في البداية كانت الفتوحات الإسلامية في مختلف أرجاء المعمورة، منذ عهد الخلافة الراشدة إلى نهاية عهد سليمان القانوني والخلافة العثمانية نهاية القرن السابع عشر، ثم جهاد الدفع متمثلاً في جهاد الهجمات الاستعمارية، ثم السقوط في براثن الاحتلال، ومن ثَمَّ مقاومة الاحتلال بصور مختلفة وفي مقدمتها المقاومة بالسلاح، ثم سلسلة حروب التحرر وثورات التحرر من الاستعمار.
هكذا أسموها كذبًا وزورًا “التحرر من الاستعمار”، وفي حقيقة الأمر هي عملية انتقال من استعمار خشن إلى آخر ناعم، على حد تعبير المستعمر: يجب أن يكون العقل والفكر والتوجيه منا، والسوط يكون بأيديهم، أو بتعبير آخر: لا بد من أن تبقى الحكومات واجهة بيننا وبين الشعوب، حتى نتجنب المواجهة والمساءلة.
وهكذا كان التحرر من الاستعمار وجاءت أنظمة مستبدة بصور شتى من عسكرية خالصة إلى عسكرية بصورة ملكية أو عسكرية بصبغة مدنية.
ومن هنا كانت الخدعة الكبرى، فكيف تقوم بإعلان الجهاد أو تفكر في مقاومة هذه الأنظمة بالسلاح أو تطالب بالثورات أو التحرر، وهم من بنو جلدتك؟!
وهكذا، وباختصار شديد، تم صياغة العديد من المصطلحات لمواجهة مقاومي الكفر والظلم والاستبداد والطغيان، كان من آخرها “الحرب على الإرهاب”.
وفي خلال هذه المراحل وبطولها تم اختزال مسمى الجهاد حتى صار ثقافة شبه منقرضة، واسم يحمل في طياته إيحاءات تثير التوجس والريبة والتهمة لا أقول في نفوس الكافرين بل وبكل أسف في نفوس المسلمين بل وطائفة من المؤمنين.
وهكذا أيضًا تم استباحة الشعوب والأمم والمجتمعات ليس فقط على أيدي هذه الأنظمة المستبدة القائمة بمهام الاستعمار، وهم من بني جلدتنا، بل انفسح المجال على آخره للأعداء بشتى صورهم إلى استباحة بلاد المسلمين شرقًا وغربًا طولاً وعرضًا، ومن يجرؤ على إعلان الجهاد، أو حتى المقاومة أو الثورة أو المطالبة بالتحرر.
فكان الطريق إلى حلب الحديثة طويلاً، فقد مررنا بالكثير والكثير من حلب، وفي كل مرة لا جهاد، ولا مقاومة بالسلاح، ولا مطالبة بالتحرر من الظلم والاستعباد، ولكن كانت في الشعوب بقية، طالما كان العدو معلنًا بالكفر.
ويكفي في التذكر مآسي المسلمين على أيدي الروس في أفغانستان، ومآسي المسلمين في شرق أوروبا البوسنة وكوسوفا وسربرينيتشا، ومآسيهم في أقصى الشرق في بورما وكشمير ثم الروهينجا، ومآسيهم في الصومال والقرن الإفريقي، ومآسيهم في غرب ووسط إفريقيا، ومآسيهم في باكستان وأفغانستان هذه المرة على أيدي الأمريكان، ثم مآسيهم في العراق وسقوط بغداد الثالث مطلع الألفية الجديدة في القرن الخامس عشر الهجري، الذي كان أشبه ما يكون بحملة التتار في السقوط الأول لبغداد في القرن السابع الهجري، وصولاً إلى ما اصطلح على تسميته في عالم السياسة بثورات الربيع العربي.
وقبل هذه الثورات وعلى طول هذا الخط الطويل كم كانت من المذابح التي يشيب لها الولدان، ويندى لها جبين الإنسانية المزعومة؟!
فما حلب اليوم إلا حلقة في سلسة طويلة من الاستعمار الحديث وليست هي بآخرها ولا هي بأشد المآسي، ولكنها دومًا كاشفة، “وليميز الله الخبيث من الطيب”.
فكان الطريق إلى حلب الحديثة طويلاً، ولكن الجديد أنه لا جهاد، ولا مقاومة بالسلاح، أعني من الأمة كافة لا من فرقة هنا أو هناك، لا تقوى على مقاومة هذه الجحافل التي تكالبت عليها وأحاطت بها، وهي لا تمتلك المقومات الكافية.
ولكن قبل حلب الحديثة 1437هـ/2016م كانت في الشعوب بقية، فكانت الشعوب الإسلامية تنتفض هنا وهناك لمآسي البوسنة وكوسوفا، ومآسي الصومال، ومآسي الروهينجا وبورما، ومآسي العراق وبغداد، وتمتلئ الشوارع شرقًا وغربًا تعج بالمسلمين الغاضبين، ولكن اليوم لا، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.
ولكن الحق يقال انتفاضات المسلمين اليوم أكثر وضجيجهم أعلى، وتأثرهم واضح، وانفعالاتهم بينة للعيان، وتلحظ ذلك بأدنى تأمل على التايم لاين للفيسبوك أو على تويتر.
حلب ليست النهاية ولكنها ربما تكون إحدى أمارات نهاية خاصة وبداية جديدة، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، هذا أحد نذر الاستبدال التي بدأت تعمل عملها منذ بداية الألفية، وما زالت مستمرة وتتصاعد وتيرتها، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
ويشتد الخناق على الأمة الإسلامية، كما نلحظ من اتجاهات الاستعمار والاحتلال والاستباحة، من الأطراف في شرق آسيا ووسط وغرب وشرق إفريقيا، وشرق أوروبا، مرورًا بباكستان وأفغانستان، إلى العراق وليبيا واليمن، ثم سوريا الشام، التي تقع في مركز الأمة الإسلامية، ولم يبق إلا جناح الشام الآخر وهو مصر، فهل يشهد نفس المصير، وكذلك مركز الأمة الديني، وهي السعودية، فهل تشهد هي الأخرى نفس المصير، هذا ما ستكشفه لنا الأيام القريبة.
ولا ننس فلسطين مركز الأمة الإسلامية ونقطة الوسط بين مصر والشام، فقد كانت دومًا حلب، ولكنها دومًا رمز الصمود والمقاومة والجهاد، وقدمت أبرز النماذج السياسية والجهادية، وكانت دائمًا نموذجًا خارج الإطار المألوف، ولكنه لم يُحتذ مثاله.