الواضح أن قوات بشار الأسد المدعومة من الروس قد تمكنت من استعادة مدينة حلب الاستراتيجية، فيما انحصر تواجد المعارضة المسلحة داخل بعض الجيوب بشرق المنطقة.
لا شك أن هذه المعطيات الجديدة على أرض القتال تمثل نصرا للنظام السوري وحلفائه على المعارضة المسلحة والقوى الدولية والإقليمية التي تقف خلفها. لكن هذا الانتصار العسكري التكتيكي في الحقيقة مغمس بطعم الهزيمة المر، وربما يكون من يبدو فيه المنتصر مهزوما، للاعتبارات التالية:
أولا: إننا هنا إزاء حرب أهلية تتحرك فيها موازين القوى على الأرض بصورة تكاد تكون مستمرة. ما هو مؤكد هو أنه ليس بمقدور أي طرف أن يحسم المعركة لصالحه بصورة كاملة ونهائية، لأن لكلّ قوى إقليمية ودولية تقف خلفه على نحو أو آخر.
المشهد في سوريا أقرب ما يكون إلى الحرب بالوكالة. كما أن الانقسامات الطائفية والدينية التي تشق النسيج المجتمعي السوري تجعل من غير الممكن بالنسبة للحكم او المعارضة حسم الصراع بصورة قاطعة.
ففي الوقت الذي تلتف الأقليات العلوية والمسيحية والمجموعات الدينية حول نظام بشار الأسد، تبدو الأغلبية السنية الغاضبة أميل إلى المعارضة المسلحة، فضلا عن الجماعات الكردية وحساباتها الخاصة التي باتت تحظى برعاية دولية. مثلا اليوم والنظام السوري يحتفل باستعادة حلب يضطر للانسحاب من مدينة تدمر الأثرية التي سيطرت عليها مجموعات داعش الإرهابية مجددا قبل أيام.
ثانيا: أن تداخل الجغرافيا السياسية للمنطقة وترابط الأزمات، خصوصا بين سوريا والعراق المجاور والذي يعاني بدوره من حرب أهلية مدمرة، يجعل من الأزمة أشبه بالقوس المفتوح. كما أن دخول الجماعات الإرهابية المسلحة مستفيدة من مناخ الأزمة والانقسامات الطائفية والعرقية التي تعصف بسوريا والمشرق العربي عامة، مثل داعش والقاعدة وغيرها، يجعل من المستحيل السيطرة على الوضع من دون معالجة سياسية حقيقية تزيل أسباب الصراع والتوتر.
ولعل أهم الدروس المستخلصة من العراق نفسه الذي مازال يتخبط في دوامة الصراع السياسي المختلط بالمعطيات الطائفية والإثنية والتدخلات الخارجية منذ الاحتلال الأمريكي سنة 2003 أنه لا سبيل لحسم الصراع بقوة السلاح، فما أن تهدأ معركة حتى تتفجر أخرى في سلسلة دامية لا تنتهي.
لا شك أن ما جرى في سوريا هو ثورة تلقائية ناتجة عن الشعور بالضيم والقهر، بتأثير من الثورات العربية التي اندلعت في تونس، ثم مصر منذ بداية 2011. إلا أن دخول مجموعة من المعطيات إلى المعادلة قد حرف هذه الثورة عن مسارها وحولها إلى حرب أهلية بغيضة مفتوحة بسبب دخول معطى السلاح، بما حول النزاع من معركة حرية وحقوق وحريات الى صراع دموي مرير حول السيطرة والسلطة.
ثالثا، تعقيد النسيج المجتمعي السوري خلط الصراع السياسي بالمعطيات الطائفية والإثنية وبذلك انقلب من معركة شعب ثائر على الظلم ونظام الحزب الواحد، تواق للحرية والكرامة، إلى صراع علوي سني وعربي كردي وغيره.
إن الموقع الجغرافي الحساس لبلاد الشام وتداخل المصالح الدولية الكبرى قد أقحم الصراعات الإقليمية والدولية في معادلة التنازع الداخلي، مما تمخض عن نوع من الاصطفاف الإقليمي والدولي لكل طرف فيه حساباته الخاصة، من الروس والإيرانيين إلى الأتراك والأمريكان والخليجييين وغيرهم.
الحقيقة الواضحة وضوح الشمس هي أن هذه حرب لا أفق لها، ليس بمقدور أي طرف فيها ان يفرض حسمها لصالحه إلى الأبد. هذا يضع سوريا أمام احتمالين لا ثالث لهما:
إما التمادي في حرب أهلية لا أفق لها غير مزيد من الدمار وانهار الدماء وتشريد الأبرياء العزل، مما يعني عجز النظام عن كسر المعارضة المسلحة بصورة كاملة، مهما سجل من انتصارات عسكرية جزئية هنا وهناك، وعجز المعارضة المسلحة عن إسقاط الأسد والحلول محله.
هذا يبقي الأمور بين مد وجزر بين المعارضة والحكم إلى أمد بعيد، خاصة وان ثمة إرادة دولية وخصوصا أمريكية إسرائيلية لتمديد الصراع أكثر ما يمكن وجعل سوريا ساحة استنزاف مستمر لكل القوى، للعرب والإيرانيين والأتراك والروس وللنظام وخصومه على السواء.
أو أن تجنح القوى المتصارعة إلى السلم، والسلم خير بين أبناء الوطن الواحد، عبر بناء تسويات سياسية مقبولة ومعقولة تقوم على إعادة توزيع السلطة بصورة عادلة والدخول في مسار سياسي إصلاحي جدي في إطار الحفاظ على وحدة البلد وسيادته المهددين في الصميم، بعيدا عن منطق الغالب والمغلوب العبثي المدمر.
هذا الأمر يقتضي التحلي بالحكمة والبصيرة وقدر كبير من الجرأة والشجاعة من الجميع.
لا بطولات ولا انتصارات حقيقية في الصراعات الأهلية وبين أبناء الوطن الواحد. المؤكد أن النظام السوري وإن سجل بعض الانتصارات العسكرية لن يتمكن من اجتثاث خصومه بقوة السلاح، وأن المعارضة المسلحة لن تسقط نظام بشار الأسد، مع التحالفات القوية التي تمكن من نسجها.
الحل الوحيد المتاح هو عقد تسوية سياسية مقبولة ومعقولة تحظى بتوافق إقليمي تركي إيراني وخليجي، علّنا نحقن دماء السوريين الزكية المهرقة وننقذ ما يمكن إنقاذه من سوريا الحبيبة.