هتف أحد الحكام: “أنا طبيب بعرف أوصف المشكلة، ربنا خلقني كده، أداني نعمة إني أعرف الحقيقة فين…”، ولم يكتفِ هذا الحاكم بوصف نفسه بهذا النعت، إنما أضاف صفة الإلوهية إلى ذاته المقدسة فقال: “اللي يقدر على ربنا يستطيع أن يقدر علينا”، فهو بهذا القول يريد أن يقول “أنا ربكم الأعلى والأعظم والأكبر…”.
زعماء عالميون مصابون بجنون العظمة
وحاكم إفريقي آخر قال عن نفسه: “أنا رئيس إلى الأبد، أنا المشير، أنا الحاج، أنا الدكتور، أنا صليب النصر، أنا قاهر الإمبراطورية البريطانية”.
وثالث تحدث عن نفسه: “أنا العقيد، أنا الزعيم، أنا قائد الثورة، أنا أمين القومية العربية، أنا عميد حكام العرب، أنا رئيس الاتحاد الإفريقي، أنا ملك ملوك إفريقيا، أنا زعيم إفريقيا، أنا عميد حكام العرب، أنا قائد الطوارق، أنا رئيس تجمع دول الساحل والصحراء، أنا قائد القيادة الشعبية الإسلامية، أنا إمام المسلمين”!
ورابع خطب في شعبه وقال بحماس: “لقد علمتكم الكرامة”! فهل كان الشعب بلا كرامة حتى علمه هذا الحاكم الكرامة؟!
فما حكاية الحاكم الأول الإله المقدس الذات؟ ولماذا هتف بهذا الهتاف العجيب؟ ولماذا هتف غيره من الحكام بهتافات قريبة أو شبيهة من هتافه؟
فهؤلاء الحكام ومنْ على شاكلتهم من الحكام أو الناس، يعانون من اضطراب ذهاني عقلي يعرف باسم الهذاء أو جنون العظمة أو البارانويا Paranoid.
ومرض البارانويا يعرف بأنه اضطراب عقلي وظيفي، يتميز بالأوهام والهذيان الواضح والمستمر، والشخصية البارونية تكون متماسكة وعلى اتصال لا بأس به بالواقع إلا إذا زادت حدة المرض بصورة عنيفة وخاصة إذا كان الشخص المصاب بجنون العظمة، يعاني أيضًا من مرض الفصام (الشيزوفرنيا).
وأحيانًا يكون صاحب الشخصية البارونية لا يعاني من أي اضطرابات سيكولوجية أخرى، ويسمى بالهذاء النقي Pure Paranoid، وأحيانًا أخرى يعاني من أمراض أو اضطرابات نفسية أخرى مصاحبة للبارانويا مثل النرجسية، ويوجد نوع من جنون العظمة المعدي للغير، حيث تنتقل الأوهام الهذائية أو أهام جنون العظمة من المريض إلى شخص متعلق به أو قريب منه مثل الوالدين والزوج والزوجة والأخ والأخت، ويحدث التأثير من الشخصية القوية إلى الشخصية الأضعف.
جان بيدل بوكاسا
وهنا نصل إلى صفات الشخص المصاب بجنون العظمة:
1- توهم العظمة Delusion of Grander
في هذا التوهم، يشعر الشخص المصاب بالبارانويا بعظمة ذاته وقوته غير العادية (الخارقة) بعيدًا عن الواقع والحقيقة تمامًا، ويكون المريض متقوقعًا على ذاته وأفكاره العظمى عن نفسه.
ويشعر أيضًا أنه نبي وعالم ومبدع وأغنى الأغنياء وفيلسوف الفلاسفة وطبيب الأطباء وعظيم العظماء ورئيس الرؤساء وملك الملوك وو…، ويستطيع أن يقرأ أفكار الناس ويحل أي مشكلة عويصة، لأن الله خلقه هكذا، وهذه الهذاءات العظيمة عن ذاته، تُرضي النقص الشديد والخلل العنيف في شخصيته.
في تصريح لنيقولاي تشاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التي عمت مدن رومانيا ستؤدي للتغيير، وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ، أجاب: “لا يوجد شيء مما تقولونه”، واستطرد بعنجهية مستهزئًا: “لن يحدث تغيير في رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين”!
ومن سخرية القدر، أنه تم القبض على الطاغية تشاوشيسكو وهو يفر هاربًا مع زوجته، وأعدم وزوجته رميًا بالرصاص، وإذا كانت الشخصية البارونية تعاني من الشيزوفرنيا أيضًا، فإن حالة توهم أو جنون العظمة قد تصل به إلى اعتقاده بأنه إله.
ولكي يُظهر الحاكم المصاب بالبارانويا عظمة ذاته، فإنه ينفق ببذخ شديد في سبيل إظهار عظمته الكاذبة:
ففي جمهورية إفريقيا الوسطى عام 1976، توفى ربع أطفال الدولة من الفقر وسوء التغذية والأمراض المختلفة، ومع ذلك أنفق حاكمها العسكري “جان بيدل بوكاسا” ثلث ميزانية الدولة في يوم واحد للاحتفال بتنصيبه إمبراطور في الرابع من نوفمبر من العام نفسه!
وفي مصرنا المكلومة بالحكام العسكريين، لم يمنع الانهيار الاقتصادي الحاكم المصاب بجنون عظمة ذاته من أن يفرش (سجادة حمراء امتدت على طول 4 كيلومترات)، تكلفت 200 ألف دولار، لاستقباله في افتتاح مجمع سكني!
2- توهم الاضطهاد Persecution Delusion of
وفي هذا التوهم، يعتقد الشخص المصاب بجنون العظمة أن الآخرين يسيئون معاملته ويمكرون ضده ويخططون للنيل منه، وأحيانًا يعتقد بقوة أن الآخرين يخططون لاغتياله، لذلك فهو يشك في كل الناس، ويضمر العداء للآخرين، وأحيانًا يتخيل أعداءً غير حقيقيين، وهنا لا نندهش حين نجد أحد الحكام يأخذ معه حراسته الخاصة في أي مكان (حتى بين ضباطه وجنوده في القوات المسلحة)، فهو دائمًا متوجس خيفة من أي أحد.
ولا يُغير المصاب بالبارانويا رأيه في الآخرين الذين يشعر تجاههم بالريبة مهما أظهروا من حسن النية والطيبة.
3- توهم الإشارة أو الإحالة Reference Delusion of
وفي هذا التوهم، يشعر الشخص المصاب بالبارانويا أن كل كلمة أو إشارة من الغير تعنيه هو للنيل منه وللسخرية منه، لذلك لا نستغرب حين نجد اضطهاد الحكام المصابين بالبارانويا للمعارضين والزج بهم في المعتقلات وقتلهم بدم بارد وخاصة إذا كان هؤلاء الحكام يتصفون أيضًا بالشخصية السيكوباثية Psychopathic، ولا نندهش أيضًا حين نجد أحكام الإعدامات بالمئات أو الألوف (وتأمل في أحكام الإعدام في مصر السيسي).
وانظر إلى عدد القتلى على يد عيدي أمين في أوغندا والذي وصل إلى 100 ألف أوغندي، وانظر إلى مجازر السيسي في يوم 14 من أغسطس 2013، يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة، وتأمل في عدد القتلى الذي يصل إلى أكثر من 3000 في سويعات معدودة، غير الجرحي والذين دفنوا أحياء وجرفتهم الجرافات!
4- توهم المرض Hypochondriac Delusion
وفي هذا التوهم، يعتقد صاحب الشخصية البارونية بيقين أنه مريض مهما أظهرت الفحوصات التي تدل على سلامته الصحية وخلوه من المرض الذي يدعيه.
ومن الطريف أن توهم الأمراض الجلدية تجعل المريض يعتقد أنه مصاب بحشرة معينة في جلده، وأحيانًا يعتقد أنه مصاب بمرض الجرب مثلاً، مهما كان جلده سليمًا.
5- توهم الغيرةjealousy Delusion of
وهنا تستبد الغيرة بصاحب الشخصية المصابة بحنون العظمة لدرجة أنه يعتقد أن زوجته تخونه، والعكس صحيح، فلو كانت الزوجة هي المصابة بالبارانويا، فستعتقد يقينًا بخيانة زوجها، وطبعًا اعتقاد الخيانة هنا مَرَضي وغير حقيقي، والشخصية البارونية تدافع عن أفكارها الوهمية بكل قوة، وأحيانًا تصل هذه الغيرة إلى إيذاء الطرف الآخر أو رفع دعوى قضائية ضده تمس الشرف أو قتله!
6- هزاء المشاكسة
الشخص البارانوي قد يعاني من إصراره على المطالبة بحقه حتى وإن كان ليس له هذا الحق، ويرفع القضايا المختلفة، ويدوس على حقوق الآخرين.
7- توهم الجنس Sexual Delusion
وفيه قد يصاب صاحب الشخصية البارونية بهوس جنسي (عادي أو شاذ)، وقد يتوهم أن (المذيعة الفلانية) في التلفاز تقصده هو بإشارتها، وربما يحس أنها تحبه، ولما يتمكن منه هذا التوهم، فقد يقع في حب هذه المذيعة ويرسل لها الرسائل الغرامية المتعددة، ويتعرض جراء ذلك لمشاكل عويصة.
8- التوهم المختلط
وفيه تعاني الشخصية البارونية من عدة اعتقادات مرضية من الاعتقادات السابقة.
العلاج
أطباء الطب النفسي يعالجون مريض البارانويا بمضاد الاكتئاب وأدوية أخرى مثل (benzodiazepines وantipsychotics).
والشخص البارانوي طموح وهو يُسخِّر كل شيء في سبيل الوصول إلى غايته، ولا يعتقد أنه مريض حتى يقبل فكرة العلاج، وهو يدافع بحماسة عن أفكاره الخاطئة أو اعتقاداته المريضة، فالهذاء المرضي يتداخل بعمق في تكوين الشخصية المصابة به.
المشكلة الكبرى في العلاج هي عندما يصل أحد المصابين بجنون العظمة إلى سدة الحكم، فكيف تعالجه مما هو فيه؟! وكيف تعالج منْ يقول عن نفسه أنه طبيب يشخص أي حالة وفيلسوف الفلاسفة وأنه ربنا الأعلى والأعظم والأكبر؟!