فلاديمير بوتين هو الوحيد الذي لديه وسيلة لقلب موازين القوى في العالم. فقد وضع قوته العسكرية في خدمة تلميذه في دمشق.
عندما بدأ الاحتجاج ضد نظام بشار الأسد في أعقاب الربيع العربي في أوائل سنة 2011، مارست القوات الحكومية القمع ضد المحتجين. حينذاك، لم تتوقع الدبلوماسية الفرنسية بقاء بشار الأسد في السلطة، حيث لطالما اعتبرته فرنسا المسؤول الأول عن تلك الفوضى. خلال السنوات التي تلت، لم يتوقف الدبلوماسيون الأوروبيون والأمريكيون عن المطالبة برحيل الأسد، الأمر الذي كان أحد أهم الشروط في مفاوضات السلام وعملية الانتقال السياسي.
بعد مرور ست سنوات من بداية الحرب، أثبت سقوط حلب أن إمكانية عودة بشار الأسد إلى الساحة السياسية بات حقيقة. فمن خلال السيطرة على حلب والمعارك في المدن الكبيرة، حطم الرئيس السوري أي احتمال في إمكانية حدوث تغيير في السلطة في المستقبل القريب. فسياسية “تغيير النظام” التي يدعو لها الغرب وينفذها، لا مكان لها في سوريا. كما أن سقوط حلب قد يعني زوالا نهائيا للمعارضة السورية، التي بلغت قدرتها على القتال وعدد مقاتليها أدنى المستويات. وهذا ما يعتبره الكثيرون حجة إضافية للدفاع عن استمرار حكم الرئيس السوري.
تراجُع أوباما رغم “الخط الأحمر”
مر الانتعاش العسكري والسياسي لبشار الأسد بعدة مراحل. ففي البداية، استغل الأسد تردد أوباما، الذي تميزت فترة رئاسته بفشل استراتيجي في المنطقة و”بنَصّ” مكتوب سلفا بهدف محو آثار الغزو الأمريكي في سنة 2003: “العراق أولا”.
وقد ساعدت واشنطن، على مضض وليس بالشكل الكافي، المعارضة السورية، مما يجعلها قادرة على قلب موازين القوى وإلحاق الهزيمة بالنظام السوري. كما ترك الغرب المجال لتدخل الخليج وتركيا، الذين دعموا الجماعات المسلحة المتطرفة. لذلك تم تقريبا، في غضون سنوات قليلة، محو المعارضة من الخريطة السورية، حيث شهدت انقسامات وانظم بعض أعضائها لمختلف الحركات الجهادية.
في آب/أغسطس سنة 2013، اعتُبر تراجع أوباما بمثابة انتصار بالنسبة للنظام السوري، وذلك على الرغم من “الخط الأحمر” الذي تحدث عنه أوباما على إثر استعمال النظام للأسلحة الكيميائية، لكن سرعان ما تخلى الرئيس الأمريكي عن ذلك الالتزام.
ووفقا للمحلل والعقيد والمؤرخ ميشال غويا، فإن ذلك كان بداية “تشويه سمعة القوى الغربية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك على إثر الفجوة الواضحة بين ما يصرحون به ضد النظام وبين استعدادهم الحقيقي للقيام بشيء ما، ولو بطريقة غير مباشرة… فقد كانت الرسالة واضحة: الأميركيون (وبالتالي الأوروبيون) لن يخاطروا في سوريا”.
في نفس الوقت، كانت إيران الشيعية، الحليف الرئيسي لدمشق، تُواصل دعم النظام من خلال إرسال مستشارين عسكريين ومعدات، وأيضا من خلال التمويل ومشاركة جناحها العسكري اللبناني، حزب الله، في الحرب السورية. وفي السنة نفسها، أي في سنة 2013، كان ظهور تنظيم الدولة بمثابة إعادة خلط لموازين القوى الجيوسياسية، الأمر الذي جعل اهتمام الغرب ينصب بعيدا عن النظام السوري.
وبعد الهجمات الإرهابية التي جدت في باريس في نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 2015، قال وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان، جملة واحدة لخص بها نظرة الدبلوماسيين الغربيين، بما في ذلك وجهة نظر فرنسا، حيث قال إن “عدونا هو تنظيم الدولة، أما بشار الأسد، فهو عدو شعبه”.
بوتين لوحده القادر على قلب موازين القوى
كان التدخل العسكري الروسي في سوريا في أيلول/سبتمبر سنة 2015 بمثابة الفشل الاستراتيجي الحقيقي للحرب. ففي تلك الفترة، كان نظام الأسد وجيشه على وشك الانهيار. لذلك، فإن دخول القوات العسكرية الروسية أنقذ النظام السوري، ومنع الدفاع الجوي الروسي أي تدخلات من التحالف الغربي ضد النظام، الأمر الذي تحدث عنه مايكل غويا قائلا “لقد استخدمت روسيا الإستراتيجية الكلاسيكية “المشاة المتهورين” والتي تتعلق باحتلال مساحة على حين غرة وترك الولايات المتحدة (وفرنسا) عاجزين أمام الأمر الواقع”. وبالتالي يمكننا تلخيص النزاع السوري كما يلي “القوى الدولية تتحدث، دول الخليج وتركيا تساعد، وإيران وروسيا تتدخلان.”
إن الحرب هي عبارة عن صراع إرادات. ففلاديمير بوتين هو الوحيد الذي كان قادرا على قلب موازين القوى. وكانت إستراتيجيته عنيفة وساخرة في نفس الوقت: قصف للمدنيين: القضاء على المعارضين والمحافظة على مصالحه ومصالح النظام في سوريا. وفي الوقت ذاته، قام الأسد بما هو أسوأ من ذلك، حيث فتح السجون وأطلق سراح الجهاديين لكي يشاركوا في الحرب.
ما لم يكن متوقعا: دونالد ترامب
أصبح الغرب الآن أكثر عجزا أمام روسيا، التي أصبحت، في وقت قياسي، القائد العظيم للحرب السورية. وفي مواجهة هذه القوة النووية التي تحظى بعضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه لا يمكن للغرب فعل أي شيء سوى الاحتجاج. من جهة أخرى، ضمنت روسيا دعم تركيا خلال تنفيذها لسياساتها في سوريا. وتجدر الإشارة إلى أنه لطالما كانت تركيا المنافس الأكثر شراسة “للطاغية الأسد”. لكن بعد ضغط من روسيا، اضطر الأسد للتعايش مع تركيا.
وقد تمثلت المرحلة الأخيرة من “اللعبة” عندما تم خلال الشهر الماضي انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية الذي يعدّ رئيسا يتوافق مع كل من فلاديمير بوتين وبشار الأسد. وفي استغلال واضح للفراغ في السلطة الأمريكية في أعقاب الانتخابات الرئاسية، تكثفت الهجمات السورية والروسية ضد حلب، نظرا لأنه ليس باستطاعة إدارة أوباما، التي تستعد للرحيل، أن تعترض على وقوع مثل هذه الهجمات.
كما أن السيطرة على أكبر عدد من الأراضي السورية سيتيح لكل من موسكو ودمشق أن يكونا الطرف الأقوى في المفاوضات عندما تستأنف، لكن في حال عمدتا إلى مزيد بسط سيطرتهما، فإن ذلك سيكون بغاية فرض سياساتهما قبل أي تغيير محتمل في موقف دونالد ترامب، الذي عُرف عنه بأنه لا يمكن التنبؤ بآرائه حيث أن بإمكانه تغيير مواقفه تجاه سوريا بسبب مستشاريه العسكريين أو وزير خارجيته المستقبلي.
وعن بقاء الأسد في السلطة، قال مايكل غويا إن “بقاء بشار الأسد في السلطة لفترة طويلة بات مضمونا، إلا إذا حدث أمر غير متوقع … فهو رئيس لسوريا مدمرة، لكنه يبقى رئيسها”. نعم، رئيس، لكن بين أيدي روسيا التي تنذر بالسوء.
المصدر: لوفيغارو