ترجمة وتحرير نون بوست
أنجز التحقيق: فريتز شاب وكريستيان فيرنر
بينما تحتدم المعارك في كل أرجاء سوريا، يسعى سكان عاصمتها دمشق إلى غض الطرف عن دوامة العنف التي تحصل من حولهم، حيث إن الحياة الليلية الصاخبة في هذه المدينة تزدهر بعد رجوع الجيش المدعوم من قبل روسيا من جبهة القتال في حلب، وبينما تكون القوات المعارضة في هذا الوقت بصدد البحث عن مكان تحتمي به في الليل.
وقبل شروق شمس الخريف، تنطلق حافلة صغيرة من دمشق متجهة نحو الطريق الحزامية المؤدية للطريق السريعة الشمالية، وذلك لتجنب رشاشات القناصة، التي يمكن أن تنصب لها كمين قرب الجبهة، ثم تترك هذه الحافلة الطريق الحزامية، لتعود إلى الطريق السريع، منطلقةَ بسرعة جنوبية شمالاً نحو الساحل، متجهةَ بالتحديد نحو مدينة حمص.
يركب هذه الحافلة في كل صباح خميس ستة أشخاص، كل منهم يعيش في جزء من الأجزاء التي تخضع لسيطرة الرئيس السوري بشار الأسد، وتنتمي هذه المجموعة من الشبان لكشافة فينيكس المغامرين، والتي تتكون من نادل وطالب جامعي ومصمم ومشجع رياضي ومدرب ومدير معهد تجميل وراعٍ ألماني، كانوا يخططون لقضاء يوم مرح في الهواء الطلق، وقد صاح النادل كنان حداد، وصوته لا يزال يدل على أنه ما زال ثملاً قليلاً، أن الكثير من المغامرة تنتظرهم.
تتجه هذه الحافلة نحو جبل قاسيون، تاركة وراءها دمشق عاصمة نظام الأسد، وبحر لا نهاية له من المباني الرمادية والبنية والمآذن والكنائس التي يغطيها ضباب الصباح الباكر، ويقع القصر الرئاسي للأسد في أعلى قمة في هذه التلة، وبينما نجد في أسفل هذا الجبل مدينة غارقة في بعض من الخوف وكثير من اللهو.
تجلس في أحد المقاعد الضيقة لهذه الحافلة، فتاة تدعى إليدا سنجر، التي تبلغ من العمر نحو 21 سنة، وتدرس علم الاقتصاد في إحدى جامعات دمشق، التي يبدو عليها التعب والإرهاق بسبب إفراطها في السهر في الليلة السابقة، وصرحت هذه الطالبة بأنها “تدعم نظام الأسد لأنها تشعر بالسعادة والارتياح هنا، حيث إنه يمكنها أن تستمر في دراسة الاقتصاد والذهاب إلى الحفلات في الوقت نفسه، خاصة أن العاصمة لا تستهدف إلا ببعض القذائف من حين لآخر”.
الشيء الوحيد الذي يهتم به
يجلس بجانب إليدا صديقها كنان، وهو أصلع، والذي يثير الضحك بطريقة صبيانية ويملك حلقات داكنة حول عينيه، ويقول إنه سيعيش مرة واحدة في هذه الحياة، مبينًا أن جميع أصدقائه فروا إلى أوروبا، لكنه على الرغم من ذلك قرر فتح حانة.
كما اعتبر أن هيبة الدولة تظهر فقط في الأماكن التي تسيطر عليه القوات النظامية، مشيرًا أن الاستقرار الذي يسعى نظام الأسد إلى تحقيقه في دمشق هو الشيء الوحيد الذي يهتم به.
يملك كل شخص يركب هذه الحافلة أسبابه الخاصة التي تدفعه إلى دعم نظام الأسد، ولكنهم يجمعون كلهم على شيء واحد وهو الخوف من تنظيم الدولة، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشعور أو وجهة النظر التي يتبناها كل هؤلاء الشبان، هي نتاج لاستراتيجية الأسد التي نجحت في جعلهم يظنون أنه من أهون “القوى الشريرة” التي يمكن أن يصبحوا تحت رحمتها في سوريا.
ومثلما دفعت ويلات وضراوة هذه الحرب الوحشية بالملايين من السكان للهرب من سوريا، دفع تنظيم الدولة العديد من الناس إلى الارتماء في أحضان نظام الأسد، وفي الوقت الذي تتجه فيه هذه الحافلة صغيرة نحو حمص، تستمر عمليات القصف التي تستهدف القوات المعارضة في شرق حلب، ومع استمرار الطائرات والمروحيات الروسية والسورية في إسقاط قنابلها، تستمر الميليشيات الشيعية في تقدمها نحو ما تبقى من أحياء حلب للسيطرة عليها.
وقد عمل النظام بدعم من كل من إيران وروسيا، على التقدم ببطء نحو تحقيق نصر عسكري في مدينة حلب السورية الشمالية، والتي يمكن أن يمثل تحقيق الحسم فيها نقطة تحول كبيرة في مصير هذه البلاد.
والجدير بالذكر أن هذه المجموعة من الشبان الذين خرجوا للتنزه لم يقدموا إلا ردودًا مقتضبة وموجزة، عندما سئلوا عن موقفهم من القنابل التي تسقط حاليًا على المدارس والمستشفيات في حلب، حيث قال كنان: “هذه هي الحرب”، بينما أجابت إليدا” “ماذا يمكن أن تفعل الحكومة؟ يجب عليها الدفاع عن دمشق من أجل بقائنا”، بينما أجاب زعيم هذه المجموعة “يجب توجيه اللوم إلى المدنيين في حلب، الذين يوفرون المأوى للإرهابيين”.
“أنا أحب دمشق”
للوهلة الأولى تبدو الحياة طبيعية عندما نرى هذه المجموعة من الشبان الذين يتوجهون من دمشق إلى جنوب حلب، للتنزه ولقضاء وقت ممتع، أما في مركز المدينة، فإن المؤشرات الوحيدة التي تدل على أن البلاد تعيش حالة من الحرب هي نقاط التفتيش المتعددة في الشوارع وملصقات الشهداء التي تتدلى في كل مكان.
كما تمتلئ أسواق مدينة دمشق بالناس والسجاد والهواتف المعروضة والفضة والذهب والملابس الفاخرة الجميلة، كما تملأ شوارع هذه المدينة القديمة رائحة شواء الكباب، ويتم تحضير باحات الفنادق الضخمة الرخامية من أجل النزلاء الذين سيأتون لقضاء عطلهم في الشتاء، فضلاً عن تواصل توافد الزوار القادمين من أماكن بعيدة لزيارة الجامع الأموي، وتواصل الزيارات إلى دار الأوبرا الفخمة من الضيوف الذين يرتدون سترات وفساتين سهرة، وفي حين لا تزال تُعرض الإعلانات باللغة الإنجليزية والفرنسية والعربية التي تعلن عن تنظيم حفلات، تقريبًا كما لو كانت لا تزال دمشق عاصمة عالمية، كما كانت قبل الحرب.
في الساحة أمام دار الأوبرا، تم مؤخرًا تركيب لافتة كبيرة كتب عليها بحروف عملاقة: “أنا أحب دمشق”، وتم وضعها هناك كجزء من حملة إعلانية تديرها إدارة التسويق في المدينة، التي كان يعتمد عليها النظام في السابق، من أجل تنظيم مباريات ومسابقات العدو.
وتبذل هذه الإدارة جهودًا حثيثة من أجل الترويج للمدينة، حيث إنها تقوم بإنتاج فيديوهات تشيد فيها بمظاهر الحياة في دمشق، وتُبين أن العاصمة هي قلعة الأسد، وأقوى الجبهات التي يعتمد عليها النظام في حربه الدعائية، والرسالة التي يحاول النظام الترويج لها واضحة وهي أن دمشق تعيش حياة طبيعية وتستمر فيها الحياة، لأن النظام هو من يُحكم السيطرة عليها.
ويتساءل الكثيرون لماذا لا يوجد أي مظهر من مظاهر الدمار الواضحة في وسط المدينة؟ والإجابة هي أنه عندما تسقط قذائف على المدينة القديمة والأحياء المحيطة بها، يتحرك الحرفيون بسرعة بالتعاون مع سيارات الإسعاف لتغطية آثار الحرب، فالأسد يبذل كل ما في وسعه لتقديم صورة لمدينة مزدهرة، على خلاف كل الصور المعروضة عن الدمار التي تشهده بقية المدن في البلاد، والتي كانت في يوم ما جزءًا من البلاد السورية.
وبعد أن توسطت الشمس كبد السماء ومرور ساعتين من الوقت، كانت هذه الحافلة الصغيرة تقل مجموعة من الشبان نحو مدينة حمص، أين توجد القوى المعارضة التي تعامل معها النظام بوحشية بسبب تمردها عليه.
واليوم أجزاء كبيرة من مدينة حمص ليست أكثر من مدينة أشباح، لا يرى فيها إلا تصاعد الدخان من أكوام الحطام المكدسة في أرجائها، ولكن لا أحد من مجموعة فينيكس يلقي اهتمامًا لما يعترضهم في طريقهم، فهم بدلاً من ذلك، فضلوا الحديث عن البيرة، وعلى وجه التحديد، كانوا يتبادلون أطراف الحديث عن مصانع الجعة السورية التي دمرت، وعن اضطرارهم لشرب البيرة المستوردة من لبنان، والتي يقولون إن طعمها يشبه تقريبًا رغوة الصابون السورية.
“لا شيء بينهما”
قال لي أحد المسافرين الذي كان يجلس آخر الحافلة تعال إلى اللاذقية، تعتبر اللاذقية من معاقل الأسد، وهي تسمى أيضًا بإيبزا السورية، وتقع على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأردف قائد المجموعة قائلاً “هناك أيضًا حفلات رائعة في مدينة حلب وهي لا تزال كذلك”.
وأضاف أن الفيديوهات الدعائية عن الحياة الليلية في غرب حلب المنشورة من قبل النظام، تعتبر جزءًا من دعاية الأسد السياسية، كما تشير الفيديوهات السياحية الغريبة التي ينشرها النظام منذ شهر أيلول/ سبتمبر، إلى أن غربي حلب في معزل عن الحرب، ويظهر ذلك خاصة من نظافة المساحات الخضراء ومسابح الفنادق الفيروزية والنوادي الليلية المكتظة.
لكن هذا لا ينفي وجود مغالطات في هذه الرواية التي ليس من الصعب دحضها، حتى عندما يتعلق الأمر بدمشق، إذ إن الاقتصاد السوري يشهد حالة من الفوضى العارمة، فالتجار يشتكون من الانخفاض المطرد في إيراداتهم، أما اللاجئون فقد بلغ عددهم 1.8 مليون لاجئ يبحثون عن ملاجئ في المدينة تقيهم برد الشتاء، بالإضافة إلى أن القليل من هؤلاء اللاجئين يستطيعون تحمل تكاليف الوقود المخصص لأجهزة التدفئة المعدنية الصغيرة التي لا يمكن للفقراء توفيرها، وفي بعض الحالات، يفوق عدد العائلات التي تقطن بمنزل واحد العشر عائلات وهذه حال معظم الأسر في المدينة القديمة.
يتردد صدى محركات الديزل في شوارع المدينة، وهي محركات مولدات الطاقة التي تمد السكان بالكهرباء لبضع ساعات في اليوم، أما في الأحياء السكنية الفقيرة، فيعمد السكان إلى تخزين الطاقة الكهربائية التي يستمدونها من بطاريات السيارات التايوانية، ويعاني سكان هذه المناطق من التضخم الذي يستنزف مرتباتهم ويضر بالطبقة الوسطى، خاصة بعد تدهور سعر الليرة السورية، التي انخفضت قيمتها إلى العشر تقريبًا مقارنة بفترة ما قبل الحرب.
في أعلى التل، يواصل الأسد لعب دور الأب الحامي لعائلته بينما يفقد الشعب في أسفل التل استقرارهم، ووفقا لتقارير أحد أطباء النفس، فإن الطلب على العقاقير المهدئة والمضادة للاكتئاب ارتفع بشكل ملحوظ، واستنكر هذا الطبيب العقوبات المسلطة التي تمنع وصول الإمدادات الجديدة إليهم، ويقول الناس في المقاهي إن العديد من المدنيين استطاعوا الحصول على رخص حمل سلاح، نظرًا لتزايد عدد المجرمين الذين يجوبون شوارع المدينة.
ما زال المئات من المقاتلين المنتسبين إلى تنظيم الدولة والجماعات المتطرفة الموالية لجبهة فتح الشام، مختبئين في مخيمات اليرموك الفلسطينية السابقة التي تقع في دمشق على بعد كيلومترات من الحانات وقاعات الرقص، بينما يقبع المقاتلون في الأنفاق تحت أحياء المدينة، التي يزحفون عبرها من تحت مواقع ومعاقل العدو، وفي الأثناء يسمع بين الفينة والأخرى دوي رصاص القناصة الذين يتخذون من المباني المدمرة مراكز لهم.
إن أولئك الذين لا يضطرون إلى مشاهدة العنف لا يحاولون منع حدوثه، فقد تأقلموا مع الحرب التي ألقت بأوزارها على المدينة، ولم يعد أغلبهم يتابع نشرات الأخبار، فهم لا يريدون أن يعلموا ما يحدث بالضبط في حلب، قال النادل كنان “كلما كانت لدى المرء دراية أقل بما يحدث، كانت حياته أفضل”، إن هذه الفئة من السكان تهرب إلى عوالم الخيال من خلال السفر والتجوال، وتدخين حشيش الماريجوانا، وتعاطي الحبوب المهدئة، وشرب الكحول حتى الثمالة في الحفلات الصاخبة، أما باقي السكان فغادر معظمهم البلاد.
فقد أغلب سكان المدينة القدرة على رسم الابتسامة على محياهم، لأنهم من الأشخاص الذين ما زالوا يتابعون عن كثب نشرات الأخبار، وتبعًا لما صرح به معظمهم، فإن الحياة فقدت ألوانها واصطبغت باللونين الأسود والأبيض، ومهما كان الطرف الذي يقفون في صفه فهم منهكون ومستاؤون لا محالة لأن بلادهم تحتضر.
ليال دمشقية مليئة باليأس والمجون في عاصمة الأسد
لا يمكن أن ترى عشرات الآلاف من السكان يجوبون الشوارع أبدًا، لأنهم يختبئون من الوحدات العسكرية وأجهزة المخابرات في شققهم والطوابق السفلية، فهم يختبئون خوفًا من التعذيب والموت، أصبحت دمشق حاضنة لثلاثي المتعة والخوف والخراب.
توقفت حافلة مجموعة المسافرين هذه في وادي النصارى عند أحد الأديرة القديمة، بدت سفوح الجبال الخضراء والوادي القريب من الحدود المتاخمة للبنان مليئة بالقرى الصغيرة، وبدت الأجواء كأنه لا وجود لمعارك في الأرجاء، تقصد هذه المجموعة من المسافرين قلعة الحصن الصليبية أو قلعة الفرسان الواقعة في حمص.
ظل المسافرون يشقون طريقهم عبر غابة البلوط اللبنانية والأشجار الشائكة لمدة أربع ساعات، بينما تعالت ضحكاتهم التي كان أغلبها عن انزلاقهم في الأراضي الموحلة، وعن الراعي الألماني برونو، وعن إليدا التي تسأل بين الحين والآخر عن شكلها وكيف تبدو، جلبت إليدا معها اثنين من سماعات البلوتوث التي تصدر موسيقى صاخبة، وفي الأثناء طارت عبر الوادي مروحيتين روسيتين من طراز ميل مي-8، لكن لم يكن أحد يعلم وجهتهما، وبين الحين والآخر يسمع دوي إطلاق نار لكن لم يكن أحد يعرف مصدره.
قامت المجموعة بجولة في قرية الحسن قبل فترة وجيزة من غروب الشمس المختفية وراء التلال، كانت تلك القرية في حالة خراب وقد امتلأت جدران منازلها المهجورة بثقوب الرصاص، كانت إليدا وكنان يمسكان بيدي بعضهما البعض بينما كانا يتجولان في الأرجاء، وما زالت بادية على وجهيهما علامات السهر من الحفلة السابقة.
وفي وقت لاحق، عادت الحافلة مرة أخرى إلى الطريق السريعة لكن هذه المرة كانت عائدة أدراجها إلى دمشق. إنه مساء يوم الجمعة، حيث سيتوجه العديد من الشبان والشابات إلى الحانات الواقعة في الباب الشرقي وباب توما، بينما يعود كنان إلى العمل في المقصف ويعود لإليدا مزاج تدخين المخدرات.
أطلق كنان على حانته اسم “حنين”، لأنه يريد لضيوفه ومرتادي الحانة أن يستحضروا ذكريات أيام ما قبل الحرب، زيّن كنان جدران حانته بورق حائط منقوش، وعلق عليها فيما بعد صورًا لبوب مارلي وفرقة البيتلز وجيمي هندريكس.
ويقول كنان إنه قبل سنة واحدة فقط، لم تكن المدينة تشهد هذا الكم من الحياة الليلية، و”كل شخص كان يخشى مغادرة بيته”، ما زالت القذائف تطلق بانتظام من الأحياء السكنية الواقعة تحت سيطرة المعارضة، أما الآن فما زال الجانب الشرقي من المدينة القديمة مكتظًا بالحانات، وحسب نظرية كنان فإن ذلك يعزى إلى أن المرء يشعر بالقنوط والإحباط عندما يكون في وعيه، كما أضاف أن “الناس يدخنون المخدرات ويحتسون الكحول ويشمون الكوكايين ويتعاطون منشطات الفينيثايلين كالمجانين”.
حانة في قبو
أخبرني كنان وهو يبتسم “لم أعد أبالي بما قد يحمله المستقبل لي”، كان على وعي تام بأن الحرب في “دمشق” لن تنتهي بسهولة، ثم أضاف قائلاً “نحن نعيش شبابنا مرة واحدة”.
وفي تلك اللحظة سقطت ثلاث قذائف بمكان قريب منا، الواحدة تلو الأخرى، مخلفة دويًا كبيرًا أسفر عن انفجار حاد، لم يحرك كنان ساكنًا، عوضًا عن ذلك قام بفتح علبة بيرة وقال “حلمي يتلخص في حانة داخل قبو تحت الأرض”.
وفي وقت لاحق، تبين لنا أن القذائف سقطت على بعد بضع من مئات الأمتار من موقعنا، أصابت القذيفة الأولى منزلاً تعيش فيه أربع عائلات من اللاجئين، أما الثانية فسقطت في مكان مفتوح، في حين وقعت القذيفة الثالثة أمام محل للحلاقة، لتمزق إحدى شظاياها ساق الحلاق، ونتيجة لهذه الهجمة، فقدت خادمة فلبينية ساقها، تتبعنا مصدر المتفجرات، حيث علمنا أنها انطلقت من مدينة “جوبر” إحدى المناطق في محافظة دمشق أين كثفت القوات العسكرية التابعة للنظام من هجماتها.
كان كنان ولسنوات عديدة قبل الحرب يعمل في وحدة مكافحة الاحتيال التابعة لأحد البنوك، ولكن بعد أن فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مزيدًا من العقوبات الجديدة على سوريا في ربيع سنة 2011، وتفاقمت الحرب الأهلية التي أصبحت على أبواب دمشق، راود الكثيرين الشك عما إذا كان نظام بشار الأسد سيصمد في مواجهة الأزمة، ولذلك سرعان ما انهار الاقتصاد.
استطاع كنان الصمود لخمس سنوات، ولكن عمله كمصرفي لم يعد له معنى، فانتهى به المطاف لفتح حانته الخاصة في تموز/ يوليو، وصل أول الضيوف في وقت مبكر من المساء، وكانوا عبارة عن مجموعة من الطالبات الجامعيات، وطلبوا على الفور زجاجة ويسكي، وبعد نحو ساعة قامت إحداهن لتقف فوق الطاولة وتشرع في سكب الخمر في أكواب صغيرة، عند الساعة التاسعة تقريبًا، قام كنان بارتداء سترته وتوجه للخارج قاصدًا إحدى الحانات أين اعتاد الاحتفال، لم يتطرق أي أحد للهجمات التي حدثت سابقًا خلال ذلك اليوم.
قتال في النهار، واحتفالات في الليل
توجه كنان وإليدا نحو “باب توما”، إحدى البوابات القديمة المؤدية إلى المدينة العتيقة، كانت السيارات تندفع داخل الأزقة الضيقة متوجهة نحو “حياة الليل” في منطقة باب شرقي، أين تصطف المساجد والكنائس جنبًا إلى جنب مع المنازل المتكونة من طابقين، والتي ازدانت بنوافذها الناتئة والملتوية، وتعتبر المنطقة ذات أهمية خاصة بالنسبة للمسيحيين القاطنين بالمدينة، عجزت الصواريخ عن إرغامهم بمغادرة المنطقة وظلوا أوفياء لنظام بشار الأسد، وفي الفترة الأخيرة تعالت صيحات الاستنكار والتبرم من قبل الكنيسة بسبب الضوضاء التي تسببت فيها الحياة الليلية، بالإضافة إلى الصخب الناتج عن الحشود والسيارات التابعة للميليشيات.
كانت الطاولات في حانة “لا مريونات” التي تتميز بأضوائها الخافتة وجدرانها التي زينت بملصقات لأفلام قديمة، قد امتلأت بالكامل بينما كانت المنطقة حول المَشرب مكتظة بالزائرين، كانت تترامى إلى مسامعنا أصوات الموسيقى الحماسية التي أخذت من شريط موسيقي “لبار تونتي فايف” الشهير ببرلين، طلب كنان وإليدا جرعات من الشراب.
إن سوريا التي يعيش فيها كنان وإليدا ليست سوريا التي نسيها العالم، ليست سوريا التي يقوم حاكمها بتفجيرها يوميًا وتجويع مواطنيها، ليست سوريا التي تعاني ضواحيها المحيطة بالعاصمة من حصار مستمر وقاتل، فدمشق التي يعيش فيها كنان وإليدا تحميها كل من إيران وروسيا وحزب الله.
لقد تم تقسيم المدينة إلى قسمين تمامًا كما قسمت كل سوريا، قسم تابع للذين تصالحوا مع النظام وقسم آخر للذين يرفضون أو لا يريدون الخضوع له، هؤلاء الذين رفضوا الانبطاح لنظام بشار الأسد، تنكر لهم الجميع ولم يعد أحد يقدم لهم المساعدة، نفس الشعب الذي بدأ مظاهرات سلمية ضد الحكومة في سنة 2011 وأنجب من أعماقه ثورة، أصبح الآن يواجه موتًا حتميًا وتحتضر ثورته أمام أنظار كل العالم.
كان حسام الذي أبى أن يفصح عن هويته الحقيقية، يعيش في ضاحية فقيرة تدعى “جرمانا”، في جنوب شرقي حدود مدينة “دمشق”، أين تتعانق خطوط الكهرباء مع المباني الآيلة للسقوط.
روى لنا حسام قصته ومغامرته الطويلة التي أخذته العام الماضي إلى متجر في نهاية الشارع، حيث إنه لا يمكنه أن يذهب إلى أبعد من ذلك نظرًا لأنه مثل عشرات الآلاف من الشبان السوريين في المناطق القابعة تحت سيطرة قوات الأسد، يعيش في الخفاء متسترًا حتى لا يتم القبض عليه.
المحاصرون في الشوارع
الكثير من الشباب السوري تتم مطاردتهم لأسباب سياسية، ولكن أغلبهم يختبئون لتجنب التجنيد الإجباري، ويعتبر حسام واحدًا من الشباب الذين يتوارون عن النظام حتى لا يتم تجنيدهم، حيث يرفض أن يقاتل لصالح نظام الأسد، ضد مبادئه التي عاش لست عشرة سنة يدافع عنها ويحتج بها ضد بشار الأسد.
إذا تناولنا الموضوع من وجهة نظر قانونية، فإنه كان يفترض أن ينضم حسام لجيش الأسد منذ أربع سنوات، ولكن حسام ومنذ 18 من تشرين الأول/ أكتوبر لم يقم بمغادرة الشارع الذي يقطن فيه، على خلفية عملية تمشيط قام بها جنود تابعون للنظام في هيئة مدنيين، وقبضوا على إثرها على الآلاف من الشباب لتجنيدهم للحرب.
كان حسام يعمل محاميًا، وعندما اندلعت الثورة في سنة 2011، استيقظ أخيرًا من سباته السياسي ولا مبالاته التي انغمس فيهما خلال الفترة التي قضاها في السجن، نزل حسام للشارع وانضم للمظاهرات بالرغم من أن هذا الخيار كان جد مؤلم بالنسبة له، حيث تعرض خلال فترة محكوميته للضرب على مستوى الكاحلين والركبتين بطريقة وحشية باستخدام الأنابيب.
سرعان ما تحولت المظاهرات السلمية إلى حرب، وتم القبض على حسام من جديد وتعرض لشتى أنواع التعذيب قبل أن يطلق سراحه، لم يكن حسام قادرًا على استقبال الزوار في منزله لما في ذلك من خطورة بليغة، ولكنه كان يقبل أن يتم الاتصال به هاتفيًا لذلك كنا على تواصل معه يوميًا لمدة أسبوع.
خلال محادثتنا يوم الأحد، أخبرني حسام أنه يعيش كل يوم نفس الرتابة، حيث يجلس فقط في شقته الصغيرة أين يعيش مع زوجته وابنته، من دون أن يحرك ساكنًا، كما أوضح لنا أنه يعيش بفضل المال الذي يرسله له أهله وبعض الأصدقاء أحيانًا.
وأعرب حسام عن قلقه الشديد بشأن مصيره وقال: “إن الشتاء قادم، من أين لي ثمن شراء زيت التدفئة؟”، هذا السؤال يطرحه يوميًا على نفسه بسبب ضيق الحال وعجزه عن توفير المال لشراء الأكل ولدفع الإيجار أو شراء الزيت الضروري للتدفئة، وفي خضم كل هذا، يبقى الهاجس الوحيد بالنسبة لحسام، هو البقاء على قيد الحياة.
قال حسام خلال محادثاتنا: “إما أن تكون مع النظام وإلا ستعتبر عدوًا له، إما أن تكون رجلاً من رجال الميليشيا أو تكون رجلاً تطاردك المخاوف”، وأضاف: “إن النظام يتحكم في المناطق التابعة له بلا رحمة، فإن لم تكن المخابرات تتابعك عن كثب وتراقب كل حركاتك وسكناتك، فستجد حتمًا المجتمع والحي كله يراقبك”، وتعقيبًا على ذلك أخبرنا حسام بأن هناك قولاً مأثورًا في دمشق يقول “نحن نجتمع للشرب، ونشرب من الخوف من الآخرين”.
وأكد حسام أنه لم يفكر بتاتًا في مغادرة وطنه، وفي المقابل قال لي مؤخرًا: “كنت أظن أن الواجب يقتضي أن نستمر في الوجود وملئ الشوارع إلى أن يختفي النظام الاستبدادي، ولكن لم أعد أقدر على ذلك بعد الآن”.
كما أبدى حسام استيائه من الوضع الحالي، حيث حرم من اللقاء مع ثلة من أصحابه الذين كانوا قد اعتادوا على الاجتماع بصفة دائمة في غرفة الجلوس، للتحاور بخصوص آخر المستجدات على الصعيد السياسي، خاصة خلال الفترة الأولى للانتفاضة، ومع تأزم الأوضاع، لم يبق من رفاقه الخمسين إلا 10 فقط في دمشق، في حين تم إرسال الآخرين إلى الجبهة الأمامية للحرب للتخلص منهم، على حد تعبير حسام.
“إنهم يقتربون أكثر وأكثر”
كما ذكر حسام أنه في يوم الأحد أحضرت زوجته صديقتها معها، وهي أم لطفلين، الابن يبلغ من العمر ثماني سنوات والبنت لقيت حتفها جراء هجوم بقنابل الهاون، ولذلك يعاني الطفل الآن من حالة اكتئاب حاد، حيث حاول الانتحار عديد من المرات، ونتيجة للصدمة التي تعرض لها فقد القدرة على الكلام، وقال حسام إنه غادر الغرفة التي كانت زوجته وصديقتها تجلسان فيها بسبب “عدم قدرته على الاستماع لمثل هذه القصص المأساوية”.
سمع اليوم حسام من أحد معارفه الذي ما زال يقطن بضواحي المدينة بأن “الحكومة بدأت عملية تمشيط في المباني الخالية هناك”، والتي يتخذ منها اللاجئون مأوى لهم على الرغم من افتقارها للأبواب والمياه والكهرباء، كما قال بأن إيجار هذه الشقق يتكلف 50 دولارًا في الشهر الواحد، وقبل أن يغلق حسام سماعة الهاتف قال “الحكومة تجند الرجال الذين هم في سن الخدمة العسكرية، إنهم يقتربون أكثر فأكثر”.
إن الأشخاص المستفيدين من الحرب يعيشون على مقربة من منزل حسام، كما أنهم يتمتعون برغد العيش، هم أعضاء في الميليشيا التي كانت تدير الحرب بالنيابة عن الأسد، وعن جيشه النظامي الذي منذ فترة طويلة اختفى عن ساحة المعركة، فهذه الميليشيات التي تتمركز في دمشق، تجاهل عناصرها النظام وأصبحوا يتصرفون كما لو أنهم هم الأسياد هناك.
على الطريق المؤدية إلى جرمانا، الواقعة في أحواز المدينة، تعرضت المنطقة مؤخرًا لسلسلة من الهجمات أسفرت عن انهيار صف كامل من بيوت الدعارة على غرار ملهى ميامي، وكليوبترا، والهاون، ووردة الفؤاد، بالإضافة إلى ذلك أصبحت سيارات الدفع الرباعي الضخمة تجد صعوبة في المرور بسبب سيارات الأجرة وسيارات المرسيدس المهشمة على الطرقات.
إن بيوت الدعارة ليست بالشيء الجديد في دمشق، فهي موجودة منذ عقود، ففي ساحة المرجة، التي تقع خارج أسوار المدينة القديمة في مركز مدينة دمشق، يقوم سماسرة الجنس بالهمس في آذان المارة “استراحة؟ هل تريد أخذ استراحة؟”، حيث كانت الطوابق العليا للفنادق هناك تخصص للعاهرات.
والجدير بالذكر أن بشار الأسد في منتصف سنة 2000 منع الدعارة، ولكن منذ أن نشبت الحرب السورية عادت هذه التجارة لتزدهر من جديد، وتعتبر بيوت الدعارة بالنسبة للمحاربين الذين يقتلون ويعذبون وينهبون ويسرقون، متنفسًا لهم.
يبدو أن لا أحد يهتم
في كباريه “فيولين” كانت المومس التي ترتدي تنورة وردية مترددة في الذهاب إلى الطاولة التي يجلس عليها رجل يرتدي قميصًا أسود مفتوح الصدر، والذي استعمل بطاقته الائتمانية ليشتري القليل من الكوكايين ليلفه في ورقة نقدية ذات ألف جنيه ويستنشقه، أما الكمية التي تبقت منها قام بتدليك لثته بها، ورغم كل ما كان يقوم به لم يعره أي أحد في الكباريه أي اهتمام.
على المسرح كانت تقف امرأة سمينة ترتدي ثوبًا أسود ضيق، وبسبب كميات المكياج التي تكدست على وجهها كانت ملامحها غير واضحة، بينما كانت تنشد أغاني عن الحب.
كان أغلب الرجال الذين يرتادون هذا الكباريه يحملون معهم مسدسات عيار 9 مليمتر، والبعض منهم كانوا يحملون في أيديهم محفظات يستعملونها عندما يعتلون المسرح لرشق المغنية السمينة بالأموال وذلك لإبراز نفوذهم وثرائهم.
كان بعض الرجال الحاضرين ضباطًا في الجيش، ولكن أغلبهم كانوا ينتمون إلى قوات الدفاع الوطني، وهي ميليشيا تابعة للحكومة تعمل على طريقة المنظمات الإجرامية، فهي تقوم بعمليات سرقة ونهب وبيع المخدرات ولكن النظام عاجز عن فعل أي شيء حيال ذلك.
وعن هذا الموضوع صرح وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية علي حيدر، في مقابلة أجراها مع صحيفة دير شبيغل بأن “الجيش ليس قويًا كفاية ليصدهم أو يقف في وجههم”.
إن الحروب غالبًا ما تنتج اقتصادًا هشًا يكون المستفيد الوحيد منه هم الأتباع والتوابع، وفي هذه الحالة كلما انهارت الدولة ازداد غنى الميليشيات.
خاتمة المحرمات
ريم المومس التي كانت تملك حاجبين مرسومين بدقة وتضع أحمر شفاه فاقع بغية جذب الزبائن، والتي تبلغ من العمر 37 سنة، كانت أمًا لطفلتين وكانت المسؤولية الملقاة على عاتقها هي حمايتهما من ويلات الحرب بأي شكل من الأشكال، إثر هجرها من قبل زوجها قامت عائلتها بطردها من المنزل، لذلك كانت في البداية تنام على أرصفة الطريق مع إحدى بناتها، إلى أن وجدت عملاً في ملهى فيولين.
قالت ريم وهي تنفث دخان سيجارتها “إنه بمثابة عمل قار بالنسبة لي، خاصة في ظل الحرب القائمة”، كما أضافت أنها تريد أن تدفع ثمن دروس الباليه التي ترتادها بناتها بالإضافة إلى توفير الطعام لهم وهذه هي أقصى طموحاتها.
تدمر الحرب المدينة، وترغم سكانها على الهرب، وإذا لم يرحلوا يكونون عرضة للاستغلال الجنسي، وبما أنه ليس من الواضح إن كانوا سيعيشون ليوم آخر أو لا، أصبح موضوع المحرمات بالنسبة لهم لا قيمة له.
ما يمكن أن نلاحظه في دمشق هو أن الشوارع أصبحت تضج بالشابات والشبان، فالفتيات يتوجهن نحو مبنى باب توما، أما الرجال فيأتون إلى جرمانا، في هذا المساء، كان الشابان كنان وإليدا يجلسان في حانة زودياك ويشربان الخمر ويستمعان إلى موسيقى التكنو، على الرغم من أنه في منطقة غير بعيدة عن الحانة انفجرت قذيفتين تسببت في مقتل رجلين.
المصدر: دير شبيغل