بني النظام الإقليمي في المشرق العربي، بعد الحرب العالمية الأولى، على ثلاثة أعمدة رئيسية: سوريا، العراق، والوطن القومي اليهودي في فلسطين. تركيا، ما تبقى من السلطنة العثمانية، أفلتت من الاحتلال والخارطة التي رسمت لها بفعل تضحيات سنوات ثلاث من حرب الاستقلال. الكيانات الأخرى، الأردن ولبنان، كانت ثانوية؛ بمعنى أنها لم تكن مقصودة بذاتها، وإنما لتحقيق أهداف أخرى، تسهم في توكيد وتعزيز النظام الإقليمي الوليد، أو امتصاص واحتواء بعض تبعاته المتوقعة. خلال السنوات القليلة الماضية، ومنذ اندلاع رياح الثورة العربية في 2011، تعرض نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي، ودولته الوطنية، لتساؤلات كبرى، أثارت الشكوك حول قابليته للبقاء والاستمرار.
كانت فكرة الدولة الوطنية، أو القومية بالمصطلح الأوروبي، هي الركيزة التي استند إليها نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي، دولة العراق ولبنان والأردن وسوريا، وفيما بعد دولة إسرائيل؛ الدولة بمعنى الهوية الوطنية، ومؤسسة الحكم والإدارة المركزية، القادرة على فرض سيطرتها على أرضها وحدودها وشعبها. ولكن تبلور المشروع ونضجه لم يكن شأناً يسيراً ولا سريعاً، ولم يتحقق بصورة ناجزة بالفعل أبداً. سورية نفسها، كما تركيا قبل حرب الاستقلال، قصد بها عدة كيانات في البداية، وتطلب توحيدها في كيان واحد عدة سنوات من النضال الوطني.
ما يشهده المشرق الآن هو محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء: محاولة إعادة بناء الدولة الوطنية، وبناء النظام الإقليمي التقليدي، بالقوة الباطشة، المدمرة، ومهما كانت التكاليف
وقد واجه العراق تمرداً كردياً قومياً منذ اللحظة الأولى لولادته. ولأن الفكرة العربية كانت الوحيدة التي نافست الرابطة العثمانية خلال سنواتها الأخيرة، فقد عاشت الكيانات المشرقية الجديدة توتراً متفاوتاً بين مشروع الدولة الوطنية وحلم الوحدة العربية. ولكن الكيانات الجديدة استطاعت في النهاية، وعلى نحو أو آخر، تأسيس جذور واكتساب شرعية ما، كما وإقامة هوية وطنية، وإن شابها الكثير من الخدوش. بنى جيل بعد جيل من أبناء البيروقراطيات العسكرية والمدنية حياتهم الوظيفية داخل حدود الدول الجديدة، وبالتعرف على جغرافيتها وسكانها وحاجاتها المعيشية والاستراتيجية؛ ونشأ جيل بعد جيل من الطلاب على تقديس العلم والنشيد الوطنيين؛ وعملت وسائل الإعلام والمتاحف الوطنية على تشكيل وعي جمعي لدى الشعوب، ونسج سردية تاريخية تعود حتى إلى عصور ما قبل التاريخ.
بيد أن التناقضات الداخلية المتفاقمة في دول ما بعد الاستقلال الوطني والتوترات الموروثة في النظام الإقليمي سرعان ما وضعت مصير الدولة الوطنية والنظام الإقليمي، معاً، على المحك. خلال العقدين أو الثلاثة السابقة على اندلاع الثورات، شهد المشرق العربي سلسلة من الحروب المزلزلة، من الحرب الحرب الأهلية اللبناينة، الحرب العراقية ـ الإيرانية، حرب الكويت، إلى احتلال العراق؛ ومن الانتفاضتين الفلسطينيتين إلى الحروب الإسرائيلية على لبنان.
كما ضاقت القاعدة الاجتماعية للطبقات الحاكمة بصورة حثيثة، لتصبح مؤسسة الدولة في النهاية مجرد أداة لسيطرة أقليات صغيرة، من خلفيات مختلفة، على مقدرات الحكم والثروة. وهذا ما جعل الثورات العربية في المشرق ليس مجرد تعبيرات احتجاجية من أجل الكرامة والإصلاح السياسي والاقتصادي، بل وحراكاً شعبياً هائلاً لإعادة بناء الدولة والنظام الإقليمي، على السواء. وليس ثمة شك أن العنف الفادح، الذي نشرته الأقليات الحاكمة في مواجهة الحراك الشعبي، دفع هو، أيضاً، نحو الانهيار المتسارع لمؤسسة الدولة ومرجعياتها.
يدرك نظام دمشق أن وجوده واستمراره مدين للاحتلالين الإيراني والروسي، ومدين للاصطفاف الطائفي الإقليمي من حوله
تجلى هذا الانهيار في تشظي الدولتين العراقية والسورية، وفقدان مؤسسة الدولة المركزية السيطرة على الأرض والشعب؛ انتشار الميليشيات المسلحة مختلفة الولاءات والتوجهات والأهداف؛ تدخلات واحتلالات أجنبية ذات طابع إقليمي أو دولي، أو كليهما معاً؛ اختفاء خطوط الحدود والسيادة التقليدية كلية؛ والتراجع المتسارع في تماسك وفاعلية الهوية الوطنية لصالح انفجارات متعددة من الحروب الأهلية.
ما يشهده المشرق الآن هو محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء: محاولة إعادة بناء الدولة الوطنية، وبناء النظام الإقليمي التقليدي، بالقوة الباطشة، المدمرة، ومهما كانت التكاليف. ما لا تستطيع الأقليات الحاكمة رؤيته، أو ما لا تريد رؤيته، أن الانفجار الذي شهده المشرق منذ 2011 غير قابل للاحتواء، وأن خضوعها لإرادة القوى الأجنبية سيحد من قدرتها على بناء الهوية الوطنية من جديد؛ كما أن عجزها عن تقديم مشروع بديل عن دولة ما قبل الثورات ونظام الحرب الأولى الإقليمي يعني أن حلمها في استعادة السيطرة والتحكم لم يزل بعيد المنال.
تستطيع القوة الباطشة التي تملكها الأقليات الحاكمة إيقاع دمار هائل في مدن البلاد وبلداتها، وتعهد مجازر لم يعرفها العالم منذ عقود، ولكن ثمة شك كبير في قدرتها على إعادة الشعوب إلى بيوت الطاعة.
ليس ثمة ما يشير إلى أن المعركة ضد داعش في العراق قريبة من الحسم. ولكن حتى وإن حسمت هذه المعركة، في النهاية، فإن التحديات التي ينبغي على العراق مواجهتها، والسياسات التي تنتهجها حكومة بغداد، لا توحي بأن الدولة العراقية في طريقها إلى التعافي. بدلاً من العمل على تعزيز اللحمة الوطنية العراقية، سارعت حكومة بغداد مؤخراً إلى تقنين وجود الميليشيات المعروفة باسم الحشد الشعبي، التي باتت رمزاً للسيطرة الطائفية على الدولة ومقدراتها. وبدلاً من أن تعمل حكومة بغداد على توكيد استقلال البلاد الوطني، تسمح بوجود عدد من القوى الاجنبية في كافة أنحاء البلاد، وتكاد أن تخضع القرار العراقي كلية لمتطلبات إيران الاستراتيجية.
محاولات تقويض الوجود العربي السني في مناطق الأغلبية العربية السنية، لحماية المصالح الإيرانية الاستراتيجية، ومحاولة التدخل في شؤون الإقليم الكردي، لصناعة واقع سياسي في كردستان العراق أقرب إلى إيران وأكثر استجابة لضغوطها، لا تصب في صالح استقرار العراق وسيادته. ولدت داعش من قصر نظر المالكي والمجموعة الملتفة حوله، وظنها أن باستطاعتها فرض سيطرتها بقوة السلاح. وربما سيحمل المستقبل ما هو أسوأ من داعش، إن ظنت حكومة العبادي أن بإمكانها فرض سيطرتها بقدر أكبر من القوة المسلحة.
ولا يقل مستقبل سوريا ظلمة عن مستقبل العراق. يستعيد النظام السوري، بين وقت وآخر، السيطرة على هذه المدينة أو تلك، بعد أن فرض عليها الحصار، والموت، وجعل منها أطلالاً خربة. ولكن النظام الأقلوي في دمشق لا يريد أن يرى أن السيطرة على المقابر شيء، والسيطرة على المدن والشعوب شيء آخر مختلف تماماً. ثمة بحور من الدم والخوف والثارات وفقدان الثقة باتت تفصل نظام دمشق الفاشي عن السوريين، أغلب السوريين، حتى وإن استعادت قواته والميليشيات المساندة لها السيطرة على مضايا والمعضمية والزبداني وحلب.
ما يشهده المشرق الآن هو محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء: محاولة إعادة بناء الدولة الوطنية، وبناء النظام الإقليمي التقليدي، بالقوة الباطشة، المدمرة، ومهما كانت التكاليف
ويدرك نظام دمشق أن وجوده واستمراره مدين للاحتلالين الإيراني والروسي، ومدين للاصطفاف الطائفي الإقليمي من حوله، وأن عليه بالتالي الاستجابة لمصالح قوى الاحتلال ومطالبها. للمرة الأولى منذ استقلالها في أربعينات القرن الماضي، لم يعد باستطاعة نظام الحكم في سوريا تصنع التعبير عن الإرادة الوطنية، وعن استقلال البلاد وسيادة الدولة. ولا ينعكس هذا التراجع في فقدان سيطرة النظام على الأرض والشعب والحدود، وحسب، ولكن أيضاً، وبصورة أكثر بلاغة، في خضوع النظام لإرادة موسكو وطهران وميليشيات حزب الله الطائفية.
في لحظة التحول الحرجة، لم تبرز قوة قادرة، ومؤهلة لقيادة المشرق نحو دولة ونظام إقليمي جديدين، يستجيبان لإرادة الشعوب وطموحاتها. ولكن ذلك لا يعني أن بإمكان الأقليات الحاكمة التقليدية إعادة الأمور إلى ما كانت عليه. ليس ثمة شيء في هذه البلاد يمكن أن يعود إلى ما كان عليه.