمت قذائف الأنيرجا خلال محاصرة الشهيد، الذي اشتبك معها وأوقع إصابات في صفوف جنود الاحتلال، وقد شاهدهم المخيم ينقلون إصاباتهم في سيارات الأسعاف مضرّجين بدمائهم، بينما أكّد شهود رؤية جثة أحد الجنود ملقاة على الأرض.

وخلال العملية، هدمت قوات الاحتلال جزءًا من المنزل الذي تحصّن فيه الشهيد أبو الهيجا، بينما تعمّدت قتل الشهيدَين محمود أبو زينة ويزن محمود جبارين، خلال محاولتهما فكّ الحصار عن المنزل الذي تواجد به الشهيد وإخراج جثمانه.

يقول الكاتب والمحلل السياسي محي الدين نجم من مخيم جنين لـ”نون بوست”: “إن المقاومين يقومون بالتحصن في حارة الدمج بسبب موقعها البعيد عن الأطراف، ويتركز نشاطهم فيها، وفي الاجتياحات السابقة كان المقامون يتحصّنون فيها ويزرعون العبوات الناسفة في الطرق المؤدية لها لعرقلة وصول آليات الاحتلال إليها”.

خلال الاجتياح الأخير، حاولت قوات الاحتلال تجاوز حارة الدمج 3 مرات على الأقل لكنها فشلت، ووفقًا لنجم فإن تجاوز الاحتلال الحارة يعني سيطرته على قلب المخيم وإحكام القبضة على المقاومين، ولذلك في الاجتياح الجديد حاول الاحتلال الوصول إلى هذه الحارة بشكل مستميت، لكن المقاومين يزرعون العبوات الناسفة في الطرق لعرقلة الآليات والاحتلال لعدم الوصول إلى هذه الحارة بالتحديد.

مسجد الأنصار.. حيث حفر المقاومون الأرض

في عملية الاجتياح الأخيرة، تصدّر مسجد الأنصار في حارة الدمج عناوين الأخبار، حين اندلعت اشتباكات عنيفة، ونادى الاحتلال بالسمّاعات يطالب المقاومين في المسجد بتسليم أنفسهم، قبل أن يذوق الاحتلال -كما وصف الأهالي- موتًا محتمًا في كمين أعدّته له فصائل المقاومة داخل المخيم.

رغم محاصرة المخيم جوًّا وبرًّا، وقع كمين مسجد الأنصار، أحد أبرز الكمائن التي نصبتها المقاومة الفلسطينية في المخيم لقوات الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا إلى تواجده في قلب حارة الدمج، وشدة الاشتباكات التي دارت خلال هذا الكمين، ضمن المحاولات المستميتة من قبل القوات الإسرائيلية للدخول والتسلُّل إلى قلب المخيم.

واكتسب هذا الكمين أهمية قصوى، نظرًا إلى المزاعم الإسرائيلية التي كشفت عن وجود نفق أرضي فيه، كان المقاومون في المخيم يستخدمونه للتحرك من أجل التصدي للقوات المقتحمة، خلال عمليات الاقتحام التي كانت تتم خلال الفترات السابقة، إضافة إلى كون هذا النفق يضمّ في زقاقه عبوات ناسفة جاهزة للاستخدام ضد القوات الإسرائيلية.

صورة
مسجد الأنصار – أكياس رمل أخرجها المقاومون من النفق
صورة
النفق الذي اكتشفه الاحتلال في مسجد الأنصار

وخلال العملية، عمدت المقاومة الفلسطينية لاستخدام قوة نارية كبرى للغاية في محيط هذا الكمين، من خلال تفجير العبوات الناسفة المصنّعة في الأرتال العسكرية والجنود واستخدام أقصى درجة من الكثافة النارية، في الوقت الذي لجأ فيه الاحتلال لاستخدام الطيران المسيَّر والمروحي، في محاولة منه للتخفيف من وطأة القوة النارية المستخدمة من المقاومين.

وخلال هذا الكمين المحكم الذي نصبه المقاومون لقوات الاحتلال، أعلنت كل من كتائب القسام وكتيبة جنين – سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى تمكُّنها من إيقاع جنود الاحتلال من وحدة إيعوز في كمين محكم واستهدافهم بشكل مباشر، وجاء هذا الكمين في اليوم الثاني من العملية العسكرية التي دامت 40 ساعة، والتي انتهت في نهاية المطاف باعتراف إسرائيلي صريح بمقتل جندي من هذه الوحدة خلال اشتباك مع المقاومين الفلسطينيين.

رغم هدم حارة الدمج خلال اجتياح 2002، وإعادة بنائها مرة أخرى، إلا أنها ما زالت حصن المقاومة في مخيم جنين، نظرًا إلى ضيق أزقتها -على عكس المناطق الأخرى في المخيم- التي تحمي المقاومين من قدرة الاحتلال على التوغُّل الواسع فيها، ما يجعلها نقطة استهداف للاحتلال في كل اجتياح.

حاولنا في “نون بوست” أن نحصل على رواية دقيقة حول اشتباك حارة الدمج في عملية “بيت وحديقة” التي أعلنها الاحتلال، لكننا لم نحصل على رواية واحدة، كل ما حصلنا عليه اتفاق من الأهالي أن مقاومين أشداء صمدوا أمام طائرات الاحتلال وآلياته في ليلة حرب.