خيوط الشمس المتسللة من بين ثنايا نافذتها الخشبية تتعامد على جبينها لتوقظها من سباتها الذي لم يدم أكثر من خمس ساعات فقط، لتتحسس بيديها هاتفها النقال الملقى بجانبها – كعادتها – لتتابع آخر ما تم نشره على صفحتها على السوشيال ميديا وبعض المواقع الأخرى التي تهتم بالطهي والموضة ومساحيق التجميل وما إلى غير ذلك من الصفحات التي تقضي معها ما يقرب من ساعة ونصف قبيل مغادرتها فراشها، لكن ماذا حدث؟ الجهاز لا يستطيع الوصول إلى الإنترنت.. وهنا كانت الكارثة.
حنان، فتاة في الثلاثين من عمرها، تعمل مترجمة بالتلفزيون المصري، تقيم مع شقيقها في شقته بمنطقة مدينة نصر في القاهرة، لا تستطيع التحرك، تتلقى فترة علاج تحدد بـ”6″ أشهر تقريبًا حسب تعليمات الطبيب، اعتادت الجلوس أمام الإنترنت لساعات طويلة تصل إلى خمس عشرة ساعة يوميًا في غالب أيامها، وبات هاتفها الخلوي جزءًا من جسدها أينما ذهبت أو رحلت حتى ولو كان القصد دورات المياه.
لأول مرة تستقبل حنان يومها دون إنترنت، حالة من التوتر انتابتها بصورة غير مسبوقة، هرولة على كرسيها المتحرك بين جنبات الشقة، تراقب “الراوتر” الخاص بالإنترنت وتتابع لمباته المضيئة، تغلقه وتعيد تشغيله مرة تلو الأخرى، تقلب في هاتفها لعلها تنجح في التقاط إشارة من هنا أو هناك، لكن كل محاولاتها للأسف باءت بالفشل، اليوم دون إنترنت، دون فيس بوك أو تويتر، دون إنستجرام أو ماسنجر.
موجة من الاضطراب انتابتني حال يقيني التام بانقطاع الإنترنت، فكيف أقضي يومي دونه، وأنا الذي أقضي عليه عشرات الساعات في اليوم الواحد
تقول حنان “موجة من الاضطراب انتابتني حال يقيني التام بانقطاع الإنترنت، فكيف أقضي يومي دونه، وأنا الذي أقضي عليه عشرات الساعات في اليوم الواحد، أشعر بالملل سريعًا من التليفزيون، ولا أحن لسماع الأغاني أو زيارة المعارف خاصة وأنا لا أستطيع الحركة، بات الإنترنت عالمي الذي أحيا داخله، وبيتي الذي أنس بجدرانه، وبدأت أشعر وأنا مع أصدقائي على صفحتي على الفيس بوك أنني بين أهلي وأحبابي، فلا أفعل شيئًا إلا بعد مشاورتهم، ولا أتحرك إلا بعلمهم”، وتابعت: للأسف ما عدت أشعر بالسعادة ولا الراحة إلا وأنا أتابع صفحات أصدقائي ومعارفي، هناك فقط أشعر بالدفء.
لم تفارق نظرات حنان علامات “الراوتر” المضيئة، على أمل أن تعود الإشارة في أي وقت، صوت الهاتف كان دائمًا يداعب أذنيها، إلى الحد الذي باتت تتخيل صوت رسالة الفيس بوك أو الماسنجر، لتهرول مسرعة صوب الهاتف، لكن لا شيء.
خمسة عشر فنجان قهوة، وما يقرب من علبتي سجائر، حصيلة استهلاك حنان خلال عشر ساعات فقط دون إنترنت، فضلاً عن شجار مع بعض الجيران جراء ارتفاع صوت التليفزيون لديهم، فما كان أمامها إلا الاتصال بصديقتها نهى التي تسكن بعيدًا عنها لكنها في نفس المنطقة، لتكتشف المفاجأة، يبدو أن المنطقة كلها بها مشكلة في شبكة الإنترنت.
نهى بنت الأربعين، والتي تعمل ربة منزل، يبدو أنها هي الأخرى أصابتها لعنة رفيقتها حنان، وحسبما قصّت لنا صديقتها، فإنها ولأول مرة تضرب ابنها الذي لم يتجاوز السنوات العشرة، حالة من القلق وعدم التوازن تملكتها منذ الصباح، فقد اعتادت أن تتابع صفحتها على الفيس بوك، وتتلقى الردود والرسائل من المعجبين بأشعارها التي تكتبها، وتنشرها على صفحتها الشخصية، لكن اليوم لا ردود ولا رسائل.
خمسة عشر فنجان قهوة، وما يقرب من علبتي سجائر، حصيلة استهلاك حنان خلال عشر ساعات فقط دون إنترنت
مرت الساعات على نهى وحنان طيلة هذا اليوم وكأنها أثقال أحمال على كاهليهما، اضطراب وفقدان توازن، إفراط غير مسبوق في تناول المكيفات والسجائر، خلافات عائلية، اعتداءات جسدية ولفظية، فتور تام تجاه الأقارب والمعارف والجيران، انتهت بالعزلة والتقوقع داخل غرفة كل منهما، في محاولة لتسول النوم الذي أبى أن ينقذهما مما هما فيه.
العديد من الأسئلة تفرض نفسها وبقوة، ماذا لو ألغي الإنترنت من حياتنا؟ وكيف ستكون سلوكيات بعض مدمني الإنترنت حال انقطاعه يومًا كاملاً على سبيل المثال؟ وبعيدًا عن الإجابات التقليدية التي طالما عزف البعض عليها، والتي تتمحور معظمها في اللجوء إلى الزيارات العائلية وتوطيد العلاقات الاجتماعية والخروج للتنزه والترفيه، يبدو أن هناك شريحة ليست بالقليلة كان لها رأي آخر في كيفية مرور 24 ساعة عليها دون استخدام الإنترنت، خاصة لو عرفنا أن هناك ما يقرب من 182 مليون شخص في العالم صنفتهم الأبحاث بأنهم “مدمنو إنترنت”.
الاكتئاب والعزلة أبرز أعراض إدمان الإنترنت
إدمان الإنترنت.. ما بين التهويل والتقليل
تباينت العديد من الآراء والتأويلات بشأن مصطلح “إدمان الإنترنت” فهناك من نفى وجود مثل هذا المصطلح تمامًا، وآخرون أكدوا وجوده، وأيا كان هذا التباين فإن المؤكد وجود استخدام خاطئ للإنترنت يقود إلى إدمان الجلوس أمامه بالساعات الطويلة، وهو ما أشار إليه الدكتور عبد الرحمن عمر، استشاري الصحة النفسية بجامعة الزقازيق، والذي فرّق ابتداءً بين الإدمان وإساءة الاستخدام.
عمر في حديثه لـ”نون بوست” أوضح أن إساءة الاستخدام تؤدي إلى الإدمان، فالإنسان بطبيعته جُبل على اكتساب العادة، فالشيء الذي يكثر استخدامه يصبح جزءًا من شخصيته، ويكون من الصعب عليه الاستغناء عنه، فيتحول تلقائيًا دون أن يدري إلى إدمان، ومن ثم يمكن القول إن إدمان الإنترنت يعني عدم قدرة الإنسان على الاستغناء عنه.
وأضاف استشاري الصحة النفسية أن أول ظهور لمصطلح “إدمان الإنترنت” كان في 1994 على يد عالمة النفس الأمريكية كمبرلي يونغ، من خلال عدة دراسات قامت بها في هذا المجال، كشفت أن الإفراط الزائد في استخدام الإنترنت يقود إلى الإدمان، مشيرة أن من يتجاوز استخدامه لشبكة الإنترنت 38 ساعة أسبوعيًا، يصبح مدمنًا.
هذا الرقم ربما يمثل محل شك لكثير من الباحثين في الوقت الراهن، لكن حين يتم العوة إلى تاريخ إجراء الباحثة الأمريكية لدراساتها النفسية نجد أنها جاءت في وقت قلما يتوفر فيه الإنترنت، ومن ثم كان هذا الرقم (38) ساعة أسبوعيًا رقمًا كبيرًا حينها، قياسًا بما وصل إليه الحال في الوقت الراهن.
أعراض الابتعاد عن الإنترنت
أما فيما يتعلق بأعراض إدمان الإنترنت، وكيفية التعرف على المصاب بهذا الداء، أشار استشاري الصحة النفسية بجامعة الزقازيق، أن هناك أعراض نفسية وأخرى جسدية يمكن التعرف على مدمن الإنترنت من خلالها، فمن حيث الأعراض النفسية يلاحظ أنه في غياب الإنترنت يصاب المستخدم بألم شديد وعصبية وتوتر ملحوظ، إضافة إلى تقلب المزاج العام لديه، مما يترتب عليه خلافات مستمرة مع العائلة والأصدقاء والمقربين والابتعاد عنهم، وتفضيل العزلة والوحدة، مما قد يدخله في نوبة من الإحباط والاكتئاب.
بعض الدراسات الأخيرة أثبتت فشل البعض في الابتعاد عن الإنترنت لفترات طويلة، حيث من المرجح إصابتهم ببعض الأمراض التي تندرج في معظمها تحت باب “الوسوسة”
أما فيما يتعلق بالتأثير الجسدي على مدمن الإنترنت حال انقطاعه، فقد يشعر المستخدم بالخمول والأرق والتهاب حاد في العينين نتيجة الضغط العصبي جراء عدم وجود الإنترنت، إضافة إلى عدم القدرة على النوم، حيث يظل المستخدم قابعًا في انتظار مجيء الإنترنت في أي وقت مهما كلفه ذلك من وقت وجهد وعدم نوم.
وأضاف أيضًا أن بعض الدراسات الأخيرة أثبتت فشل البعض في الابتعاد عن الإنترنت لفترات طويلة، حيث من المرجح إصابتهم ببعض الأمراض التي تندرج في معظمها تحت باب “الوسوسة” ومنها: مرض الـ “Phantom ringing syndrome“، وبالعربية “الرنين الوهمي”، حيث يشعر المستخدم بأن هاتفه النقال يرن ويسمع الصوت بوضوح إلا أنه لا يوجد اتصال في الواقع، أو حتى يشعر بارتجاج الجوال في جيبه، وهي حالة مرضية ناتجة عن ربط جميع علاقاتنا في المجتمع بهذا الجهاز الذي يصيب بالقلق، كذلك مرض الـ”Nomophobia“، وبالعربية: “أين هاتفي؟”، حيث يشعر أنه لا يجد جواله دائمًا، ويبقى في حالة من القلق الدائم من ضياع جواله أو حتى فقدان الإشارة أو انتهاء شحن البطارية، وأخيرًا، مرض “Cybersickness“، بالعربية “دوار رقمي”، حيث يصاب المستخدم بحالة من الدوار الشديد والصداع في حال التوقف عن متابعة الجوال والإنترنت.
آثار اجتماعية ونفسية خطيرة جراء الإفراط في استخدام الإنترنت
الاضطراب والعزلة.. حصاد انقطاع الإنترنت
وبسؤالها عن موقف الأبحاث والدراسات النفسية حيال الأعراض السلوكية التي ظهرت على الحالتين سالفتي الذكر جراء قطع الإنترنت ليوم واحد فقط، وما تخللها من شجار واعتداء جسدي وزيادة معدلات التدخين وتناول المكيفات، فضلاً عن تفضيل العزلة والوحدة على المشاركة والتفاعل الاجتماعي، أشارت الدكتورة إيمان جابر استشاري الطب النفسي، إلى أن هذه الأعراض طبيعية جدًا حال وصول الحالتين إلى درجة الإدمان والاستخدام المفرط للإنترنت.
جابر في تصريحاتها لـ”نون بوست” أكدت أن مدمني الإنترنت لا يستطيعون التوقف عنه مطلقًا، مهما كانت الأسباب، حيث إنه – أي الإنترنت – الشيء الوحيد الذي يسعدهم، ويضفي عليهم راحة واستقرار واتزان نفسي، أما ما سواه من أي أمور أخرى لا تحقق لهم ما يريدون، لذا تراهم مضطربين حين يتركون الحاسوب أو الهاتف ولو لدقائق، ملفتة أنهم من الممكن أن يتركوا الطعام والشراب والنوم لكن من الصعب أن يتخلوا عن الإنترنت.
وأضافت استشاري الطب النفسي تعليقًا على اعتداء إحدى الحالتين السابقتين على ابنها، بأن غياب المقوم الأول والأساسي لإحساسها بالاتزان النفسي والثقة بالذات، خاصة وأن لها جمهورها بصفتها شاعرة، أصابها باضطراب نفسي شديد، أفقدها القدرة على التماسك، ما دفعها للتعبير عن زيادة إفرازات الهرمون العصبي لديها في صورة اعتداء جسدي أو لفظي على أي من المقربين منها.
ما الحل؟
حذرت الدكتورة إيمان جابر من الاستمرار في معدلات الاستخدام المفرط السيء للإنترنت، مشيرة أن المعدلات لو استمرت على ما هي عليه، ربما يتحول المستخدم إلى كائن منعزل تمامًا عن الحياة المحيطة به، فضلاً عن احتمالية إصابته بالعديد من الأمراض الفتاكة التي قد تدفع به إلى الموت حال فقدانه للإنترنت، وهو ما حدث بالفعل أكثر من مرة، إحداها في كوريا الجنوبية عام 2002، حيث لقى شاب في الرابعة والعشرين مصرعه، بعد أن قضى 86 ساعة متواصلة وهو يلعب على جهاز الكمبيوتر في أحد مقاهي الإنترنت، وبعد فحوصات أجريت عليه بعد وفاته تبين أن سبب الوفاة إنهاك بدني واستنزاف عصبي بسبب جلوسه أمام جهاز الكمبيوتر فترة طويلة دون نوم.
وأضافت أن هذه الحالات لا بد وأن تخضع لجلسات علاج نفسي مكثفة، يسعون من خلالها إلى العمل على محفزات الابتعاد عن الإنترنت قدر المستطاع حتى يتحول إلى كائن طبيعي له حياته اليومية العادية.
يلاحظ أنه في غياب الإنترنت يصاب المستخدم بألم شديد وعصبية وتوتر ملحوظ، إضافة إلى تقلب المزاج العام لديه، مما يترتب عليه خلافات مستمرة مع العائلة والأصدقاء والمقربين، والابتعاد عنهم، وتفضيل العزلة والوحدة، مما قد يدخله في نوبة من الإحباط والاكتئاب
وتابعت أولى جلسات العلاج لا بد وأن تتعلق بـ”تزويد الحالات بدافعية البعد”، من خلال العزف على وتر الآثار الناجمة عن كثرة الاستخدام وما إلى غير ذلك من الأساليب التي تدفع الحالة إلى التخلي تدريجيًا عن تعلقه بالحاسوب أو الهاتف النقال، ثم تأتي جلسات “كيفية تقليل الاعتماد على الإنترنت”، حيث يتم طرح العديد من البدائل التي تعوض الحالات جزئيًا عن الإنترنت، ليبدأ خطوة تلو الأخرى في الابتعاد.
وآخر هذه الجلسات تتعلق بـ” الاستمرارية” حيث تعمل على كيفية استمرارية الحالة في الابتعاد عن الإنترنت من خلال العاملين السابقين، المحفزات وتقليل الاعتماد، والحيلولة دون العودة والرجوع مرة أخرى، حتى تعود إلى طبيعتها مرة أخرى، دون أن تترك وراءها أي من الآثار النفسية الضارة.
ويبقى السؤال: ماذا لو ألغي الإنترنت من حياتنا لأي سبب ما؟ هل يتحول الملايين إلى نزلاء داخل المستشفيات والمراكز النفسية والعصبية أم تبقى التوعية بالاستخدام الأمثل غير الضار، وتوحيد جميع الجهود لتطويق هذه الظاهرة لها الكلمة العليا في نهاية المطاف؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام والسنوات القادمة في ظل المستجدات التي من المتوقع أن تطرأ على منظومة التكنولوجيا المستخدمة.