يعود التأزم في العلاقات الجزائرية – المغربية إلى الفترة المباشرة بعد استقلال البلدين في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، ويخضع ذلك لتفسيرات عديدة، فمنها من يربط هذا التأزم بدور العامل الخارجي وخاصة ما تعلق بالقوة الفرنسية المستعمرة، أما وجهة النظر الثانية فتفسر ذلك من الناحية الأيدلوجية حيث أصرت السياسة الخارجية الجزائرية على الاندماج في الأيدلوجية القومية العربية بينما كان للمغرب تحفظات تجاه ذلك الاتجاه الأيدلوجي، في حين تنصرف وجهة نظر أخرى إلى أن تأزم العلاقات الجزائرية – المغربية هو استمرار لمخلفات الفترة الاستعمارية وتحديدًا ما تعلق بضبط الحدود بين البلدين، وعلى الرغم من تعدد التفسيرات فإن الثابت أن العلاقات الجزائرية – المغربية يمكن أن توصف في الحد الأدنى بالعلاقات المتأزمة أما في الحد الأعلى فيمكن المجازفة بوصفها علاقة عداوة مزمنة.
بوتفليقة ومحمد السادس في الجزائر في آذار 2005
إن تشكل إحساس العداوة بين الدولتين وخاصة من طرف المملكة المغربية احتاج إلى توظيف آليات معينة في إدارة هذه العلاقات المتأزمة، حيث غامر المغرب بتوظيف القوة العسكرية فيما يسمى تاريخيًا بحرب الرمال سنة 1963 والتي انتهت بفشل ذريع للمغرب في تحقيق أهدافه من خلال استخدام القوة العسكرية، ومنذ ذلك التاريخ صار المغرب يستند إلى أدوات غير عسكرية في إدارة العلاقات مع الجزائر، وقد ساهم في ذلك ازدياد الاختلال في ميزان القوة العسكرية بين الدولتين لصالح الدولة الجزائرية بالشكل الذي يجعل استخدام المغرب للقوة العسكرية مجازفة غير محسوبة العواقب.
لكن التطورات التي حدثت في قيمة العامل العسكري في ممارسة السلوك العدواني بين الدول وفرت الفرصة للمغرب لممارسة هذا السلوك من دون استخدام القوة العسكرية وتحديدًا من خلال ما أصبح متعارفًا عليه في الدراسات الاستراتيجية بحروب الجيل الخامس، حيث تطورت الحرب عبر أجيال أربع سابقة كلها توظف القوة العسكرية مع الاختلاف في كيفية توظيفها في إدارة الحروب وليس في استخدامها في حد ذاتها، حيث تبلور هذا النوع من الحروب نتيجة مجموعة من التحولات في العلاقات الدولية.
ويدور المحور الأساسي لهذا المقال عن طبيعة استخدام المغرب لحروب الجيل الخامس، أي تحديد مستويات وآليات توظيف المغرب لهذا النوع من الحروب في ممارسة السلوك العدواني تجاه الجزائر، وعلى الرغم من أن توظيف هذه الاستراتيجية لم يحقق أهدافه بالنسبة للطرف المغربي إلى غاية الوقت الراهن فإن ذلك لا يغني عن محاولة فهم هذه الاستراتيجية والاستعداد لها.
أولاً: حروب الجيل الخامس: المفهوم وأسباب النشأة
حروب الجيل الخامس هي أحدث ما أنتجه الفكر الاستراتجي في ممارسة السلوك العدواني بين الدول وهي من باب التعريف الحروب التي تسعى إلى تدمير الدول من الداخل من خلال استغلال التناقضات الموجودة داخلها وإحداث خلل بنيوي في العلاقة بين المجتمع والدولة بالشكل الذي يفرز دوامة عنف مستديمة، أما لماذا ظهر هذا النوع من الحروب فذلك مرتبط بالعوامل التالية:
1- ارتفاع تكلفة استخدام القوة العسكرية: فكل الأجيال السابقة لتطور ظاهرة الحرب وعلى الرغم من اختلافها عن بعضها البعض فهي تشترك في استخدام القوة العسكرية، أما حروب الجيل الخامس فتعتمد على ممارسة أقصى درجات السلوك العدواني بين الدول دون اللجوء إلى استخدام الوسائل العسكرية وذلك نظرًا لارتفاع تكلفة استخدام هذه الوسيلة من زاوية إيجاد التوازن بين خوض الحروب والموارد الاقتصادية اللازمة لذلك، فإذا كان الفكر الاستراتيجي الأمريكي وهو المنسوب إلى الدولة الأكثر تطورًا اقتصاديًا في العالم أي الولايات المتحدة قد اضطر إلى إنتاج مفهوم الحرب الأقل تكلفة فما بالك بالدول الأقل تطورًا.
2- تطور وسائل الإعلام: إذ تعتبر وسائل الإعلام من أهم الوسائل المستخدمة في حروب الجيل الخامس وذلك مرتبط بتحول أعمق يعبر عنه بالتحول من المجال الجيواستراتجي التقليدي إلى ما أصبح يسمى اليوم بالجيوميديا والتي تشير إلى استخدام وسائل الإعلام في إدارة التفاعلات الاستراتيجية بين الدول، وتستخدم حروب الجيل الخامس وسائل الإعلام في صناعة رأي عام مناهض للسلطة الحاكمة في الدولة الهدف من خلال ممارسة أقصى درجات التوجيه على التناول الإعلامي للمشكلات الموجودة داخل تلك الدولة وذلك يستهدف إضعاف قدرة الدولة على التحكم في هذه المشكلات بالشكل الذي يؤثر على القضية الأصلية المتعلقة بضبط العلاقة بين المجتمع والدولة.
3- تطور دور الكيانات من غير الدول: فأحد المعطيات الجديدة التي أفرزتها حروب الجيل الخامس هي الانتقال من مفهوم التحالفات التقليدي إلى مفهوم التشبيك وهذا الأخير يشير إلى قدرة الدولة على توظيف شبكة من العلاقات مع عدد كبير من الكيانات من غير الدول في شكل تنظيمات أو أفراد لممارسة السلوك العدواني تجاه بعضها البعض وذلك استغلالاً للتطور الكبير في دور هذه الكيانات في واقع العلاقات الدولية.
ثانيًا: صورة العدو.. كيف ينظر المغرب إلى الجزائر؟
إن الطابع الغالب على العلاقات بين الجزائر والمغرب هو العلاقات المتأزمة ومع ذلك فإن هذه العلاقات في الوقت الراهن تعتبر في أسوأ مراحلها على الرغم من الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات في الإطار الرسمي، أما حقيقتها فتشير إلى تشكل صورة العدو، والصور هي انطباعات ثابتة تكونها الدولة عن الدول الأخرى، وتعتبر من أهم المحددات في فهم السياسة الخارجية للدول تجاه بعضها البعض، فالولايات المتحدة على سبيل المثال تقسم دول العالم وفقًا لخمس صور أساسية: صورة الدول الحليفة، صورة الدول العدوة، صورة الدول المعتمدة على الولايات المتحدة، صورة الدول المعتمدة على الأعداء، صورة الدول المحايدة.
حتى وإن كانت العلاقات بين الدول قد تعقدت إلى درجة أصبح معها إحداث تمايز دقيق في صور الدول عن بعضها البعض مسألة صعبة، ففيما يتعلق تحديدًا بصورة العدو والصديق، أصبح هناك انتشار واسع لصورة مركبة وهي صورة الأعدقاء، والتي أصبحت أكثر انتشارًا في العلاقات الدولية الراهنة، حتى إن البعض صار يعتبرها النمط الأكثر انتشارًا، وبالعودة إلى صورة العدو فإن هناك طريقتين يمكن من خلالهما التأكد من وجود هذه الصورة في العلاقات بين الدول: أما الاستراتيجية الأولى فهي استراتيجية “الخفض التدرجي المتبادل للتوتر” وهذه الاستراتيجية تقوم على افتراض أن صورة العدو مرتبطة بعنصر الخوف، فإذا ما تم تبني سلوكات تتجنب التصعيد فإن ذلك يقلل من عنصر الخوف عن الطرف الآخر وبالتالي سيندمج في سلوك مشابه وإذا ما طبقت هذه الاستراتيجية فإننا أمام احتمالين: إما ترسخ صورة العدو وبالتالي سهولة توقع السلوكات العدائية، وإما احتمال النجاح وبالتالي تغير صورة العدو إلى صورة العلاقات العادية.
أما الاستراتيجية الثانية فهي استراتيجية تفجير الصراعات الهامشية ومضمونها إقدام أحد الأطراف على فتح صراع هامشي لا يتعلق بالقضية المركزية للصراع وهنا نجد أنفسنا أمام احتمالين فإما أن الطرف الآخر يقرر خوض هذه الصراعات الهامشية وهنا يتم التأكد من ترسخ صورة العدو على اعتبار إصرار الطرف الآخر على خوض الصراع حتى في القضايا الهامشية، وإما أن الطرف الآخر يقرر عدم خوض هذه الصراعات وبالتالي التأكد من عدم ترسخ هذه الصورة.
ومن الملاحظ أن كلا الاستراتجيتين قد تم تطبيقهما في العلاقات الجزائرية المغربية وثبت من خلالها أن صورة العدو مترسخة في هذه العلاقات وخاصة من الجانب المغربي، أما لماذا يعادي المغرب الجزائر فذلك مرتبط بالاعتبارات التالية:
1- يعتبر المغرب أن النشاط الدبلوماسي الجزائري هو أكثر ما يضعف الموقف المغربي تجاه القضية الصحراوية والتي يراها النظام الملكي المغربي قضية داخلية بامتياز لها علاقة بالوحدة الترابية المغربية بل الأكثر من ذلك لها علاقة بالطابع الملكي لنظام الحكم، وقد اعتبرها الوزير الأول المغربي عبد الإله بن كيران في آخر تصريحاته بأنها قضية موت أو حياة بالنسبة للمغرب، ويصر المغرب على أن الجزائر هي الطرف الأساسي في النزاع بشأن الصحراء الغربية وليست جبهة البوليساريو، بالإضافة إلى أن كل ما تحقق للجمهورية الصحراوية من اعتراف سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي هو نتاج مباشر لنشاط للدبلوماسية الجزائرية.
2- يرى المغرب أن الجزائر تسعى إلى تهميشه استراتيجيًا في منطقة المغرب العربي من حيث إن الموقف الجزائري من القضية الصحراوية ليس موقفًا مبدئيًا يتعلق بدعم الجزائر للقضايا التحررية واستمرارًا لصورة “قلعة الثوار” التي تشكلت للجزائر في سياستها الخارجية تاريخيًا، ولكنه موقف مصلحي يتعلق بخوف الجزائر من استغلال المغرب للإمكانيات الاقتصادية الموجودة في إقليم الصحراء الغربية والذي يسمح للمغرب من استقطاب أولويات القوى الكبرى وبالتالي سيؤدي ذلك إلى التهميش الاستراتيجي للجزائر.
ومن الملفت للانتباه أن الدبلوماسية المغربية لم تستطع ضمان دعم ثابت من طرف القوى الكبرى في موقفها من الصحراء الغربية وتأتي الزيارة الأخيرة للعاهل المغربي إلى موسكو من أجل ضمان هذا الدعم على خلفية فقدان الأمل في مواقف القوى الكبرى الغربية، وكذلك بالاتكال على الحساسية المفرطة لروسيا الاتحادية تجاه النزعات الانفصالية وتماشيًا مع العودة القوية لروسيا على الساحة الدولية.
3- يعتبر المغرب أن الجزائر تعطل الكثير من الفرص الاقتصادية له إما من خلال التحكم في الإمدادات الطاقوية، أو من خلال التأثير على القطاع السياحي الذي يعتبر بالإضافة إلى القطاع الزارعي عصب الاقتصاد المغربي ، حيث يكرر المغرب في خطابه الرسمي معاناته المستمرة من مسألة غلق الحدود والتي تعتمدها الجزائر لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي، ويصل ذلك إلى درجة اتسام الخطاب الرسمي المغربي بالسذاجة من خلال اعتباره أن غلق الحدود متعلق بخوف نظام الحكم من ردود فعل الشعب الجزائري إذا أتيح لهذا الأخير التنقل بحرية إلى المغرب والتوقف عند مستوى التطور الذي بلغه هذا الأخير!
ثالثًا: عناصر الاستراتيجية المغربية تجاه الجزائر
إن مقاييس القوة التقليدية لا تسمح للمغرب بممارسة السلوك العدواني تجاه الجزائر والمرتبطة بتوظيف القوة العسكرية، ولذلك فإن المغرب يوظف حروب الجيل الخامس كاستراتيجية رئيسية في إدارة عداوته تجاه الجزائر ويظهر ذلك على أكثر من مستوى:
أ- على المستوى الإعلامي: يستغل المغرب بعض القنوات الإعلامية لصناعة رأي عام جزائري مناهض للسلطة الحاكمة في الجزائر من خلال توجيه التناول الإعلامي للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الواقع الجزائري، ورغم ضرورة الاعتراف أن كل هذه المجالات تعرف اختلالات معينة فإن التناول الإعلامي لها يبدو في غاية التوجيه بالشكل الذي يصنع رأيًا عامًا مناهضًا للسلطة الحاكمة.
ب- على المستوى الاجتماعي: يعمل المغرب على استغلال بعض التناقضات الاجتماعية الموجودة في المجتمع الجزائري كالاختلافات المذهبية ويضاف إلى ذلك محاولة استهداف النسيج الاجتماعي الجزائري من خلال كمية المخدرات المعتبرة التي يتم إغراق الدولة الجزائرية بها والخبراء في هذا المجال يؤكدون أن هذه الكميات أكبر بكثير من أن تستوعبها دولة واحدة وهذا أكبر دليل على أن النشاط في هذا المجال لا يتعلق بالطابع التجاري لعصابات مافوياوية مختصة في هذا المجال ولكنه يتعلق بجهد منظم تمارسه الدولة المغربية التي تعتبر من أكبر الدول إنتاجًا للمخدرات في العالم.
ج- على المستوى الأمني: مثلما ذكرت سابقًا فان إحدى المعطيات الجديدة التي أفرزتها حروب الجيل الخامس تتعلق باستبدال العلاقات التحالفية بالعلاقات التشابكية، حيث أصبحت الدول في ممارستها للسلوك العدواني لا تلجأ إلى تشكيل تحالفات بالمعنى التقليدي فقط ولكن إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع ما تسمى الفواعل غير الرسمية التي يمكن استخدامها تجاه الدولة الهدف، وتشير الكثير من التقارير الأمنية إلى أن جهاز المخابرات المغربي استطاع اختراق العديد من التنظيمات الناشطة في منطقة الساحل الإفريقي وتوظيفها لاستهداف الأمن القومي الجزائري.
د- على المستوى الدبلوماسي : يسعى المغرب إلى خلق نوع من العزلة الإقليمية على الجزائر، فالمغرب تصدر المشهد في تسوية النزاع الليبي من خلال اتفاق الصخيرات رغم أن المغرب ليس دولة حدودية مع ليبيا وتأثره بانتشار النزاع أقل بكثير من تأثر الجزائر، والحقيقة أن الهدف من هذا التوجه المغربي يهدف إلى كسب ثقة السلطة الحاكمة الجديدة في ليبيا والتي ستباشر الانفتاح على العالم الخارجي بعد فترة العزلة والانكباب على المشكلات الداخلية، بالإضافة إلى وقوف المغرب وراء إثارة أزمة دبلوماسية بين الجزائر وموريتانيا، كما يعمل المغرب على النفخ في الموضوع الخلافي بين الجزائر وتونس والمتعلق بالقاعدة العسكرية الأمريكية على الحدود الجزائرية التونسية والتي ترفض الجزائر إقامتها، كما يقوم المغرب في المرحلة الحالية باستهداف العمق الإفريقي للدولة الجزائرية.