ترجمة وتحرير نون بوست
لم تكن كل من الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية، على علم بمفاوضات السلام التي بدأت بين تركيا وروسيا بهدف تأمين المواطنين ووقف إطلاق النار في سوريا. ونفس الأمر بالنسبة للاتفاق المبرم بينهما حول تحقيق سبل أفضل لإجلاء المدنيين، بعد سيطرة قوات بشار الأسد على معظم المدن التي كانت تسيطر عليها المقاومة في حلب، يوم الثلاثاء الماضي.
ومن المرجح أن تشهد الساحة الدولية في الأيام القادمة، تراجعا بارزا للدور المحوري الذي كانت تلعبه أوروبا في المنطقة، إذ سيقتصر دورها على متابعة الوضع من بعيد، في حين ستتولى كل من روسيا وتركيا مسؤولية إدارة الوضع.
وعلى الرغم من أن عملية الإجلاء التي اتفق عليها الطرفان، كانت مقررة في الساعة الخامس من صباح يوم الأربعاء، إلا أنها ألغيت جراء اندلاع مناوشات بين الأطراف المتنازعة في سوريا. ونتيجة لذلك، سارعت المعارضة وقوات الأسد المدعومة من روسيا، لإلقاء اللوم على بعضها البعض، في حين استمرت المحادثات بين تركيا وروسيا لإيجاد حل لمعضلة حلب. وفي ظل استمرار المداولات، أُقصيت الدول الغربية من دائرة الحوار المتعلقة بالقضية السورية.
وصرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، صباح يوم الأربعاء، “ألا فائدة من الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن المفاوضات مع تركيا ستكون “أكثر فاعلية” مقارنة بخسارة أشهر من المحادثات العقيمة مع الولايات المتحدة الأمريكية”.
تعكس هذه الأحداث، النتائج التي يجب أن تتحمل تبعاتها القوى الغربية، كلما تجنبت المشاركة في القتال ورفضت الجلوس على طاولة المفاوضات
بينما ركزت الصحف الغربية كل اهتمامها على مناقشة حيثيات جملة من “التغريدات الرهيبة” -على حد تعبيرها- التي نشرتنها المعارضة السورية في حلب باللغة الإنجليزية. وفي المقابل، كانتا روسيا وتركيا تخوضان محدثات مع المعارضة السورية والمقاتلين التابعين لبشار الأسد، بهدف وضع حد للمعركة.
وقد أبرمت هذه الأطراف اتفاقا، تضمن خطة انسحاب للمعارضة، وهو ما من شأن أن يجنب المدنيين المزيد من إراقة الدماء. وستكون هذه الخطة بمثابة الورقة الرابحة بالنسبة لأنقرة وروسيا، حتى يلمّعا صورتيهما أمام العالم، ويظهرا على أنهما صانعا سلام ومدافعان عن الإنسانية، بدلا من السمعة السيئة التي اكتسباها كصانعي حكام مستبدين.
صرح وزير الخارجية الأمريكي، جون كيريي، عندما سئل ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية على دراية بأن أحد حلفائها –في إشارة إلى تركيا- دخل في محادثات مع روسيا؛ أن “الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك أي فكرة عن هذه المحدثات”. ونفى أن تكون لدى بلاده أي مؤشرات تدل على وجود بوادر مفاوضات ثنائية للتوصل لمثل هذا الاتفاق.
وفي الإطار نفسه، قالت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور: “ليس لدينا أي معرفة مسبقة حول مثل هذا الاتفاق”. ونظرا لتصريحات باور، يبدو أن الولايات المتحدة تجهل تفاصيل الاتفاق بين روسيا وتركيا، في الوقت الذي كانت فيه سامانثا نفسها تلقي خطابا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، انتقدت فيه نظام الأسد وسوريا وإيران، متهمة إياهم بالمساهمة في “عقد حبل المشنقة حول رقاب المدنيين السوريين”. كما اغتنمت الفرصة لتوجيه السؤال التالي لهم “هل أنتم حقا غير قادرين على الشعور بالخزي والعار؟”.
وخلال مؤتمر صحفي في برلين بعد ظهر يوم الثلاثاء، أعرب كل من المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، عن استنكارهما للوضع “الكارثي” والمفجع في حلب. ومن الواضح أن كلاهما لم يكن قد تفطن للاتفاق الذي جمع بين روسيا وتركيا، إذ واصلا انتقادهما اللاذع لروسيا بسبب عرقلتها لمحدثات السلام حول القضية السورية.
إذا تمكنت موسكو وأنقرة من الاتفاق حول سبل التعامل مع التهديد المشترك الذي يمثله تنظيم الدولة لكليهما، سيكون كلاهما في موقف يسمح لهما بالتفاوض حول تسوية مناسبة خلال فترة ما بعد الحرب، مع مختلف الأطراف السورية
وفي مساء نفس اليوم، قامت ميركل بإجراء محادثة هاتفية مع نظيرها الروسي إلى جانب فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية الألماني لمناقشة العديد من القضايا وعلى رأسها القضية السورية. وخلال ذلك الوقت، تم الإعلان عن التوصل لاتفاق بين روسيا وتركيا. وفي محاولة لفهم حقيقة الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي، فلاديميير بوتين وميركل، صرّح الكرملين أنه “تم الاتفاق على تكثيف الاتصالات وتطوير العلاقات الثنائية”، في إشارة مبطنة لاستياء، ميركل، من عدم إعلامها حول المستجدات الأخيرة.
وتعكس هذه الأحداث، النتائج التي يجب أن تتحمل تبعاتها القوى الغربية، كلما تجنبت المشاركة في القتال ورفضت الجلوس على طاولة المفاوضات. والجدير بالذكر أن التدخل الأمريكي والأوروبي لم يحقق أي إنجازات تذكر لمساعدة المدنيين في حلب. وسيكون هذا التقصير الأمريكي والأوروبي تجاه الكارثة الإنسانية في حلب، بمثابة وصمة عار في تاريخهما، بالتوازي مع عمليات القتل والتشريد التي نفذها نظام الأسد دون رحمة في حق الآلاف من المواطنين العزل.
وفي المقابل، ظهر على الساحة لاعبون حقيقيون، أبدوا استعدادهم للقتال أو التفاوض حول القضية السورية واتخذوا خطوات جريئة نحو إيجاد حل للمشكلة بعيدا عن وصاية الدول الغربية.
وفي الواقع، حتى وإن تقاربت مصالح روسيا وتركيا، إلا أن كلا الطرفين له أهداف مختلفة في سوريا. فبينما اتخذ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، موقفا معاديا من الرئيس بشار الأسد، تمسك فلاديمير بوتين بالتحالف معه.
وعموما، فإن مخاوف الرئيس التركي تحوم بالتحديد حول مشكلة الأكراد على الحدود التركية، والتي تمثل على حد تعبير أردوغان، مصدر تهديد لاستقرار الوضع على الحدود. وخلافا للموقف التركي، فقد أبدى الرئيس الروسي دعمه للأكراد من خلال حرصه على وجود ممثلين عنهم في أي محادثات الحوار بشأن مستقبل سوريا.
ومن الواضح أن العلاقات الروسية التركية شهدت تأزما حادا خلال العام الماضي، نتيجة لاستهداف القوات الجوية التركية لطائرة حربية روسية وإسقاطها بعد أن اقتحمت المجال الجوي التركي. وقد أشعلت هذه الحادثة المواجهات بين بوتين وأردوغان وتواصلت القطيعة لعدة أشهر، قبل إعلان الرئيس الروسي عن دعمه للرئيس التركي في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة.
إن تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، ستكون له نتائج سلبية في المنطقة بأكملها، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للإدارة القادمة للرئيس المنتخب
وفيما يخص الوضع في سوريا والخلاف بين روسيا وتركيا على أرض المعركة، فقد وضح المحلل والخبير التركي، ديفيد بارشارد، في تقرير نشره مؤخرا في موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، “ألا وجود لحل واضح للفوارق الإستراتيجية بين روسيا وتركيا في سوريا، في حين تبقى إمكانية لجوء الطرفين لحل يقضي بتقسيم سوريا إلى مناطق سيادة؛ بين “منطقة روسية”، “وأخرى تركية”، قائمة مثلما حدث خلال الحرب العالمية الأولى حين قامت روسيا والمملكة المتحدة بتقسيم إيران إلى مناطق نفوذ مشترك بينهما”.
ومن المتوقع أن تتجه الأزمة السورية نحو هذا الحل عملا بنموذج “اللعبة الكبرى” خلال الحرب العالمية الأولى، رغم وجود تغير طفيف في أطراف النزاع مقارنة بالصراع السوري. ويتعاون كل من بوتين وأردوغان في سوريا من خلال التواصل بينهما حول الخطوات الفعلية على أرض المعركة، في حين واصلا تجاهل الدول الغربية في هذه المحادثات.
وقد أثبتت التحركات الروسية الأخيرة أن التفاوض الروسي الأمريكي حول وقف لإطلاق النار في حلب طيلة الفترة الماضية، كان بمثابة غطاء للعمليات التي تقوم بها في سوريا كانت تهدف لتحقيق هدف واحد؛ ألا وهو ضمان نصر عسكري لنظام الأسد.
كما أن أكثر ما يثير قلق الولايات المتحدة الأمريكية، هو التزام تركيا بالسرية حول المداولات التي جمعتها بروسيا، ولكن ربما قد لا يكون تحفظ تركيا مفاجئا.
وتعتبر تركيا العضو الوحيد في منظمة حلف شمال الأطلسي الذي قرر التدخل عسكريا في سوريا وتركيز قواتها في المنطقة خلال عملية أطلقت عليها اسم “درع الفرات”. وبالإضافة إلى ذلك فإن، تركيا قادرة دون أي مساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية، على تحقيق مكاسب عسكرية بفضل القدرات الحربية التي تملكها. وبالنسبة لأنقرة، فإن رضوخ روسيا لطلباتها هو أكثر أهمية من دعم حلفائها لها في حلف شمال الأطلسي.
وعلاوة على كل ذلك، إذا تمكنت موسكو وأنقرة من الاتفاق حول سبل التعامل مع التهديد المشترك الذي يمثله تنظيم الدولة لكليهما، سيكون كلاهما في موقف يسمح لهما بالتفاوض حول تسوية مناسبة خلال فترة ما بعد الحرب، مع مختلف الأطراف السورية.
وفي السياق ذاته، تحتاج كل من روسيا وتركيا إلى تقسيم عادل للمسؤوليات في مجال الحرب المشتركة ضد تنظيم الدولة. ولكن يصعب جدا تحقيق ذلك على أرض المعركة. ويمكن تفسير ذلك من خلال التعمق في فهم الصدام في مناطق النفوذ التي يسيطر عليها كلا الطرفان؛ إذ أن القوات التركية قد كثفت تحركاتها لمحاربة تنظيم الدولة في المناطق المجاورة لحلب على غرار منطقة الباب، والتي تطوقها القوات التركية تمهيدا لسقوطها قريبا وانسحاب المتشددين منها. وفي المقابل، تعتبر هذه المنطقة حساسة جدا بالنسبة لقوات النظام، ولكن نشاط تركيا في المنطقة لم يثر حفيظة روسيا، بل إنها تبدو راضية عن ذلك تماما، طالما حافظت تركيا على قواتها خارج مدينة حلب.
“ألا فائدة من الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن المفاوضات مع تركيا ستكون “أكثر فاعلية” مقارنة بخسارة أشهر من المحادثات العقيمة مع الولايات المتحدة الأمريكية”
سيرجي لافروف
وعلى الرغم من الهجمات المستمرة للقوات التركية ضد تنظيم الدولة، فإن روسيا لم تشارك في أي تحركات بارزة وفعلية ضد التنظيم في الآونة الأخيرة، بل ركزت قواتها الحربية في حلب، حتى أنها اضطرت مؤخرا لسحب حامية قتالية صغيرة من مدينة تدمر، التي كانت أبرز المواقع الرمزية التي شهدت على نصر روسيا ضد التنظيم في وقت سابق من هذا العام.
نأت الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها من المشهد السوري، في الفترة الأخيرة، من خلال رفضها تحمل مخاطر دعمها العسكري للطرف الأضعف في الحرب الدائرة في سوريا. كما تركت المعارضة السورية في موقف لا يحسد عليه مع تواصل القصف المكثف ضدها، ما اضطرها لمغادرة حلب في ظل استمرار حاجتها للمساعدات التركية، لتتمكن من الدفاع عن مناطق أخرى.
أثبت تباين مواقف الولايات المتحدة للجميع فشل خيار التعويل على واشنطن للحصول على المساعدة أو تقديم أي حلول مفيدة رغم تأزم الوضع في المنطقة.
وفي السياق نفسه، شهدت السياسة الخارجية الأمريكية انتكاسة كبيرة، مع تفاقم الأزمة الإنسانية في حلب ومواصلة نظام الأسد عملياته التوسعية في العديد من المناطق وتقدمه على المعارضة. كما أن تطور العلاقات الروسية التركية في سوريا شكل نقطة تحول كبيرة بالنسبة لدور واشنطن في الحرب السورية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، ستكون له نتائج سلبية في المنطقة بأكملها، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للإدارة القادمة للرئيس المنتخب، دونالد ترامب. وستضع هذه الإستراتيجية الرئيس الأمريكي الجديد أمام خيار صعب؛ إما القبول بلعب دور ثانوي في المنطقة أو استعراض عضلاته من خلال منع روسيا وتركيا من تقاسم مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.
المصدر: بلومبيرج فيو