الخيال الغريب أو ما يطلق عليه اسم Weird Fiction وهو نوع فرعي من الأدب المعني بالخيال والذي ينقسم إلى فروع مثل الفانتازيا والخيال العلمي والرعب وغيرها، إلا أن الخيال الغريب يميز نفسه عن كل تلك الأنواع، بأنه يدمج بين الأسطورة والخرافة بل وحتى الحقائق العلمية، ولعل أشهر رموز هذا النوع من الأدب هو لافكرافت وخاصةً في حكايات كثولو والكيانات القديمة، فالقارئ لا يرى ما يجب أن يرعبه بشكل مباشر، ففي أغلب حكاياته يكون مصدر الرعب هو الغريب وغير المألوف، ويقول لافكرافت معرفًا هذا النوع من الأدب:
“الحكاية الغريبة الحقيقية هي التي تحتوي على أكثر من جريمة قتل سرية، يجب أن يوجد جو حابس للأنفاس من الرهبة، والخوف من قوى غريبة غير مألوفة يجب أن يكون حاضرً”، وهذا ما نجده بقوة في حكايات كثولو وغيرها لدى لافكرافت.
لافكرافت
ولكن الحقيقة أن لافكرافت ليس مؤسس هذا النوع من الأدب، بل تأثر بالعديد ممن سبقوه، فنجده متأثرًا مثلا بقصص اللورد دونساني الذي يعد أول من قام بابتكار آلهة خاصة به ليحكي عنها حكاياته في الأدب الحديث، وهنا تشابهات بين آلهة دونساني والكيانات القديمة لدى لافكرافت، ولكن أكثر من تأثر به لافكرافت هو آرثر ماكين، وبالتحديد حكاية الإله العظيم بان.
آرثر ماكين
ولد آرثر ماكين (1863 ــ 1947) في ويلز في منطقة يشار إليها باسمها الويلزي القديم “جوينت” وينحدر ماكين من سلالة طويلة من رجال الدين، وفي عمر الحادية عشر تخرج من مدرسة هيريفود الكاتدرائية بتقدير ممتاز، إلا أن فقر عائلته منعه من الالتحاق بالجامعة، فتم إرساله إلى لندن لعمل اختبارات الالتحاق بمدرسة الطب، إلا أنه فشل في ذلك.
ومع ذلك فقد أبدى ماكين تألقًا في مجال الأدب، وفي 1881 قام بنشر أولى قصائده الطويلة والتي تحمل اسم “إلوسينيا” وكان موضوعها أسرار اليوسيس (هي عبارة عن مراسم للبدء تقام كل عام لعبادة ديميتر وبرسفون في مدينة إلفسينا في اليونان القديمة)، وقد عاش ماكين في لندن حياة فقيرة ما بين عمله كصحفي ومحرر للناشرين، ومعلم خصوصي للأطفال، بينما يقضي مساءه في الكتابة أو التجول على غير هدى في شوارع لندن.
في عام 1884 قام بنشر عمله الثاني “تشريح التبغ” والذي أمن له عمل مع الناشر والموزع جورج رادواي، كمفهرس ومحرر في مجلته، وهذا فتح له أبواب عمل أخرى، كمترجم من اللغة الفرنسية، مثل الحكايات الفانتازية الفرنسية ومذكرات كازانوفا وغيرها، واستخدم ماكين في ترجمته لغة إنجليزية مفعمة بالحيوية والحماس أصبحت مقياسًا للمترجمين إلى الإنجليزية لسنوات عديدة.
غلاف كتاب الإله العظيم بان
استمر ماكين في نشر القصص القصيرة بالمجلات الأدبية، والتي اتخذ بعضها الطابع الخيالي أو القوطي، قبل أن يقوم بكتابة أول نجاح كبير له، رواية “الإله العظيم بان”، وقد نشرت لأول مرة عام 1890 بمجلة The Whirlwind ونقحها آرثر ماكين وأضاف الكثير من التفاصيل لها لتنشر في شكل كتاب مستقل سنة 1894، وأثارت الرواية عند نشرها ضجة كبيرة، واتخذ فيها ماكين تيمة الإله بان المرتبط بالخوف والرعب عند القدماء ومن اسمه تشم اشتقاق كلمة Panic والتي تعني في الإنجليزية الخوف الشديد، ومثل الكيانات القديمة عند لافكرافت، فإن حضور بان طاغي في القصة كلها بالرغم من عدم ظهوره بشكل مباشر.
فالقارئ لا يستطيع أن يعرف ما هو بان بالضبط، ولكنه يرى أثره في الرعب الذي يسببه في كل مكان، وفي هذه القصة مزج ماكين بين الأساطير والخرافات والعلم في مزيج رائع جعل القصة واحدة من كلاسيكيات أدب الرعب، وقد سار لافكرافت على درب ماكين في كتاباته، وقد صرح في أكثر من موضع بإعجابه بالرواية قائلًا: “لا أحد يستطيع وصف التشويق اللامتناهي والرعب المطلق الموجود في كل فقرة من فقرات الكتاب”، ويبدو أثر ماكين على لافكرافت واضحًا لكل من تعمق في أدب الكاتبين، بل إن لافكرافت أشار إلى كتاب ماكين بالاسم في قصته رعب دانويتش (The Dunwich Horror) وهي واحدة من حكايات كثولو المحورية.
ستيفن كينج
ولم يقتصر تأثير ماكين وروايته على لافكرافت فقط، بل عديد من كتاب الرعب حاولوا محاكاة ماكين ورايته ومنهم واحد من أعظم كتاب الرعب المعاصرين ستيفن كينج الذي صرح بأن روايته القصيرة N تعد محاكاة لرواية ماكين، وأن روايته لم تستطع أن تصل لمستوى رواية ماكين التي قال عنها إنها أفضل رواية كتبت في أدب الرعب باللغة الإنجليزية، وقال إن هذه الرواية حرمته من النوم ليالٍ طويلة، وقال أيضا أن رواية ماكين كان لها أثر في العديد من أعماله مثل رواية الإحياء Revival التي صدرت عام 2014.
ومن الكتاب الآخرين الذين حاولوا محاكاة رواية الإله العظيم بان الكاتب كلارك أشتون سميث في رواية “السلالة التي لا اسم لها”، والكاتب بيتر ستراوب في رواية “حكاية شبح”، كما تم ذكر رواية ماكين بالاسم في رواية “مذكرات عثة” للكاتب راتشل كلاين، والعديد من الكتاب الآخرين.
الإله العظيم بان على خشبة المسرح
ولم يقتصر أثر رواية “الإله العظيم بان” على الأدب والروايات فقط، بل على أنواع أخرى من الفنون أيضًا، ففي عام 2008 تم تحويلها إلى مسرحية على يد المخرج تشارلي شرمان، كما أن أغنية Pan’s Daughter لفريق الروك الأمريكي Flummox مستوحاة من الرواية.
وقد ترجمت الرواية ـ على مدار السنوات ـ إلى العديد من اللغات، وألهمت العديد من الكتاب والقراء حول العالم، وقد تم ترجمة راوية الإله العظيم بان إلى العربية، والمتوقع صدورها في معرض القاهرة 2017 عن دار إبداع للنشر والترجمة لتصبح أول ما يترجم للكاتب آرثر ماكين إلى اللغة العربية.