إذا ما تمحصنا مضمون دراسة مشروع إعلامي ما، ونظرنا بالتالي في موارده المالية والبشرية والتقنية، جهويًا كان، محليًا أو دوليًا، مكتوبًا أو مسموعًا أو مرئيًا، فإننا سنلاحظ سريعًا أن أيًا من هذه المشاريع لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن ترى النور وتكون قادرة على الفعل الإعلامي في ساحة الحبر والصورة دون موارد مالية هامة ولنقل ضخمة باعتبار التكاليف الباهظة لهذا النشاط، كما لمدى تعقيد آليات و”ميكانيزمات” الإنتاج الاتصالي والصحفي وتنوع الكفاءات المتداخلة فيها.
غرفة الأخبار في الـCNN
لقد تبلور ذلك شيئًا فشيء في الولايات المتحدة الأمريكية – مهد الإعلام وقلعته – إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث مثلت تلك الظرفية نقطة مفصلية في تاريخ الإعلام الحديث أين شهدت وضع أولى نظريات علوم الإعلام والاتصال باعتباره تخصص علمي مستقل بذاته وذلك بالتوازي مع انفجار كمي وكيفي هائل لوسائل الإعلام في دول الشمال خلال فترة الحرب الباردة والفترة التي سبقتها خاصة، وما تطلبه ذلك من رصد إمكانات مادية هائلة على ذمة المنتجين والصحفيين والاتصاليين في سبيل التأثير في الرأي العام حسبما تقتضيه التوجهات الكبرى للدول والتنظيمات آنذاك.
ومع تطور تكنولوجيات الاتصال والتقنيات الرقمية الحديثة بعدئذٍ رُسختْ هذه الفكرة أكثر فأكثر وأخذ الإعلام يتغلغل في دوائر الرأي العام المحلية والدولية وما فتئ يرسم أُطرها وخطوطها العريضة، وتعقدت عملية الإنتاج الإعلامي بدورها – نتيجة لذلك – فلم نعد نتحدث عن “أدب الإعلام” أو “الإعلام الكلاسيكي” الذي يضعه المثقفون والفلاسفة والقائم على إسقاط كم من المعلومات على المتلقي عموديًا دون الحاجة لتوضيبها، بقدر ما أصبحنا نتحدث عن صناعة إعلامية باعتبار التفاعلات اللامحدودة بين مختلف العناصر المكونة للعملية الاتصالية فيما بينها كما مع المتغيرات الخارجية.
مثلها مثل صناعة الميكانيك والصناعات البترولية والصناعات الصيدلية وصناعة النسيج، اعتمدت صناعة الإعلام على إيلاء عنصر التخصص الوظيفي في الإنتاج مكانة هامة، فلا يمكن الحديث عن مشروع إعلامي ناجح وقادر على المنافسة دون توفير موارد بشرية متخصصة في الصحافة والترجمة والتصوير والتصميم والتجميل والطباعة والنقل والتوضيب واللوجيستيك والهندسة والإعلامية والتسويق والاتصال والإشهار، هي في الواقع صناعة ثقيلة بل ثقيلة جدًا يُعتمد فيها على كل التخصصات من علوم وآداب وحرف أيضًا.
بناءً على ذلك يبرز هنا عامل الدعم المالي كركيزة أساسية لتنفيذ هذه الصناعة، حيث إنه ولتوفير حاجيات مشروع إعلامي ما وجب رصد أموال طائلة لأجل ذلك وإلا فلن يجد مكانًا في الساحة يتمكن بمقتضاه من ولوج دوائر الرأي العام، موارد مالية لن تكون حتمًا موجهة لتغطية أجور المتخصصين بل أيضًا لمجاراة القفزات المتتالية للتكنولوجيات الاتصالية الحديثة المرتفعة التكلفة في سبيل ضمان إنتاج تقني راق بما يتطلبه من تجهيزات متطورة وآلات رقمنة ضخمة وحواسيب حديثة وووحدات تخزين وآلات تصوير وإضاءة.
والأهم من ذلك كله تكامل كل هذه الموارد البشرية والتقنية وارتباط وظائفها ببعضها البعض لضمان منتج إعلامي متكامل يليق بالقرن الواحد والعشرين وقادر فعلاً على التأثير في الرأي العام وتوجيهه.
استوديو قناة الجزيرة الإنجليزية بالدوحة
لقد أصبحت صناعة الإعلام بذلك مرتكزة على العمل وفق نظام السلسلة، فالمنوعة التليفزيونية مثلاً لن تكون جاهزة للبث والمنافسة في سوق الإنتاج السمعي البصري دون الحاجة لمختص الديكور مثلاً أو لمدير التصوير أو للصحفي أو لمختص الحلاقة والتجميل أو لتقني البث أو مهندس البرمجيات، لذلك قلنا إنها صناعة، صناعة لا تضاهيها صناعة من حيث تنوع تخصصاتها وتكاملها فيما بينها وتكلفتها أيضًا.
لم نعد نتحدث هنا عن إعلام تقليدي بسيط يقوم بالأساس على وجود الفكرة قصد مجرد توثيقها بأية صيغة كانت ومن ثم بثها، بل على موارد متطورة متنوعة بشرية ومادية وتقنية تؤهل تلك الفكرة لترتقي إلى المستوى المطلوب شكلاً ومضمونًا حتى تلج إلى أذهان العامة وتحظى بثقتهم وتكوّن بالتالي رأيًا عامًا ما هو جزمًا نتاج صناعة ثقيلة اسمها الإعلام.