هل كان علينا ألا نحلم كي لا ننكسر؟ كان يجب علينا قراءة سيرة سعيد أبي النحس المتشائل لا بصفتها رواية بل بصفتها درسًا في التحليل النفسي.
ربما كان ذلك سيخفف علينا وجيعة التنازل عن فرح جاءنا على كبر فجددنا بعد موات، لكنه تسرب من بين أصابعنا بسرعة خاطفة، فنحن دون المتشائل بفراسخ.
هل كان يجب ألا نحلم أو أن نتحلى بواقعية أكبر تجنبًا للحالة الراهنة؟ وما الحالة الراهنة؟ ثورة مبصرة تم سمل عينيها فوقعت في حفرة وجرت معها الفرح الإنساني الذي توهمناه مستقبل أمة وشعوب.
عما سنكتب إذن إذا لم نكتب عن الفرح الثوري وعن المستقبل تحت رايات الحرية؟ سنتجنب حديث العجوز التي كلما لمع شيبها تذكرت ليلة زواجها.
هل الاستبداد الشرقي حقيقة؟
نحت في أذهاننا بإزميل فولاذي في كل دروس علم الاجتماع والتاريخ أن الشرقي لا يساس إلا بالعصا الغليظة، فبيئته السياسية هي بيئة استبدادية وهو كائن (دون المواطنة) يحب أن يجلد ليطيع، وسموا لنا ذلك بالاستبداد الشرقي، ثم اختصر الشرق في بلاد العرب فقط، حتى إنه تم إخراج آسيا من التصنيف الجغرافي الكلاسيكي، فهي لم تعد شرقًا بل آسيا المتنوعة.
عشنا نتعلم دحض هذه الأطروحة الاستشراقية القائمة على أيديولوجيا استعمارية برر بها الاحتلال لقرون طويلة، وكان الربيع العربي الرومانسي وسيلتنا وحجتنا للقول بصوت جهير إن العربي أهل للديمقراطية والحرية ويمكن أن يكسر التصنيف الاستعماري ويبني دولة الحريات.
يقولون بصوت جهير ماذا نفعل بالديمقراطية؟ إنها لا تجلب إلا البؤس، هل يوجد بؤس أشد من مثقف بائس يبرر للديكتاتورية فرحًا برؤية بشر بجواره يحرق بالنار حيًا؟
الانقلابات على الثورة في مصر وسوريا ثم في تونس وبتمويل وإسناد من أعتى الأنظمة الاستبدادية النفطية لم يكسر تفاؤلنا فقط، بل أعادنا إلى مناقشة حقيقة الاستبداد الشرقي وحقيقة هذا الكائن العربي الذي يجلده العسكري كل صباح، فيؤدي له التحية رغم شقائه في البحث عن الحد الأدنى المعيشي ككل خروف يقوم من مراحه الليلي ليأكل ويجتر.
نجد أعذارًا أو نصطنعها لفرد أمي لم يقرأ التاريخ في (تسليك) حياته بالصمت والخنوع، لكن ما عذر المثقف الذي يصفق للاستبداد؟ إننا نرى نخب الجامعات ومفكرين يفخرون بعدد كتبهم في المكتبات يفضلون العيش تحت انقلاب مدمر للحرية بما فيها الحريات الأكاديمية على معاناة بناء الحرية والديمقراطية، بل يقولون بصوت جهير ماذا نفعل بالديمقراطية؟ إنها لا تجلب إلا البؤس، هل يوجد بؤس أشد من مثقف بائس يبرر للديكتاتورية فرحًا برؤية بشر بجواره يحرق بالنار حيًا؟ مثقف لم يشارك في ثورة ولم يستبشر بها وأنكر معروفها وغدر بها قبل أن تغدر بها الطغم العسكرية.. أقف عاجزًا.
قرأنا كل نظريات الثورة ولم نفهم
العجز يتسع إلى أبعد من مواقف النخب والأكاديميا الرافض للتغيير، أنا من الجيل الثاني من الجامعة التونسية، تعلمنا عند الجيل المؤسس وقد صدقنا دروسه.
لقد علمونا الثورات وتواريخها ومجدوا إنجازاتها، وكانت أكثر العبارات على ألسنتهم هي تمجيد التغيير عبر الديمقراطية، لقد جعلوا من حنا أردنت نبية في الجامعة التونسية (من يدري ربما جرى الأمر نفسه في بقية الجامعات العربية)، لقد علمونا الثورات لكن الثورات في النظرية ليست الثورات على الأرض، ما كل من آمن بالثورات في الكراريس رغب في حدوثها في الواقع.
توجد تحت الأرض دولة غير الدولة التي نراها وعُلِّمنا الثورة عليها هنا تناقضت الأكاديميا (النظرية) مع معطيات الواقع غير المنظر في الكراريس.
هذا الاكتشاف المتأخر هو الدرس الحقيقي، ومن فقراته الصلبة أن الدولة الخفية (وهي تسمية تبدو لنا أبلغ من تعبير الدولة العميقة) صنعت نظامًا للمصالح والمكانات الاجتماعية جعلت من معلمي الثورة طبقة رجعية محافظة تعشق أحذية العسكر وتفضلها على الحرية.
ليفوزوا بالإبل سنواصل لعنهم
صارت الحكاية معروفة من فرط التداول، نصعد الربوة ونلعن الغزاة وهم يسوقون قطيع إبلنا ونواصل لعنهم، يسمعون اللعنات ويسوقون الإبل ساخرين نحن هنا الآن.
فقدنا الإبل/فقدنا الثورة ونسلق الدولة الخفية بألسنة حداد هذا وضع بلا مخارج، بل بوابة يأس وإحباط، فالكلام صار تعزية أو نوع من تبرئة الذات.
لا بد من الكفر بالسنن التاريخية التي حشيت بها كراريس كثيرة، كالقول إن الأجيال تعلم بعضها
نظام المصالح صغيرها وكبيرها نظام معقد (وهذا ليس اكتشافًا علميًا) لكن الاكتشاف هو عمق تأثيره في كل المستويات، حتى إننا نعجز عن تخيل كل العمق.
استحضر هنا على سبيل التدليل لا الحصر فئة رجال التعليم في تونس، ليس منهم إلا من يحدثك عن نهاية المدرسة التونسية وعن ضرورة تثوير النظام التعليمي ويقر الغالبية منهم أنهم كانوا لعبة في يد نقابات مسيسة معادية للثورة، لكن أكثرهم حديثًا في هذا الباب يواصل الخضوع للنقابة ويغلق فمه ويكسر قلمه دون كلمة واحدة في خطط الإصلاح وحيث قادته النقابة التي تعادي كل إصلاح اتبع خاضعًا كسائمة بشكيمة.
ويمكن توسيع القياس لبقية القطاعات إذ يقول الجميع النقابات فاسدة ثم يقفز في مقدمة رافعي مطالبها، هذه هي الدولة الخفية التي لم ترد في كراسات الثوريين، التظاهر بالثورية والخضوع لنظام المصالح صغيرها وكبيرها.
من سيقوم بالتغيير؟
التغيير قدر لكن الجيل الذي عاش الثورة وأظهر الحماس لم ينجز أي تغيير بل منع المؤمنين به من الفعل، نتحدث عن جيل كامل كان من أكثر الأقلام والعقول حديثًا عن الثورات، هذا الجيل ذاهب إلى حتفه بقانون التلاشي البيولوجي وهي مكرمة طبيعية، لكن هل يغير ذلك نظام المصالح أو الدولة الخفية؟
لا بد من الكفر بالسنن التاريخية التي حشيت بها كراريس كثيرة، كالقول إن الأجيال تعلم بعضها، هذا غش وتلبيس تحت مسمى سنن التاريخ، ليس لجيلي ما يعلمه لجيل قادم، بل الدرس الأفضل هو البدء بتوسيع القطيعة بين جيلين أحدهما أتيحت له الحرية فكفر بها وخانها وحاربها.
ونرى القطيعة تتسع إذ لا أظنني أكتشف كنزًا، الإعراض عن التحزب في تونس ونبذ السياسيين بكل أطروحاتهم والسعي وراء الهجرة ولو بالتخلي عن الأهل هو علامات قطيعة بناءة، بل إن حماس فئات كثيرة شابة بالخصوص للمنقلب (في تونس أو في مصر) هو حماس انتقامي من الجيل الفاشل، إنه كالتصويت العقابي في الانتخابات إنه فعل تاريخي متأن (يستثمر فيه المنقلبون الآن وهم جزء من الماضي يظن نفسه مخلدًا).
من سيقود البلد؟ هذا سؤال يطرحه جيلي الفاشل ليبقى به باب العودة السياسية مفتوحًا ويواصل دوره ويحفظ منافعه (ضمن الدولة الخفية)، لكن لنختم يكفي هذا الجيل الفاشل عارًا أن أخرجه من التاريخ والمستقبل شخص لا يحسن تركيب جملة عربية سليمة، فضلًا على جملة سياسية يبني عليها حكمًا للمستقبل.